نريد ربيعاً آخر!

رفاعة الطهطاوي
رفاعة الطهطاوي
TT

نريد ربيعاً آخر!

رفاعة الطهطاوي
رفاعة الطهطاوي

أتيح لي مؤخراً أن أشارك في مؤتمر كبير باليونيسكو عن «الإسلام في القرن الحادي والعشرين» (26 - 27 فبراير «شباط» 2019)، وقد هاجمت في مداخلتي المآل المزري الذي وصل إليه الربيع العربي. هذا لا يعني إطلاقاً عدم الإعجاب بتلك الانتفاضات العارمة التي اندلعت في بداياتها بشكل طبيعي وعفوي ضد الاستبداد والفساد والقهر والظلم. وقد عبرت عن إعجابي هذا في كتاب كامل بعنوان «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ»، دار الساقي، بيروت، 2013. ولكني عبرت عن مخاوفي أيضاً. كان قصدي القول إن هذا الربيع آل إلى جحيم، محولاً بلادنا إلى خرائب وأنقاض، بعد أن أعادها إلى العصر الحجري. لقد تحول إلى ظلام دامس بعد أن سطت عليه جماعات «الإخوان المسلمين» وبقية الظلاميين، وعلى رأسهم شيخهم الأكبر يوسف القرضاوي.
وهنا يكمن مقتل الربيع العربي. وأقولها بكل صراحة إنني أفضل عليه ألف مرة الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر ورئيس مجلس حكماء المسلمين. لماذا؟ لأن القرضاوي طائفي بشكل محض كبقية «الإخوانجية». إنه يلعب على وتر العصبيات المذهبية، ويؤججها في سوريا والعراق وأماكن شتى، في حين يحاول الدكتور أحمد الطيب إطفاء الحرائق بين المسلمين، لا صب الزيت على النار. إنه يدعو إلى جمع شمل المسلمين، لا التفرقة بينهم. ومع ذلك، فالأول هو الذي يمثل الربيع العربي، وليس الثاني! ما هذا الربيع؟ لا نريد ربيعاً تكفيرياً ظلامياً يؤدي إلى تمزيق النسيج الوطني لمجتمعاتنا، جاعلاً من التعايش بين مختلف المكونات جحيماً لا يطاق. باختصار شديد؛ لا نريد ربيعاً «إخوانجياً»! نريد ربيعاً وطنياً، تنويرياً، تقدمياً، تتسع أحضانه للجميع. نحن نحلم بربيع جديد يؤدي إلى «ثورة دينية».
نحن نحلم بربيع يصالحنا مع أنفسنا، ومع العصر، وكل أمم الأرض في آن معاً. هذا هو الربيع الحقيقي الذي ننشده. هذا هو الربيع التحريري الذي يقذف بنا إلى الأمام، ولا يعيدنا قروناً إلى الوراء.
لتعميق الفكرة أكثر سوف أقول ما يلي؛ لقد قام الربيع الأوروبي على أكتاف فلاسفة الأنوار، من أمثال فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو، الذين فككوا الطائفية والمذهبية، لا على أكتاف بابوات القرون الوسطى وأساطين الأصولية المسيحية الذين كانوا يرسخون الطائفية والمذهبية، مثل القرضاوي وسواه حالياً. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو التالي؛ هل يمكن أن تنفجر ثورة مستقبلية تغييرية بمضمون قديم؟ بمعنى آخر؛ هل يمكن للربيع العربي أن يكون بمضمون رجعي، ظلامي؟ هذا السؤال بحد ذاته يعتبر رداً مفحماً على الشعبوية الغوغائية والضجة المفتعلة المحيطة بالربيع العربي المزعوم.
ولذلك أقول؛ هذا الربيع ليس ربيعي، وليس ربيعاً أصلاً. وذلك لأن الثورة الربيعية هي بطبيعتها ذات فكر مستقبلي لا ماضوي، ذات فكر تنويري لا طائفي، على عكس ما يروجون في أوساط الدوحة وإسطنبول. الثورة الربيعية أو التنويرية تقول لنا ما معناه؛ الفتاوى التكفيرية المسلطة فوق رؤوسنا منذ ألف سنة كسيف ديموقليس لا ينبغي أن تتحكم برقابنا من الأزل، وإلى الأبد. ألف سنة يكفي! لقد آن الأوان لكي ننتقل من لاهوت العصور الوسطى إلى لاهوت العصور الحديثة. عندما يحصل ذلك سوف يندلع الربيع العربي الحقيقي.
ولكن يبدو أن ثورات الربيع العربي أو ما دعي كذلك نقضت هذا القانون العام. بل تريد أن تقنعنا طوعاً أو كرهاً بأن أفضل أنواع الثورات هي تلك التي تتوج بأنظمة «إخوان مسلمين»! وللأسف ينبطح كثير من المثقفين العرب أمام هذا الخيار «الإخوانجي» القرضاوي الداعشي، في الوقت الذي يدعون فيه الحداثة والتحديث، بل يتشدقون على مدار الساعة بالديمقراطية وحقوق الإنسان! ولكن من يصدقهم؟ من يقيم لهم وزناً؟ ويصل الأمر ببعضهم إلى حد وصف التطورات الإيجابية التي أطاحت بحكم «الإخوان» في تونس ومصر بأنها ثورات مضادة أو انقلاب على الشرعية! بمعنى أن «الإخوان» هم الذين يمثلون جوهر الثورة الحقيقية للربيع العربي، وأن الحداثيين الليبراليين والمسلمين المستنيرين العقلاء من أمثال شيخ الأزهر وسواهما انقلبوا عليها وأجهضوها! وبالتالي فنحن الثورة المضادة، وليس «الإخوان المسلمون»!
