إسقاط جنسيات {الإرهابيين العائدين»

إنهاء للتهديد أم دفع نحو «القتال الفردي»؟

عناصر «داعش» في سوريا
عناصر «داعش» في سوريا
TT

إسقاط جنسيات {الإرهابيين العائدين»

عناصر «داعش» في سوريا
عناصر «داعش» في سوريا

فيما عده مراقبون اتجاهاً مستقبلياً للتصدي لخطر «العائدين» من دول الصراعات، تقوم دول أوروبية بتحركات لسحب الجنسية عن «الإرهابيين» مزدوجي الجنسية. هذه الدول ترى أن هذه الخطوات فعالة لإنهاء تهديدات المقاتلين «العائدين»، إلا أن خبراء أمنيين ومختصين في الحركات الأصولية أكدوا أن «سحب الجنسية من (الإرهابيين) ليس عقاباً، بل هو وسيلة لتصدير أزمات جديدة»، موضحين أن «سحب الجنسية من الإرهابي يدفعه ليتحول إلى (ذئب منفرد)... والحل الأكثر نفعاً دمجه في المجتمع».

يُشار إلى أن الهزائم الكبيرة التي مُني بها تنظيم «داعش» الإرهابي في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية، فرضت ضغوطاً قوية على هؤلاء «المقاتلين»، خصوصاً في ظل إجراءات أمنية مشددة اتخذتها دولهم الأصلية، بهدف منع عودتهم مرة أخرى إليها، على نحو يُمكن أن يهدد استقرارها الأمني، ويزيد من احتمالات تنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها. وبالفعل خطت بعض الدول خطوات لسحب الجنسية من «العائدين». فبلجيكا قررت سحب الجنسية من أي شخص يصدر ضده حكم بالسجن لمدة تزيد على 5 سنوات في أي قضية متعلقة بالإرهاب. وفرنسا اقترحت سحب جواز السفر من الأشخاص المرتبطين بتنظيمات إرهابية، مع ترحيلهم من أراضيها. وأقرّت كل من ألمانيا، وأستراليا، وبلجيكا، وكندا، وهولندا، وسويسرا، سلسلةً من الإجراءات والقوانين تفتح الباب أمام سحب جنسية رعاياها المنضمين إلى تنظيمات إرهابية، لقطع الطريق أمام عودتهم إلى بلادهم. أما هولندا فقد نزعت بالفعل جنسيتها عن 7 أشخاص في عام 2017. وبريطانيا ألغت جنسية 150 شخصاً منذ عام 2010.

خطر كبير

اللواء الدكتور محمد قشقوش، المحلل العسكري والاستراتيجي، أستاذ الأمن القومي الزائر بأكاديمية ناصر العسكرية العليا في مصر، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن سحب الجنسية من الإرهابي يدفعه ليتحول إلى «ذئب منفرد»... صحيح أن المتطرف ترك بلده، وأخذ موقفاً آخر بالانضمام لأحد التنظيمات، لكن عند عودته وسحب الجنسية، من المرجح أن يقوم بعمليات إرهابية بمفرده من دون أي تكليفات من أي تنظيم، وهذا هو الأخطر، لأن دولته الأم في هذا الوقت ستكون من وجهة نظره عدواً له، لافتاً إلى أن «سحب الجنسية من العائد للوطن الأم تصدير للأزمة إلى جهة أخرى، مثل القضاء».
وتحفّظ عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أيضاً، على إجراءات بعض الدول بسحب الجنسية من «الإرهابيين»، مؤكداً أن سحبها ليس حلاً، وأمراً غير مؤثر، لأن «المتشدد» بعيد كل البعد عن فكرة الإيمان بأمر الجنسية أو الوطن، فهو مؤمن بـ«الأمة»، و«الخلافة»، و«المرجعية الدينية» لكل شيء، ومن ثم «سوف تجد أن فكرة سحب الجنسية ليست عقاباً له، بل هي تكئة يحفظ بها وجوده في أي مكان بالدول الغربية، عبر استغلاله لقوانين هذه الدول، التي تحترم الجنسية».
وقال عبد المنعم لـ«الشرق الأوسط» إن سحب الجنسية من الإرهابي ليس عقاباً له، بل وسيلة لتصدير أزمة من قبل «الإرهابيين» لدول أخرى، النرويج مثلاً سلمها العراق 12 «إرهابياً» وتدرس الآن إسقاط الجنسية عنهم، مضيفاً أن الإرهابي سوف يتحول لـ«ذئب منفرد» ويفكّر في القيام بعملية إرهابية قد تُحدث فوضى، لذلك فـ«الجهاد الفردي» أخطر من المواجهات الجماعية... وتنظيم «داعش» وصل الآن إلى مرحلة قتال «العملية الجهادية الواحدة» عن طريق «ذئب منفرد»، وقتال «العملية الواحدة» إما يكون عبر تعليمات مباشرة لعناصر التنظيم بالتنفيذ، أو عبر تعليمات غير مباشرة بأن يقوم بها «الانفرادي» عندما تكون الظروف متاحة له في الدولة التي يقيم بها، أو من خلال التجنيد اللحظي، عبر ترصُّد شخص مُعين وإقناعه بأفكار التنظيم ليقوم بتنفيذ عملية إرهابية.

