أثينا... حيث البحر يعني مأكولات تقليدية ومقاهي تضجّ بالموسيقى والحياة

أي سرٍّ تختزنه هذه الحاضرة التي مرّت عليها كل الأزمنة وما زالت تنضح بعطر الحضارة التي نهلت من جذور الشرق لترتوي منها عروق الفكر الغربي منذ نشأته الأولى؟ وأي سحرٍ يرقد في ثنايا الغلائل التي نحتها المعلّم فيدياس فوق مرمر الحواري الإغريقية الخالدة؟
شعورٌ هو أقرب إلى قشعريرة الحبّ الأوّل عند كل عودة إلى أثينا. يتجدّد مع كثافة النسائم البنفسجية التي ترطّب سماء المدينة، طالعة من سكون البحر المضيء نحو الهضاب التي تربض فوقها معابد حاضر في أروقتها آباء الفلسفة والشعر والتاريخ.
ثمّة حنين إلى الماضي لا يقاوَم في هذه المدينة التي يتضاعف سحرها كلّما توغّلت في أحيائها القديمة وتسكّعت في شوارعها الضيّقة الهادئة على أبواب الساحات التي كانت منها كل البدايات.
استرِح في يوم وصولك إلى أثينا، واقرأ بعضاً من تاريخها استعداداً لخطواتك الأولى على درب الجمال والنور. ولتكن البداية من شارع «تراسيلو» الذي يفضي إلى مسرح «ديونيسوس»، حيث ما زالت المقاعد الحجرية تشهد على فصول العشق والحرّية التي تعاقبت على ذلك المكان المهيب. ومن هنا صعوداً، ببطء، إلى صخرة معبد الأكروبوليس الذي كان المركز الديني الرئيسي في المدينة طوال قرون. وضع تصميمه بيريكليس، الخطيب المفوّه والقائد السياسي الذي أراد أن يمحو به مهانة نهب المدينة على أيدي الفرس الذين غزوها في مطالع القرن الخامس قبل الميلاد، واستدعى كبار المهندسين والفنّانين الذين تركوا لنا على تلك الهضبة واحدة من أجمل الروائع المعمارية في التاريخ.
زيارة الأكروبوليس لا بد أن تعقبها أخرى لمتحفه الحديث الذي يرتفع بناؤه الزجاجي فوق عشرات الأعمدة وتصطفّ في أجنحته مئات التماثيل والقطع الفريدة التي تشهد على عظمة هذا المبنى والدور الهام الذي لعبه في حياة المدينة إبّان عصرها الذهبي.
نترك مائدة التاريخ لفترة ونتّجه إلى موائد الطعام التي يقيم لها أهل أثينا وزناً لا يقلّ عن وزن الأمجاد الغابرة. نغادر صخرة الأكروبوليس عن طريق حي «آنافيوتيكا» الذي يقع عند سفحها الغربي وكأنه قرية صغيرة طالعة من الجزر البعيدة، نعبر أزقته الضيّقة والمتعرّجة بين البيوت الصغيرة المتواضعة، وصولاً إلى حي «بلاكا» الذي تدور فيه حياة الصخب والمناسبات الاجتماعية بلا انقطاع. حوانيت تعرض مبتكرات فنّية حديثة وحرفيّات وهدايا تذكارية، ومطاعم تقليدية تتعالى منها أنغام الموسيقى اليونانية التي غالباً ما تدور حولها حلقات الرقص حتى طلوع الفجر. لكن «بلاكا» هي أيضاً «آغورا» الإغريقية والرومانية، أي الميدان العام الذي كانت تقوم فيه الأسواق الشعبية في البداية ثم تحوّل إلى مركز الحياة السياسية في المدينة. على ناصية الميدان الروماني يرتفع «برج الرياح» الذي يعود للقرن الأوّل قبل الميلاد، وهو كناية عن ساعة فلكيّة مثمّنة الأضلاع ترمز إلى الرياح الثماني التي كان الملّاحون يعتقدون بوجودها يومذاك. على الناصية المقابلة يقع مسجد فتحيّة الذي يعود بناؤه إلى بداية الوجود العثماني في أثينا عام 1458، وعلى مقربة منه مكتبة «آدريانو» الشهيرة التي تعود لمطلع القرن الثاني بعد الميلاد.
