مساعي أوروبا لإنقاذ {الاتفاق النووي} بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني

بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015
بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015
TT

مساعي أوروبا لإنقاذ {الاتفاق النووي} بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني

بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015
بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015

منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب نيته الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، سعت البلدان الأوروبية الثلاثة الموقعة على الاتفاق (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) مداورة، لثنيه عن عزمه ولكن من غير نتيجة. وانتقل ترمب من القول إلى الفعل في 4 مايو (أيار) من العام الماضي وأعاد على دفعتين في مايو ونوفمبر (تشرين الثاني) فرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية على طهران. وجاء الرد الأوروبي بدروه على دفعات أولها تأكيد فرنسا وألمانيا وبريطانيا تمسكها بالاتفاق والدفاع عنه ثم إعادة تفعيل قانون أوروبي سابق لمواجهة العقوبات الأميركية العابرة للحدود. وآخر حلقات الرد الأوروبي رأت مؤخرا النور عن طريق إطلاق العمل بـ«الآلية الأوروبية» لمواجهة العقوبات المسماة «أنستكس» والتي من شأنها مبدئيا أن تمكن إيران من الاستمرار في الاستفادة من منافع الاتفاق النووي وتصدير نفطها والإبقاء على تعاملات تجارية ومالية، وباختصار الالتفاف على العقوبات الأميركية.
بيد أن الدعم الأوروبي للاتفاق والوقوف في صف طهران ليس «مجانيا» وفق ما شرحت ذلك مصادر رسمية فرنسية رفيعة المستوى لـ«الشرق الأوسط». فقد نفت بداية أن تكون أوروبا قد اعتمدت هذا النهج «لأسباب آيديولوجية» بل لأن السياسة الأميركية تجاه إيران القائمة على الضغوط والمواجهة «لا يمكن أن تنجح». وإذا كانت أوروبا قد بقيت ثابتة في دعمها للاتفاق ورفض الخروج منه كما دعتها إلى ذلك واشنطن، فلأن هدفها إبقاء إيران داخله. والرسالة الأوروبية لطهران هي كالتالي: «عليكم التنفيذ الحرفي لبنود الاتفاق وإذا ابتعدتم عنه قيد أنملة، فإننا سنتخلى عنكم وسنعيد فرض العقوبات». وحذرت الأطراف الأوروبية طهران من «استفزاز» يمكن أن تقدم عليه كالتي تصدر أحيانا من قادة في «الحرس الثوري» أو مسؤولين آخرين. يضاف إلى ذلك استمرار الأوروبيين في توجيه انتقادات عنيفة لطهران بخصوص ثلاث مسائل رئيسية هي برنامجها النووي لما بعد عام 2025 وسياستها الإقليمية المزعزعة للاستقرار وبرامجها الصاروخية - الباليستية. وذهب وزير الخارجية الفرنسي لو دريان الذي تعد بلاده من أبرز المدافعين عن الاتفاق إلى تحذير طهران من الاستمرار في تطوير البرامج المذكورة التي يريد الأوروبيون (كما الأميركيون) احتواءها. ولوح لو دريان بفرض عقوبات جديدة على إيران مثلما تسببت في ذلك المحاولات الإرهابية التي اتهمت بها الأجهزة الإيرانية في فرنسا وبلجيكا وهولندا والدنمارك. ويجدر التذكير بأن فرنسا أولا ثم الأوروبيين مجتمعين فرضوا عقوبات «رمزية» في غالبيتها على إيران بسبب الأعمال أو المحاولات الإرهابية المنسوبة إليها.
