معاناة مزدوجة لألمانيا بين تطرف يميني وتشدد أصولي

رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه  بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)
رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)
TT

معاناة مزدوجة لألمانيا بين تطرف يميني وتشدد أصولي

رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه  بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)
رجال شرطة ألمان أمام مسجد الرحمن في برلين بعد توقيف بعض مرتاديه بشبهة التورط في أنشطة إرهابية قبل بضع سنوات (إ.ف.ب)

هل هو قدر مقدور في زمن منظور أن تعاني ألمانيا من تطرفين مزدوجين في الوقت ذاته: تطرف يميني يكاد يضحي سلاح دمار شامل ضد أوروبا بأكملها وليس ألمانيا فقط من جهة... وتيارات أصولية ذات صبغة إسلاموية تسعى لاختراق مؤسسات البلاد الكبرى كافة؟
قبل الجواب، ربما ينبغي الإشارة إلى أن إشكالية العنصرية لم تغب عن سماوات ألمانيا، دائماً وأبداً؛ جرى ذلك قبل ثمانية عقود وأزيد، حين تسربت الأفكار النازية إلى الداخل الألماني، وقد رأى البعض أنها ضرب من ضروب القصاص التاريخي الذي حاول أن ينتقم من الإذلال الذي تعرضت لها ألمانيا، والاتفاقيات المجحفة التي فرضت عليها بعد الحرب العالمية الأولى، وكان ما كان من شأن صعود وارتقاء تلك النازية، من حرب عالمية لم تبقِ أوروبياً أو عالمياً على الزرع أو الضرع، وفاق ضحاياها أكثر من سبعين مليون نسمة.
وتاليا، بدا وكأن هناك نوعاً جديداً من أنواع العنصرية في الداخل الألماني، نوع ظهر محدده الرئيسي في التعاطي مع الأجانب، هؤلاء الذين بدأوا في التوافد إلى الأراضي الألمانية مع خمسينات وستينات القرن العشرين، وقيض لهم أن ينشئوا مجتمعات ذات طبيعة عرقية ودينية، وقد كان جلهم من تركيا وبعض دول شمال غربي أفريقيا، وقد بدأوا في الشعور بأن الألمان لا يبادلونهم المودة، لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، جراء ما حدث من انهيارات بنكية في الولايات المتحدة الأميركية.
على أنه من المؤكد أن قضية اللاجئين الذين ألقت بهم تطورات الأحداث في الشرق الأوسط بعد سنوات ما عرف زيفاً باسم الربيع العربي، قد أفرزت حالة مغايرة من العنصرية غير المسبوقة في الداخل الألماني، وأعطت مفاتيح العمل غير الخلاق لجماعات التطرف الألماني المختلفة أسماؤها وأعضاؤها، مثل «بغيدا» ومن لف لفها، وبدا وكأن ألمانيا أمام قصة مغايرة من قصص العنصرية التي تواجهها أصولية؛ وكلاهما لن يضيف إلى ألمانيا إلا المزيد من الانهيار الإنساني والمخاوف الأمنية.
والشاهد أن ذلك التيار اليميني العنصري قد ارتفع مده وحده إلى درجة غير مسبوقة أظهرتها استطلاعات رأي معاصرة. فعلى سبيل المثال، أشار استطلاع للرأي أجرته جامعة «لاينبرغ» الألمانية إلى أن ثلث الألمان يؤيدون شعارات الرفض للأجانب واللاجئين، وارتفعت هذه النسبة إلى النصف في شرق ألمانيا. أما ردود الاستفتاء، فقد بينت أن ظاهرة الرهاب من الأجانب (الإكزنوفوبيا) قد انتشرت منذ سنوات، وأن نسبة عالية من الألمان تطالب بفرض الدور الريادي الثقافي لألمانيا ذات الصبغة والهوية المسيحية، بالقوة لو أمكن. كما بيّن استطلاع الرأي أن 50 في المائة من الألمان يشعرون بأن بلادهم تزدحم بالأجانب، وبأنهم يخشون على المجتمع الألماني من تفكك نسيجه الاجتماعي.
