إعادة إنتاج أخرى للنص الإبداعي

لطفية الدليمي في «مملكة الروائيين العظام»

إعادة إنتاج أخرى للنص الإبداعي
TT

إعادة إنتاج أخرى للنص الإبداعي

إعادة إنتاج أخرى للنص الإبداعي

القراءة المنتجة هي مدخل للإجابة على الكثير من الأسئلة التي تشغل تفكير القارئ، كونها تسهم في بناء وعي القارئ بطريق متقدمة، بسبب ما تحققه من تراكم معرفي يسهل عملية معرفة الذات والآخر، وهذا ما نجده قد تحقق في كتاب «مملكة الروائيين العظام» للروائية لطفية الدليمي. وهو يأتي بعد مسيرة إبداعية للكاتبة تكللت بأكثر من 50 مؤلفاً بين قصة ورواية وترجمة ودراسة. إنها تقرأ نتاجات الروائيين العظام نيكوس كازنتزاكي، وهيرمان هيسه، وغابرييل غارسيا ماركيز، لتجعل المتلقي يتحسس جمال إبداعهم، أو ليشاركها متعة الإحساس بالجمال، حسب ما يقوله جان جويو: «عندما أرى الجمال أتمنى أن أكون اثنين: آخر يشاركني متعة الجمال وبهاءه».
تعيد الدليمي في كتابها هذا الغوص في الأعمال الإبداعية لأعمال هؤلاء الأساطين بمناجيات تلتقط منها المأثور والحكمة والقول الخالد، لتؤسس إعادة إنتاج أخرى للنص الإبداعي، فـ«النص آلة كسولة يجب أن تستعيد نشاطها بفعل القارئ»، كما يرى أمبرتو إيكو، لكن كيف تتم عملية استعادة نشاط النص هذه؟ وكيف يترقى القارئ من مجرد متلقٍ يخضع لتأثير النص إلى قارئ فاعل يشارك في إعادة إنتاج النص؟
تعيد لطفية الدليمي إعادة الاعتبار للقراءة الفاعلة أو المنتجة من خلال إعلاء سلطة القارئ، والقراءة التي أطلقها المنهج التفكيكيَّ، وانحسار سلطة النص الأدبي لتؤكد فاعليَّة القراءة، ومستوياتها.
وقد اختارت من الأعمال الإبداعية لهؤلاء الكتاب ما يقارب انشغالاتها، وما يمس حياتها، ويتصل بالتحولات التي تجري في عالمها الواسع، تقول: «وكما كافحت بأقصى ما أستطيعه مهتدية بكفاح المعلم الكريتي العظيم كازانتزاكي في الزهد، ومواصلة العمل في أسوأ الظروف، ساندني المعلم الروحاني الكبير هيرمان هيسه في مناجياتي معه لأستنير بوهجات الحكمة المشرقية ورهافة الروحانية الآسيوية وقوتها والاسترشاد بعظمة النور لا بضباب الفكر المتجهم، وجدت فيه صنوي الذي يخاطب الطبيعة، ويتعلم منها أسرار الديمومة والتجدد».
تقيم الروائية الدليمي حوارات افتراضية مع هؤلاء الروائيين، وهذه الحوارات تفترض معرفة مسبقة بأعمالهم التي أثارت في قراءتها الأولى سيلاً من الأسئلة، والتي بدورها وجدت أجوبتها في ثنايا نصوصهم، وهي بذلك تعلن عن قراءة محكمة ودقيقة لأعمالهم، فتبحر بها وكأنها تخلق نصوصاً جديدة، إنها القراءة الناقدة التي تسهم في تكوين رؤية جديدة قادرة على الإفصاح عن أحاسيس القارئ، بل وإيقاع عالمه الذي يعيشه، فالقارئ مطالب من خلال التفاعل مع النَّص الإبداعي أن يعالج «الارتباكات» في هذا النص، باعتبار أن القراءة هي حوار بين القارئ والنَّص، وبذلك يسهم في إعادة إنتاج النص الجديد.
إنها تقرأ مذكرات نيكوس كازنتزاكيس «تقرير إلى غريكو»، لتدلنا على موضوعات روايته وشخصياتها: «الإخوة الأعداء»، و«زوربا»، لنكتشف سحر المعالجة التي اعتمدت تفاصيل سيرته، التي تحولت إلى أعمال عظيمة. وتستعير من هيرمان هيسه بعض القدرات السحرية التي طالما اختزن أسرارها من مخطوطات جده، وتعاطى معها في أوقات مختلفة عندما كان الواقع يحاصر روحه المرهفة. فالساحر - هكذا تسمي هيرمان هيسه - «كان دوماً يود الاختفاء ليكون في كل مكان»، وهو يعترف في صورته الوصفية عن طفولته بأن أعظم أمنياته كانت امتلاك قدرات خارقة تمكنه من الاختفاء عن العيون.
وفي حوار متخيل آخر، مع رائد الواقعية السحرية ماركيز، تكتب: «لم يعرف القرن العشرون صانع أعاجيب يضاهيك أيها الساحر ماركيز، فقد مازجت بين موروث الشرق والغرب، وابتدعت وصفة جديدة للواقعية السحرية تخطت سحرية خوان رولفو الذي يعد المؤسس الأول لها في روايته الفذة: (بيدرو بارامو)».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.