وهكذا «ضاعت الطاسة»، اختلطت الأمور، تشوشت الأشياء. هكذا انعكست المفاهيم والمصطلحات في العالم العربي، رأساً على عقب. يوجد هنا خلل حقيقي في الثقافة العربية. وضد ذلك انتفضت في رحاب اليونيسكو. أنا لا أريد إطلاقاً فصل الناس عن دينهم ومقدساتهم، وإنما عن الفهم الخاطئ لهذا الدين العظيم وتلك المقدسات. فتراثنا يحتمل قراءتين لا قراءة واحدة؛ الأولى انغلاقية، والثانية انفتاحية. الأولى ازدهرت في العصر الذهبي، والثانية هيمنت في عصر الانحطاط، ولا تزال.
هذا كل ما أردت قوله. أريد العودة إلى العصر الذهبي؛ عصر المعتزلة والفلاسفة والأدباء الكبار. أريد العودة إلى عصر الفارابي وابن سينا والجاحظ والتوحيدي ومسكويه والمعري والمتنبي وابن رشد وابن باجة وابن الطفيل وبقية العباقرة. وأريد العودة إلى عصر النهضة في القرن التاسع عشر حتى منتصف العشرين؛ عصر الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني ويعقوب صروف وجرجي زيدان وشبلي شميل وجبران خليل جبران وخليل نعيمة وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، إلخ... وأريد تكملة ما فعلوه، والسير به خطوات جديدة إلى الأمام.
لكن ما معنى ربيع الفكر، الذي ينبغي أن يمهد الطريق للربيع السياسي المقبل؟ ذلك أنه سيكون هناك ربيع سياسي مقبل يخلصنا من الأنظمة الديكتاتورية ذات الحزب الواحد والأنظمة «الإخوانجية» الظلامية في آن معاً. ما الذي أقصده بهذا المصطلح؟ أقصد حصول ثورة روحية - فكرية، داخل العالم العربي الإسلامي، ثورة لا تقل خطورة وأهمية عن الفلسفة المثالية الألمانية، أو عن التنوير الفرنسي الذي فكك الانغلاقات المسيحية وتجاوز الطائفية ودحر الأصولية على أرضيتها الخاصة بالذات.
ونتج عن ذلك النظام الديمقراطي الحديث الذي يساوي بين جميع المواطنين، أياً تكن أديانهم ومذاهبهم. أقصد ظهور فكر جديد على أنقاض الفكر القديم الراسخ المسيطر علينا منذ مئات السنين... ولكن أطمئنكم وأطمئن نفسي منذ البداية؛ نحن لن نقطع مع التراث كله قطيعة مطلقة تقذف بنا في متاهات الفراغ أو فوهة العدمية والمجهول. نحن لن نعدم تاريخنا كله، إذ ندعو إلى «ربيع الفكر» الذي يسبق «ربيع السياسة» بالضرورة. وإنما سنكتفي بشطب الصفحات السوداء منه، التي أصبحت عالة علينا أصلاً. الشجرة لا تُقلم منها إلا الأغصان الجافة أو اليابسة الميتة التي أصبحت عالة عليها، والتي قد تقتلها إذا لم تُقلم وتُشذب... أنا لا أدعو إلى الانتحار الثقافي، ولا إلى العدمية الفكرية.
فهناك قيم عظيمة في تراثنا العربي الإسلامي، والعربي المسيحي أيضاً. وسوف نحافظ عليها، ولن نفرط بها أبداً. سوف نعض عليها بالنواجذ. لن نأخذ من الغرب صرعاته الشذوذية أو حرياته الإباحية التي لا ضابط لها ولا رادع. سوف نأخذ جوهر الحداثة، لا قشورها وانحرافاتها. وجوهر الحداثة شيء عظيم. إنها حدث روحي هائل وليست فقط شيئاً مادياً أو تكنولوجياً، على عكس ما يتوهمه كثيرون. الحداثة إذا ما فهمناها على حقيقتها شيء آخر غير الذي يظنون. إنها انفجار تحريري للطاقات المحبوسة أو المكبوتة منذ قرون.
أعتقد شخصياً أننا سننخرط في حركة تفكيكية وتحريرية هائلة في السنوات المقبلة. وهي حركة تهدف إلى تحييد كل المقولات التي تتعارض مع المبادئ الإنسانية الكونية التنويرية. كل الأفكار التراثية المظلمة أو الفتاوى الدينية التكفيرية التي تحتقر الآخر في صميم إنسانيته وكرامته وعقيدته ينبغي التخلي عنها. وإلا فلن نستطيع العيش بسلام مع بقية الشعوب في عصر العولمة الكونية. سوف نبدو نشازاً على خريطة التاريخ، وسوف يلفظنا الآخرون، كل الآخرين.
أخيراً، فالربيع العربي الذي احترمه هو ذلك الذي عندما يدخل معرة النعمان، ينحني إجلالاً وإكباراً أمام تمثال أبي العلاء المعري، لا أن يقطع رأسه ويمطر جسده برصاص الكلاشينكوف! هذا ليس ربيعي، ولا يمكن أن يكون.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.