تبدو ألمانيا اليوم قلقة مضطربة جراء ما يحدث فيها، سواء داخل مؤسساتها المدنية أو ما هو موصول بقواتها المسلحة، الأمر الذي أضحى يسبب لها إزعاجاً كبيراً. فعلي سبيل المثال، وفي أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، كان اليمين الألماني المتطرف يشكل مجموعات للدفاع الذاتي في مدينة بولاية بافاريا، مجموعات تتخذ من أخطار المهاجرين ومشاكلهم تكأة لإعادة بلورة جماعات لها ميول نازية عنصرية، وقد نشروا صوراً لها على «فيسبوك»، ظهر فيها عدد من أعضاء تلك المجموعات من الحزب الوطني الديمقراطي اليميني المتطرف يرتدون سترات حمراء واقية عليها شعار الحزب، وبدأت هذه المجموعات في تسيير دوريات في الأماكن التي وقعت فيها الاعتداءات قبل احتفالات رأس السنة... ماذا يعني ذلك؟
باختصار غير مخل، نحن أمام حالة توسع وانتشار لمريدي حزب «البديل من أجل ألمانيا» و«الحزب الوطني الديمقراطي الألماني»، لا سيما أنهما يقدمان أنفسهم وتابعيهم بوصفهم مجموعات الدفاع الذاتي التي تحافظ على الأمن والأمان، في حين أنهما يعززان من حالة التطرف وصعود الأصولية في داخل البلاد.
والثابت أن اليمين الألماني لم يعد خطراً فيما يتصل بوقائع الصدامات داخل المدن الألمانية فحسب، بل بات أثره وتجاذباته واقع حال فيما يخص علاقة ألمانيا أولاً بالاتحاد الأوروبي، وتكاد فعالياته تمضي في أثر «البريكست البريطاني».
وفي يناير الماضي أيضاً، افتتح اليمين القومي الألماني مؤتمراً يهدف لتنظيم حملة لخروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي، ويتهم حزب «البديل من أجل ألمانيا» الاتحاد الأوروبي بأنه «أصبح هيكلية غير ديمقراطية، أعدها بيروقراطيون لا يتحلون بكثير من الشفافية، ولا يخضعون إلى مراقبة».
ويطالب الحزب الألماني المتشدد بإجراء إصلاحات عميقة بحلول عام 2024، أي مع انتهاء الولاية البرلمانية الأوروبية المقبلة، ويحذر من أنه في حال لم يتم ذلك «فسيكون من الضروري انسحاب ألمانيا، أو القيام بحل منسق للاتحاد الأوروبي»، وهذا السيناريو أطلق عليه اسم «ديكسيت بالألمانية»، في إشارة إلى دويتشلاند. ويرى رئيس الحزب، يورغ موتين، أن حزب «البديل من أجل ألمانيا» يريد «اتحاداً أوروبياً أفضل»، وقد هدف المؤتمر بإجمالي أحداثه إلى وضع استراتيجية استعداداً للانتخابات الأوروبية المرتقبة في أواخر مايو (أيار) المقبل.
على أن السؤال المزعج للألمان مؤخراً: «هل قدر لتلك العناصر الحزبية الألمانية المتطرفة اختراق بعض من وحدات الجيش الألماني، لتضحي المخاوف هنا وبنوع خاص أشد هولاً؟
الجواب من واقع وجهة نظر سيسيولوجية بداية يقودنا إلى القول إن القوات المسلحة الألمانية وأفرادها ليسوا استثناء من التطورات الجارية هناك بشكل مقلق للجميع، فهي في كل الأحوال مجتمع مصغر يعكس جميع الأفكار والتوجهات، وكذلك الولاءات والتجاذبات الممزقة للمجتمع الألماني، وما يدور في داخله، وقد أشارت صحف ألمانية كثيرة إلى اكتشافات أفادت بها الاستخبارات العسكرية الألمانية تؤكد وجود عناصر من اليمين الألماني المتطرف داخل وحدات للجيش الألماني.
ولعل الاهتمام الفائق بما يجري في الجيش الألماني قد تبدى قبل نحو عامين، بعد اكتشاف مؤامرات يرتب لها ضباط ألمان يميلون للأفكار النازية المحظورة، ويحاولون إلصاقها بعدد من المهاجرين من الشرق الأوسط، الأمر الذي كشفته مجلة «ديرشبيغل» الألمانية الشهيرة، بعد نشرها صوراً لجنود ألمان قاموا برسم رموز نازية على جدران بعض الوحدات السكنية في معسكرات بها جنود ألمان في ثكنة «الكيغش»، في شمال فرنسا من جهة، وأخرى في الجنوب الغربي من ألمانيا.
ومن ناحية ثانية، لم يقتصر الأمر على صور الجدران، بل تخطاها إلى وجود مسدسات وخوذات وميداليات عسكرية نازية. أما وكالة الأنباء العالمية «رويترز»، فقد نقلت عن الناطق باسم وزارة الدفاع الألمانية قوله إن المواد التي عثر عليها لم تحتوِ على رسوم للصليب المعقوف، وإن كانت قد وجدت علامات أخرى قريبة الشبه من الانتماء النازي.
أما الهول الأعظم فيما يخص التطرف الألماني المسلح، فقد أفردت مجلة «فوكوس» الألمانية أخباره في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك حين كشفت إدارة التحقيقات الجنائية الاتحادية الألمانية عن مؤامرة كانت تحضر داخل صفوف الجيش الألماني للقيام بعمليات اغتيال لشخصيات ووجوه سياسية في البلاد.
