مساعي أوروبا لإنقاذ {الاتفاق النووي} بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني

بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015
بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015
TT

مساعي أوروبا لإنقاذ {الاتفاق النووي} بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني

بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015
بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015

منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب نيته الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، سعت البلدان الأوروبية الثلاثة الموقعة على الاتفاق (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) مداورة، لثنيه عن عزمه ولكن من غير نتيجة. وانتقل ترمب من القول إلى الفعل في 4 مايو (أيار) من العام الماضي وأعاد على دفعتين في مايو ونوفمبر (تشرين الثاني) فرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية على طهران. وجاء الرد الأوروبي بدروه على دفعات أولها تأكيد فرنسا وألمانيا وبريطانيا تمسكها بالاتفاق والدفاع عنه ثم إعادة تفعيل قانون أوروبي سابق لمواجهة العقوبات الأميركية العابرة للحدود. وآخر حلقات الرد الأوروبي رأت مؤخرا النور عن طريق إطلاق العمل بـ«الآلية الأوروبية» لمواجهة العقوبات المسماة «أنستكس» والتي من شأنها مبدئيا أن تمكن إيران من الاستمرار في الاستفادة من منافع الاتفاق النووي وتصدير نفطها والإبقاء على تعاملات تجارية ومالية، وباختصار الالتفاف على العقوبات الأميركية.
بيد أن الدعم الأوروبي للاتفاق والوقوف في صف طهران ليس «مجانيا» وفق ما شرحت ذلك مصادر رسمية فرنسية رفيعة المستوى لـ«الشرق الأوسط». فقد نفت بداية أن تكون أوروبا قد اعتمدت هذا النهج «لأسباب آيديولوجية» بل لأن السياسة الأميركية تجاه إيران القائمة على الضغوط والمواجهة «لا يمكن أن تنجح». وإذا كانت أوروبا قد بقيت ثابتة في دعمها للاتفاق ورفض الخروج منه كما دعتها إلى ذلك واشنطن، فلأن هدفها إبقاء إيران داخله. والرسالة الأوروبية لطهران هي كالتالي: «عليكم التنفيذ الحرفي لبنود الاتفاق وإذا ابتعدتم عنه قيد أنملة، فإننا سنتخلى عنكم وسنعيد فرض العقوبات». وحذرت الأطراف الأوروبية طهران من «استفزاز» يمكن أن تقدم عليه كالتي تصدر أحيانا من قادة في «الحرس الثوري» أو مسؤولين آخرين. يضاف إلى ذلك استمرار الأوروبيين في توجيه انتقادات عنيفة لطهران بخصوص ثلاث مسائل رئيسية هي برنامجها النووي لما بعد عام 2025 وسياستها الإقليمية المزعزعة للاستقرار وبرامجها الصاروخية - الباليستية. وذهب وزير الخارجية الفرنسي لو دريان الذي تعد بلاده من أبرز المدافعين عن الاتفاق إلى تحذير طهران من الاستمرار في تطوير البرامج المذكورة التي يريد الأوروبيون (كما الأميركيون) احتواءها. ولوح لو دريان بفرض عقوبات جديدة على إيران مثلما تسببت في ذلك المحاولات الإرهابية التي اتهمت بها الأجهزة الإيرانية في فرنسا وبلجيكا وهولندا والدنمارك. ويجدر التذكير بأن فرنسا أولا ثم الأوروبيين مجتمعين فرضوا عقوبات «رمزية» في غالبيتها على إيران بسبب الأعمال أو المحاولات الإرهابية المنسوبة إليها.