من الميدان الروماني العام ننتقل إلى الميدان اليوناني الذي ما زالت تشهد الآثار فيه على بقايا المباني الإدارية والمعابد والمحاكم والمنابر العامة حيث كان أهل أثينا يتجادلون في السياسة ويتناقشون في المنطق والفلسفة والعلوم.
حي «موناستيراكي» الصاخب هو محطتنا التالية التي تتمازج فيها الأعراق والألوان واللغات، ويختلط الشرق بالغرب في بوتقة فريدة تتداخل فيه الفوضى بالنظام والمرح بالكآبة المتأصلة في نفوس أهل أثينا على مرأى من معبد «إيفيستو» الذي يعود للقرن الرابع قبل الميلاد. هنا، مع هبوط الليل تصدح أغاني موسيقى «ريبيتيكا» التي حملها معهم اليونانيون الذين طُردوا من تركيا في عشرينات القرن الماضي، يحكون فيها هموم الحياة وشجون الحب والبعد عن المرابع الأولى.
نبدأ يومنا الثاني في العاصمة اليونانية من جادة «بانيبيستيميو» التي تربط بين الميدانَيْن الرئيسيين في المدينة: «أومونيا» و«سينتاغما»، وتقوم فيها المباني الثلاثة التي تدور حولها التربية الكلاسيكية التي أهداها الإغريق للغرب: المكتبة والجامعة والأكاديمية. إلى جانبها يقع متحف النقود المعدنية في أحد أجمل مباني المدينة الذي كان مقرّ إقامة عالم الآثار الشهير «شليمان» الذي قاد الحفريّات التي أدّت إلى نبش مدينة طروادة.
عند طرف ميدان «سينتاغما» يقوم القصر الملكي القديم الذي أصبح اليوم مبنى البرلمان الذي يدور على مدخله يوميّاً عرضٌ فريد من نوعه يجذب أعداداً غفيرة من السيّاح والفضوليين: تبديل رجال الحرس الذين يخضع اختيارهم لشروط جسديّة ونفسيّة قاسية ويرتدون زيّاً لافتاً يختالون فيه ببطء شديد أمام الناظرين.
وإذا صادفت زيارتك في يوم ممطر أو شديد الحرّ، لك بالاتجاه نحو شارع «فاسيليسيس صوفيّاس» الذي يضمّ عدداً من المتاحف الجميلة مثل المتحف الخاص لعائلة «بيناكيس» الذي يعرض مجموعة فريدة من الحلي والأزياء والحرفيّات التقليدية، أو متحف الفن البيزنطي المشهور عالميّاً والمحاط بعدد من القصور والمباني الأرستقراطية.
تميل الشمس إلى المغيب الذي ينسدل على المدينة خِماراً من السحر والهدوء، ويقترب موعد العشاء الذي يطيب في مطاعم حي «كولوناكي» الأنيق، قبل التوجّه نحو البحر الذي لا يُستحسن الابتعاد عنه أينما كنت في هذه البلاد.
اليونان هي امتداد لبحرها الأزرق الذي منه تاريخها وهويّتها ومصير أبنائها منذ آلاف السنين، والبحر في أثينا شوارع جميلة ومأكولات تقليدية وحانات تضجّ بالموسيقى والحياة، وميناء مزدحم بالسفن التي قامت على أساطيلها الأمجاد الاقتصادية لعائلات مشهورة مثل أوناسيس، أو نياركوس التي أهدت المدينة مؤخراً أهمّ معالمها الثقافية الحديثة في المؤسسة التي تحمل اسم عميدها ستافروس وتضمّ مكتبة وطنية وداراً للأوبرا من تصميم المهندس الإيطالي المعروف «رنزو بيانو». والبحر هنا أيضاً دعوة ملّحة إلى الجزر العائمات فوق هذا الأزرق الذي لا نهاية لجماله وأساطيره. أقربها من أثينا هي جزيرة «إيدرا» التي يكفي يوم واحد لزيارتها والتمتع بالهدوء الذي تنعم به لكونها محظورة على دخول السيّارات والدراجات الناريّة.