المعلومات المتاحة تشير إلى أن المخططين هم مجموعة من عسكريين في الجيش الألماني، بالإضافة إلى عسكريين في القوات الخاصة الألمانية، ومجموعات عسكرية متخصصة أخرى... ماذا كانت ملامح خطة عسكر ألمانيا من المتطرفين؟
لا تتبدى خطورة الحدث فقط من مجرد التخطيط العسكري، رغم فداحة المشهد، بل الأسوأ والأخطر معاً هو أن المجموعة اعتبرت أن الدولة الألمانية أصبحت على حافة الانهيار، وأنه لا بد من بديل يكون جاهزاً لتسلم البلاد، وقد استطاع هؤلاء جمع أسلحة مختلفة ومواد بنزين خصيصاً ليوم الانقلاب بالتحديد.
وفي المقابل... كما ينتشر التوجه الألماني المتطرف في السياقين المدني والعسكري، كذلك تجري الأحداث في البلاد من الإسلامويين في المؤسسات ذات الصبغة الأهلية، ومن دون أن يغفلوا تسريب عناصرهم في داخل صفوف الألمان أنفسهم على الجانب العسكري، مما يجعل المخاوف هائلة والخسائر مضاعفة. ويمكن للمتابع لشؤون ألمانيا أن يرصد ما يشبه الصحوة الألمانية تجاه المؤسسات الإسلاموية على الأراضي الألمانية، لا سيما تلك التي ترعاها تركيا، والمرتبطة ارتباطاً جذرياً وثيقاً بالإخوان المسلمين.
ولا يغيب عن أعين المحلل السياسي وثيق الصلة بما يحدث على الأراضي الألمانية أن هناك تاريخاً طويلاً للحضور الأصولي في ألمانيا، حضور يسبق الحرب العالمية الثانية، وقد قام الكاتب الصحافي إيان جونسون بتضمين كتابه «مسجد في ميونيخ» أبعاد ما جرى، وكيف أن النازية قد تلاعبت بالقوى الإسلاموية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمين في صراعها مع الجانب الروسي قبل عقود طوال.
وتجددت الروح الأصولية الإسلاموية في الداخل الألماني مرة جديدة بعد اكتشاف خلية هامبورغ، تلك التي كانت تقف وراء حادث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، أي هجمات نيويورك وواشنطن، بقيادة الانتحاري محمد عطا، وبلغ الأمر منتهاه مع وصول وتسرب عناصر من «داعش» وبقية الجماعات المتطرفة إلى الداخل الألماني، ضمن عشرات الآلاف من المهاجرين في الأعوام الأخيرة.
ومؤخراً، بدا وكأن أجهزة الأمن والاستخبارات الألمانية تقف بالمرصاد للمؤسسات والجمعيات الإخوانية، وإن اتخذت لها ستاراً من العمل المدني، غير أن ما لم يكن في الحسبان هو اكتشاف اختراقات لمتطرفين إسلامويين لقوات الجيش الألماني على حد سواء... ماذا عن هذا؟
وفي أوائل فبراير (شباط) الماضي، كشفت إحصائيات للاستخبارات العسكرية الألمانية عن ارتفاع حالات الاشتباه، فيما يتعلق بالتطرف الإسلاموي داخل صفوف القوات المسلحة الألمانية. ولاحقاً، كانت صحف مجموعة «فونكه» الألمانية الإعلامية تشير إلى اكتشاف وجود 3 عناصر شديدة الخطورة داخل الجيش الألماني، وقد تم اتخاذ إجراءات تأديبية بحقهم، وغالبيتهم غادروا صفوف القوات المسلحة مطرودين من الخدمة. ما الذي يريده هؤلاء بانضمامهم إلى معسكرات الجيش الألماني؟
قد يكون الجواب مثيراً وخطيراً في الوقت ذاته، ذلك أن هناك دوائر إسلاموية في ألمانيا على علاقة وثيقة بالتطرف الأصولي في العالم العربي والإسلامي، دوائر تريد لعناصرها الالتحاق بالجيش الألماني لتلقى تدريبات عالية المستوى، أولئك المعروفين باسم «المجندين على المدى القصير»، وهؤلاء عادة ما يضحون «خميرة شر» جاهزة للانتقال إلى أماكن أخرى حول العالم، لنشر شرورهم المجانية، وإشاعة إرهابهم الآثم.
ما يجري على الأراضي الألمانية، من تطرف يميني واختراق أصولي إسلاموي، أمر شديد الخطورة والوعورة، يتوجب الانتباه له عربياً وشرق أوسطياً في الحال والاستقبال.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.