معاناة مزدوجة لألمانيا بين تطرف يميني وتشدد أصولي

رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه  بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)
رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)
TT

معاناة مزدوجة لألمانيا بين تطرف يميني وتشدد أصولي

رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه  بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)
رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)

هل هو قدر مقدور في زمن منظور أن تعاني ألمانيا من تطرفين مزدوجين في الوقت ذاته: تطرف يميني يكاد يضحي سلاح دمار شامل ضد أوروبا بأكملها وليس ألمانيا فقط من جهة... وتيارات أصولية ذات صبغة إسلاموية تسعى لاختراق مؤسسات البلاد الكبرى كافة؟
قبل الجواب، ربما ينبغي الإشارة إلى أن إشكالية العنصرية لم تغب عن سماوات ألمانيا، دائماً وأبداً؛ جرى ذلك قبل ثمانية عقود وأزيد، حين تسربت الأفكار النازية إلى الداخل الألماني، وقد رأى البعض أنها ضرب من ضروب القصاص التاريخي الذي حاول أن ينتقم من الإذلال الذي تعرضت لها ألمانيا، والاتفاقيات المجحفة التي فرضت عليها بعد الحرب العالمية الأولى، وكان ما كان من شأن صعود وارتقاء تلك النازية، من حرب عالمية لم تبقِ أوروبياً أو عالمياً على الزرع أو الضرع، وفاق ضحاياها أكثر من سبعين مليون نسمة.
وتاليا، بدا وكأن هناك نوعاً جديداً من أنواع العنصرية في الداخل الألماني، نوع ظهر محدده الرئيسي في التعاطي مع الأجانب، هؤلاء الذين بدأوا في التوافد إلى الأراضي الألمانية مع خمسينات وستينات القرن العشرين، وقيض لهم أن ينشئوا مجتمعات ذات طبيعة عرقية ودينية، وقد كان جلهم من تركيا وبعض دول شمال غربي أفريقيا، وقد بدأوا في الشعور بأن الألمان لا يبادلونهم المودة، لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، جراء ما حدث من انهيارات بنكية في الولايات المتحدة الأميركية.
على أنه من المؤكد أن قضية اللاجئين الذين ألقت بهم تطورات الأحداث في الشرق الأوسط بعد سنوات ما عرف زيفاً باسم الربيع العربي، قد أفرزت حالة مغايرة من العنصرية غير المسبوقة في الداخل الألماني، وأعطت مفاتيح العمل غير الخلاق لجماعات التطرف الألماني المختلفة أسماؤها وأعضاؤها، مثل «بغيدا» ومن لف لفها، وبدا وكأن ألمانيا أمام قصة مغايرة من قصص العنصرية التي تواجهها أصولية؛ وكلاهما لن يضيف إلى ألمانيا إلا المزيد من الانهيار الإنساني والمخاوف الأمنية.
والشاهد أن ذلك التيار اليميني العنصري قد ارتفع مده وحده إلى درجة غير مسبوقة أظهرتها استطلاعات رأي معاصرة. فعلى سبيل المثال، أشار استطلاع للرأي أجرته جامعة «لاينبرغ» الألمانية إلى أن ثلث الألمان يؤيدون شعارات الرفض للأجانب واللاجئين، وارتفعت هذه النسبة إلى النصف في شرق ألمانيا. أما ردود الاستفتاء، فقد بينت أن ظاهرة الرهاب من الأجانب (الإكزنوفوبيا) قد انتشرت منذ سنوات، وأن نسبة عالية من الألمان تطالب بفرض الدور الريادي الثقافي لألمانيا ذات الصبغة والهوية المسيحية، بالقوة لو أمكن. كما بيّن استطلاع الرأي أن 50 في المائة من الألمان يشعرون بأن بلادهم تزدحم بالأجانب، وبأنهم يخشون على المجتمع الألماني من تفكك نسيجه الاجتماعي.
تبدو ألمانيا اليوم قلقة مضطربة جراء ما يحدث فيها، سواء داخل مؤسساتها المدنية أو ما هو موصول بقواتها المسلحة، الأمر الذي أضحى يسبب لها إزعاجاً كبيراً. فعلي سبيل المثال، وفي أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، كان اليمين الألماني المتطرف يشكل مجموعات للدفاع الذاتي في مدينة بولاية بافاريا، مجموعات تتخذ من أخطار المهاجرين ومشاكلهم تكأة لإعادة بلورة جماعات لها ميول نازية عنصرية، وقد نشروا صوراً لها على «فيسبوك»، ظهر فيها عدد من أعضاء تلك المجموعات من الحزب الوطني الديمقراطي اليميني المتطرف يرتدون سترات حمراء واقية عليها شعار الحزب، وبدأت هذه المجموعات في تسيير دوريات في الأماكن التي وقعت فيها الاعتداءات قبل احتفالات رأس السنة... ماذا يعني ذلك؟
باختصار غير مخل، نحن أمام حالة توسع وانتشار لمريدي حزب «البديل من أجل ألمانيا» و«الحزب الوطني الديمقراطي الألماني»، لا سيما أنهما يقدمان أنفسهم وتابعيهم بوصفهم مجموعات الدفاع الذاتي التي تحافظ على الأمن والأمان، في حين أنهما يعززان من حالة التطرف وصعود الأصولية في داخل البلاد.