هذه المآخذ تقرب المسافة بين واشنطن من جهة وباريس ولندن وبرلين من جهة ثانية، مع فارق رئيسي مزدوج قوامه، من جهة، أن أوروبا تريد «الضغوط من أجل العودة إلى المفاوضات»، ومن جهة ثانية التمسك بدعم الاتفاق والفصل بينه وبين الملفات الخلافية مع طهران، أي بعكس المقاربة الأميركية. والدليل على ذلك أن باريس سمت سفيرها في طهران (فيليب تييبو) وقبلت تسمية سفير إيراني لديها (بهرام قاسمي). ويدافع الأوروبيون عن مبدأ أنه «لا حلول لأزمات الشرق الأوسط الضالعة طهران فيها من غير تسوية إقليمية» بمعنى أنه يتعين على جميع الأطراف أن تخفف من حدة مواقفها من أجل إيجاد مخارج للأزمات المشتعلة. ويفسر هذا العنصر جانبا من المواقف الأوروبية فيما الجانب الآخر المهم يتمثل في رغبة الأوروبيين في استمرار التعاطي مع إيران والاستفادة من سوقها الواسعة.
غير أن هذه الرغبة تصطدم، من جهة، بالعقوبات الأميركية التي دفعت بالشركات الأوروبية الكبرى إلى التعجيل بالانسحاب من السوق الإيرانية تلافيا للعقوبات، ومن جهة أخرى بـ«فقدان صبر» المسؤولين الإيرانيين، وفق تعبير وزير الخارجية محمد جواد ظريف مؤخرا. وقد انتقدت السلطات الإيرانية على كل المستويات «البطء» الأوروبي وعدم كفاية ما تقوم به البلدان الثلاثة فيما ذهب المرشد الأعلى علي خامنئي إلى التنديد بـ«الرياء» الأوروبي و«عبث» التعويل عليهم. ورغم هذه المآخذ (الإيرانية) والتحفظات (الأوروبية) فإن الطرفين ما زالا يعملان على دفع الآلية المالية التي يستغرق العمل على إخراجها إلى النور ما يزيد على أربعة أشهر. لكن يتعين التذكير بأن الأوروبيين يشترطون على طهران اتخاذ التدابير الضرورية واللازمة في موضوعي غسل الأموال وتمويل الإرهاب قبل الانتقال إلى المرحلة اللاحقة. وحتى اليوم، هم يحصرون التعاملات مع إيران بالمواد الإنسانية غير المشمولة بالعقوبات الأميركية. وتقول المصادر الأوروبية إنه، في كل حال: «لا يتعين على إيران أن تنتظر منها تعويض خسائرها كافة» بسبب العقوبات. وهذه الخسائر أصبحت ملموسة. فقد تراجعت صادرات النفط الإيراني بنحو 1.5 مليون برميل في اليوم، في حين هبطت الميزانية الحكومية بنحو النصف وأصيبت العملة المحلية بتراجع حاد.
لكن وضع طهران نفطيا سيكون أكثر صعوبة مع انتهاء فترة السماح التي أعطتها واشنطن لثمانية بلدان، بينها أكبر مشتري النفط الإيراني «الصين والهند واليابان وتركيا وإيطاليا واليونان وكوريا الجنوبية وتايوان». وتنتهي هذه المهلة في 4 مايو المقبل. وليس سرا أن جدلا يدور حاليا داخل الإدارة الأميركية لتقرير ما إذا كان من المناسب تمديد العمل بفترة السماح لإبقاء أسعار لنفط على حالها أم يتعين إلغاؤها لتشديد الضغوط الاقتصادية على طهران. ولخص المبعوث الأميركي الخاص، المكلف الملف الإيراني، الموقف كالتالي: «لقد اضطررنا لمنح ثماني دول إعفاءات لتجنب صدمة في أسواق النفط العالمية تؤدي إلى زيادة هائلة في أسعار النفط وقد نجحنا في منع مليون نصف برميل من النفط الإيراني من النفاذ إلى السوق دون زيادة في أسعار النفط وسيكون عام 2019 سوقا أفضل في إمدادات النفط العالمية». وأضاف هوك أنه استنادا إلى آراء الخبراء فإن «المعروض سيكون أكبر من الطلب وهذا يعطينا ظروفا أفضل لتسريع الطريق إلى تصفير الصادرات النفطية الإيرانية».
وإذا سارت الأمور على هذا المنوال ووفق الخطط الأميركية، فإن أوضاع الاقتصاد الإيراني ستكون أكثر سوءا وبالتالي سوف تستدير طهران أكثر فأكثر نحو البلدان الأوروبية وعندها ستتبين حقيقة قدرة الأوروبيين على الاستجابة وإنقاذ الاتفاق النووي إذا وجدت طهران أن «مصالحها الحيوية» لم تعد مؤمّنة.



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.