خلايا نائمة

الكلام السابق اتفَقَ مع دراسة حديثة لمركز «المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة» في أبوظبي، أكدت أن «قوى اليمين في أوروبا أيدت سحب الجنسية من (الإرهابيين)، لا سيما بعد تصاعد عدد (الإرهابيين) من مزدوجي الجنسية، الذين كثيراً ما يتم استقطابهم من جانب المجموعات الإرهابية، وإقناعهم بالعودة إلى دولهم الأصلية بهدف زرعهم كـ«خلايا نائمة» قد تقوم بعمليات إرهابية مستقبلية... ومن ثم يؤكد البعض أن «هذه القرارات لا تمس سوى المقاتلين الأجانب مزدوجي الجنسية، لدفعهم إلى الرحيل لبلدانهم الأصلية».
المراقبون قالوا إنه حال تضييق الغرب على عناصر «داعش» سوف تنحصر مهمتهم في تجنيد عناصر جديدة... وقد يظن البعض أن رجوع عناصر التنظيم لدولهم قد يُثنيهم عن تطرف أفكارهم وإعلان التوبة، لكنهم للأسف يتسللون ويتخفّون لإيجاد مناخ يناسب تكتيكهم العسكري المتطرف.
فـ«العائدون» مصطلح شهد تغيّراً كبيراً بعد هزيمة «داعش» في سوريا والعراق، فقد كان يُطلق في البداية (قبل هزيمة التنظيم) على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته ثم سرعان ما اكتشفوا (بعد انضمامهم إليه أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافاً جذرياً عما يروجه التنظيم، لذا قرروا تركه والعودة إلى بلادهم). وبعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق أصبح المُصطلح يحمل معنى مغايراً تماماً؛ إذ لا يُمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء «العائدون» لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟ وقد أعربت كثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء «المقاتلين العائدين».
وقال المراقبون إن «بعض هؤلاء المقاتلين كانوا يتولون مهام رئيسية داخل تنظيم (داعش) لقدراتهم القتالية والتنظيمية الكبيرة، خصوصاً في العمليات الانتحارية، أو الانغماسية، التي يكون الهدف منها الإيقاع بأكبر عدد من الخسائر البشرية».
دراسة «مركز المستقبل» قالت إن اليسار الأوروبي عارَض إجراءات التجريد من الجنسية، انطلاقاً من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد الحق في امتلاك الجنسية، فضلاً عن اتفاقية صادرة عن الأمم المتحدة عام 1961 حظرت سحب الجنسية في الحالات التي يؤدي فيها سحبها إلى ترك الشخص بلا هوية.
وتساءلت الدراسة نفسها: هل تساعد إجراءات التجريد من الجنسية في تحجيم الإرهاب بأوروبا؟! وأجابت: «هُنا تبرز أطروحات تؤكد أن إجراءات نزع الجنسية عن (الإرهابيين) تمثل خطراً على الأمن العالمي، حيث سيبقون طُلقاء بعيدين عن مراقبة الأمن المحلي، كما أن الآراء التي تطالب بنزع الجنسية عن المواطنين الأوروبيين (الإرهابيين) تعني أن يتم إرسال التهديدات لدولة أخرى».

المناطق الفارغة

عبد المنعم حذّر من أنه حال سحب الجنسية من الإرهابي، فسوف يذهب إلى «المناطق الفارغة»، خصوصاً في صحراء دول أفريقيا، وسوف يتعامل مع الموقف بطريقة مختلفة، فـ«العائدون» من «داعش» كارثة تهدد الدول، والإحصائيات تقول إننا أمام 40 ألف مقاتل بعائلاتهم (زوجاتهم وأطفالهم) من دول أوروبا، و«داعش» أعلن من قبل أن «القتال والمعارك ستكون في عقر داركم»... ويتوعّد «داعش» الغربيين دائماً بهجمات «تنسيهم» (على حد زعمه) هجمات نيويورك في 11 سبتمبر (أيلول) من عام 2001.
وعن أفضل الحلول لمواجهة «العائدين»، أوضح اللواء قشقوش، أن علاج أزمة «العائدين» بالذوبان في المجتمع، وهذا الكلام ليس سهلاً، لأن معظم «العائدين» من الجيلين الثاني والثالث من الأفارقة والعرب، وهم ليسوا أوروبيي الأصل، فأوروبيو الأصل نسبة قليلة جداً، قد يكونون قد دخلوا الإسلام حديثاً، لافتاً إلى أن «بعض المجتمعات مُضطرة لأن تستوعب (العائدين)، مثل السويد والنرويج، لكن في فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، الأمر مختلفاً»، مضيفاً: «لا بد من الاستيعاب المجتمعي لـ(العائدين)، وتعديل الفكر السلوكي الإنساني لهم، مشيراً إلى أن (المهاجرين) أيضاً يمثلون إشكالية للدول مثل (العائدين)».
أما عمرو عبد المنعم، فقد فنّد الخيارات المطروحة لمواجهة «المقاتلين العائدين»، إما بالدمج في المجتمع، أو العقاب بالسجن على ما ارتكبوه بهروبهم من دولهم والانضمام لتنظيمات إرهابية وتنفيذ عمليات قتل، أو بالمراقبة، أو بردّهم بالكلية وطردهم وعدم الاعتراف بهم... وفي تصوري أن «الدول لا بد أن تستخدم أياً من تلك الخيارات».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.