والثابت أن اليمين الألماني لم يعد خطراً فيما يتصل بوقائع الصدامات داخل المدن الألمانية فحسب، بل بات أثره وتجاذباته واقع حال فيما يخص علاقة ألمانيا أولاً بالاتحاد الأوروبي، وتكاد فعالياته تمضي في أثر «البريكست البريطاني».
وفي يناير الماضي أيضاً، افتتح اليمين القومي الألماني مؤتمراً يهدف لتنظيم حملة لخروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي، ويتهم حزب «البديل من أجل ألمانيا» الاتحاد الأوروبي بأنه «أصبح هيكلية غير ديمقراطية، أعدها بيروقراطيون لا يتحلون بكثير من الشفافية، ولا يخضعون إلى مراقبة».
ويطالب الحزب الألماني المتشدد بإجراء إصلاحات عميقة بحلول عام 2024، أي مع انتهاء الولاية البرلمانية الأوروبية المقبلة، ويحذر من أنه في حال لم يتم ذلك «فسيكون من الضروري انسحاب ألمانيا، أو القيام بحل منسق للاتحاد الأوروبي»، وهذا السيناريو أطلق عليه اسم «ديكسيت بالألمانية»، في إشارة إلى دويتشلاند. ويرى رئيس الحزب، يورغ موتين، أن حزب «البديل من أجل ألمانيا» يريد «اتحاداً أوروبياً أفضل»، وقد هدف المؤتمر بإجمالي أحداثه إلى وضع استراتيجية استعداداً للانتخابات الأوروبية المرتقبة في أواخر مايو (أيار) المقبل.
على أن السؤال المزعج للألمان مؤخراً: «هل قدر لتلك العناصر الحزبية الألمانية المتطرفة اختراق بعض من وحدات الجيش الألماني، لتضحي المخاوف هنا وبنوع خاص أشد هولاً؟
الجواب من واقع وجهة نظر سيسيولوجية بداية يقودنا إلى القول إن القوات المسلحة الألمانية وأفرادها ليسوا استثناء من التطورات الجارية هناك بشكل مقلق للجميع، فهي في كل الأحوال مجتمع مصغر يعكس جميع الأفكار والتوجهات، وكذلك الولاءات والتجاذبات الممزقة للمجتمع الألماني، وما يدور في داخله، وقد أشارت صحف ألمانية كثيرة إلى اكتشافات أفادت بها الاستخبارات العسكرية الألمانية تؤكد وجود عناصر من اليمين الألماني المتطرف داخل وحدات للجيش الألماني.
ولعل الاهتمام الفائق بما يجري في الجيش الألماني قد تبدى قبل نحو عامين، بعد اكتشاف مؤامرات يرتب لها ضباط ألمان يميلون للأفكار النازية المحظورة، ويحاولون إلصاقها بعدد من المهاجرين من الشرق الأوسط، الأمر الذي كشفته مجلة «ديرشبيغل» الألمانية الشهيرة، بعد نشرها صوراً لجنود ألمان قاموا برسم رموز نازية على جدران بعض الوحدات السكنية في معسكرات بها جنود ألمان في ثكنة «الكيغش»، في شمال فرنسا من جهة، وأخرى في الجنوب الغربي من ألمانيا.
ومن ناحية ثانية، لم يقتصر الأمر على صور الجدران، بل تخطاها إلى وجود مسدسات وخوذات وميداليات عسكرية نازية. أما وكالة الأنباء العالمية «رويترز»، فقد نقلت عن الناطق باسم وزارة الدفاع الألمانية قوله إن المواد التي عثر عليها لم تحتوِ على رسوم للصليب المعقوف، وإن كانت قد وجدت علامات أخرى قريبة الشبه من الانتماء النازي.
أما الهول الأعظم فيما يخص التطرف الألماني المسلح، فقد أفردت مجلة «فوكوس» الألمانية أخباره في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك حين كشفت إدارة التحقيقات الجنائية الاتحادية الألمانية عن مؤامرة كانت تحضر داخل صفوف الجيش الألماني للقيام بعمليات اغتيال لشخصيات ووجوه سياسية في البلاد.