هذه المآخذ تقرب المسافة بين واشنطن من جهة وباريس ولندن وبرلين من جهة ثانية، مع فارق رئيسي مزدوج قوامه، من جهة، أن أوروبا تريد «الضغوط من أجل العودة إلى المفاوضات»، ومن جهة ثانية التمسك بدعم الاتفاق والفصل بينه وبين الملفات الخلافية مع طهران، أي بعكس المقاربة الأميركية. والدليل على ذلك أن باريس سمت سفيرها في طهران (فيليب تييبو) وقبلت تسمية سفير إيراني لديها (بهرام قاسمي). ويدافع الأوروبيون عن مبدأ أنه «لا حلول لأزمات الشرق الأوسط الضالعة طهران فيها من غير تسوية إقليمية» بمعنى أنه يتعين على جميع الأطراف أن تخفف من حدة مواقفها من أجل إيجاد مخارج للأزمات المشتعلة. ويفسر هذا العنصر جانبا من المواقف الأوروبية فيما الجانب الآخر المهم يتمثل في رغبة الأوروبيين في استمرار التعاطي مع إيران والاستفادة من سوقها الواسعة.
غير أن هذه الرغبة تصطدم، من جهة، بالعقوبات الأميركية التي دفعت بالشركات الأوروبية الكبرى إلى التعجيل بالانسحاب من السوق الإيرانية تلافيا للعقوبات، ومن جهة أخرى بـ«فقدان صبر» المسؤولين الإيرانيين، وفق تعبير وزير الخارجية محمد جواد ظريف مؤخرا. وقد انتقدت السلطات الإيرانية على كل المستويات «البطء» الأوروبي وعدم كفاية ما تقوم به البلدان الثلاثة فيما ذهب المرشد الأعلى علي خامنئي إلى التنديد بـ«الرياء» الأوروبي و«عبث» التعويل عليهم. ورغم هذه المآخذ (الإيرانية) والتحفظات (الأوروبية) فإن الطرفين ما زالا يعملان على دفع الآلية المالية التي يستغرق العمل على إخراجها إلى النور ما يزيد على أربعة أشهر. لكن يتعين التذكير بأن الأوروبيين يشترطون على طهران اتخاذ التدابير الضرورية واللازمة في موضوعي غسل الأموال وتمويل الإرهاب قبل الانتقال إلى المرحلة اللاحقة. وحتى اليوم، هم يحصرون التعاملات مع إيران بالمواد الإنسانية غير المشمولة بالعقوبات الأميركية. وتقول المصادر الأوروبية إنه، في كل حال: «لا يتعين على إيران أن تنتظر منها تعويض خسائرها كافة» بسبب العقوبات. وهذه الخسائر أصبحت ملموسة. فقد تراجعت صادرات النفط الإيراني بنحو 1.5 مليون برميل في اليوم، في حين هبطت الميزانية الحكومية بنحو النصف وأصيبت العملة المحلية بتراجع حاد.
لكن وضع طهران نفطيا سيكون أكثر صعوبة مع انتهاء فترة السماح التي أعطتها واشنطن لثمانية بلدان، بينها أكبر مشتري النفط الإيراني «الصين والهند واليابان وتركيا وإيطاليا واليونان وكوريا الجنوبية وتايوان». وتنتهي هذه المهلة في 4 مايو المقبل. وليس سرا أن جدلا يدور حاليا داخل الإدارة الأميركية لتقرير ما إذا كان من المناسب تمديد العمل بفترة السماح لإبقاء أسعار لنفط على حالها أم يتعين إلغاؤها لتشديد الضغوط الاقتصادية على طهران. ولخص المبعوث الأميركي الخاص، المكلف الملف الإيراني، الموقف كالتالي: «لقد اضطررنا لمنح ثماني دول إعفاءات لتجنب صدمة في أسواق النفط العالمية تؤدي إلى زيادة هائلة في أسعار النفط وقد نجحنا في منع مليون نصف برميل من النفط الإيراني من النفاذ إلى السوق دون زيادة في أسعار النفط وسيكون عام 2019 سوقا أفضل في إمدادات النفط العالمية». وأضاف هوك أنه استنادا إلى آراء الخبراء فإن «المعروض سيكون أكبر من الطلب وهذا يعطينا ظروفا أفضل لتسريع الطريق إلى تصفير الصادرات النفطية الإيرانية».
وإذا سارت الأمور على هذا المنوال ووفق الخطط الأميركية، فإن أوضاع الاقتصاد الإيراني ستكون أكثر سوءا وبالتالي سوف تستدير طهران أكثر فأكثر نحو البلدان الأوروبية وعندها ستتبين حقيقة قدرة الأوروبيين على الاستجابة وإنقاذ الاتفاق النووي إذا وجدت طهران أن «مصالحها الحيوية» لم تعد مؤمّنة.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.