المعلومات المتاحة تشير إلى أن المخططين هم مجموعة من عسكريين في الجيش الألماني، بالإضافة إلى عسكريين في القوات الخاصة الألمانية، ومجموعات عسكرية متخصصة أخرى... ماذا كانت ملامح خطة عسكر ألمانيا من المتطرفين؟
لا تتبدى خطورة الحدث فقط من مجرد التخطيط العسكري، رغم فداحة المشهد، بل الأسوأ والأخطر معاً هو أن المجموعة اعتبرت أن الدولة الألمانية أصبحت على حافة الانهيار، وأنه لا بد من بديل يكون جاهزاً لتسلم البلاد، وقد استطاع هؤلاء جمع أسلحة مختلفة ومواد بنزين خصيصاً ليوم الانقلاب بالتحديد.
وفي المقابل... كما ينتشر التوجه الألماني المتطرف في السياقين المدني والعسكري، كذلك تجري الأحداث في البلاد من الإسلامويين في المؤسسات ذات الصبغة الأهلية، ومن دون أن يغفلوا تسريب عناصرهم في داخل صفوف الألمان أنفسهم على الجانب العسكري، مما يجعل المخاوف هائلة والخسائر مضاعفة. ويمكن للمتابع لشؤون ألمانيا أن يرصد ما يشبه الصحوة الألمانية تجاه المؤسسات الإسلاموية على الأراضي الألمانية، لا سيما تلك التي ترعاها تركيا، والمرتبطة ارتباطاً جذرياً وثيقاً بالإخوان المسلمين.
ولا يغيب عن أعين المحلل السياسي وثيق الصلة بما يحدث على الأراضي الألمانية أن هناك تاريخاً طويلاً للحضور الأصولي في ألمانيا، حضور يسبق الحرب العالمية الثانية، وقد قام الكاتب الصحافي إيان جونسون بتضمين كتابه «مسجد في ميونيخ» أبعاد ما جرى، وكيف أن النازية قد تلاعبت بالقوى الإسلاموية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمين في صراعها مع الجانب الروسي قبل عقود طوال.
وتجددت الروح الأصولية الإسلاموية في الداخل الألماني مرة جديدة بعد اكتشاف خلية هامبورغ، تلك التي كانت تقف وراء حادث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، أي هجمات نيويورك وواشنطن، بقيادة الانتحاري محمد عطا، وبلغ الأمر منتهاه مع وصول وتسرب عناصر من «داعش» وبقية الجماعات المتطرفة إلى الداخل الألماني، ضمن عشرات الآلاف من المهاجرين في الأعوام الأخيرة.
ومؤخراً، بدا وكأن أجهزة الأمن والاستخبارات الألمانية تقف بالمرصاد للمؤسسات والجمعيات الإخوانية، وإن اتخذت لها ستاراً من العمل المدني، غير أن ما لم يكن في الحسبان هو اكتشاف اختراقات لمتطرفين إسلامويين لقوات الجيش الألماني على حد سواء... ماذا عن هذا؟
وفي أوائل فبراير (شباط) الماضي، كشفت إحصائيات للاستخبارات العسكرية الألمانية عن ارتفاع حالات الاشتباه، فيما يتعلق بالتطرف الإسلاموي داخل صفوف القوات المسلحة الألمانية. ولاحقاً، كانت صحف مجموعة «فونكه» الألمانية الإعلامية تشير إلى اكتشاف وجود 3 عناصر شديدة الخطورة داخل الجيش الألماني، وقد تم اتخاذ إجراءات تأديبية بحقهم، وغالبيتهم غادروا صفوف القوات المسلحة مطرودين من الخدمة. ما الذي يريده هؤلاء بانضمامهم إلى معسكرات الجيش الألماني؟
قد يكون الجواب مثيراً وخطيراً في الوقت ذاته، ذلك أن هناك دوائر إسلاموية في ألمانيا على علاقة وثيقة بالتطرف الأصولي في العالم العربي والإسلامي، دوائر تريد لعناصرها الالتحاق بالجيش الألماني لتلقى تدريبات عالية المستوى، أولئك المعروفين باسم «المجندين على المدى القصير»، وهؤلاء عادة ما يضحون «خميرة شر» جاهزة للانتقال إلى أماكن أخرى حول العالم، لنشر شرورهم المجانية، وإشاعة إرهابهم الآثم.
ما يجري على الأراضي الألمانية، من تطرف يميني واختراق أصولي إسلاموي، أمر شديد الخطورة والوعورة، يتوجب الانتباه له عربياً وشرق أوسطياً في الحال والاستقبال.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.