لم يُطوَ بعد ملف «السترات الصفراء» الذي دخل منذ عشرة أيام شهره الرابع، رغم نجاح التدابير الأمنية الصارمة بمنع تكرار مشاهد العنف والنهب والحرق السبت الماضي. ويتأهب المتظاهرون للنزول مجدداً إلى الشوارع غداً في باريس وكثيرٍ من المدن الأخرى، لتذكير السلطات بأنهم ما زالوا موجودين.
كذلك، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون الذي عاد إلى الواجهة الدولية من خلال استقباله الزعيم الصيني شي جينبينغ، وبفضل الاجتماع الرباعي الذي ضمّ إليه وللضيف الصيني المستشارة الألمانية ورئيس المفوضية الأوروبية، الذي خُصّص للدفاع عن النظام العالمي متعدد الأطراف، ما زال مثابراً على المشاركة في حلقات «الحوار الوطني الكبير» الماراثونية، الذي أطلقه لاحتواء «السترات الصفراء» رغم انتهائه رسمياً في 15 من الشهر الحالي.
والجميع، سواء كانوا مسؤولين حكوميين أو مواطنين، خصوصاً «السترات»، ينتظرون بفارغ الصبر النتائج التي سيستخلصها ماكرون من مئات المقترحات المقدَّمة. والتخوّف العام أن يكون الرد الرئاسي «دون المستوى» المطلوب ما سيسبّب خيبة كبيرة، وربما سيعيد «السترات» وغيرهم إلى الشوارع مجدداً.
لكن هذا المسلسل لا يمنع ماكرون من الاهتمام بمسائل أخرى ليست أقل أهمية، وأولها الانتخابات الأوروبية، نهاية شهر مايو (أيار) المقبل. وأخيراً، رسا خياره على تسمية ناتالي لوازو، وزيرة الشؤون الأوروبية في حكومة إدوار فيليب، لترؤس لائحة «الجمهورية إلى الأمام» (الحزب الرئاسي)، مطعّمة بشخصيات من الخضر والوسط والمجتمع المدني لتنافس بالدرجة الأولى لائحة «التجمع الوطني» لليمين المتطرف الذي تقوده مارين لوبن، المرشحة الرئاسية السابقة.
وبحسب استطلاعات الرأي، فإن اللائحتين متجاورتان «ما بين 22 و24 في المائة لكل منهما»، فيما تحل لائحة اليمين التقليدي «حزب الجمهوريين» في المرتبة الثالثة (14 في المائة). أما الاشتراكيون، فإن ضعفهم السياسي جعلهم يلتحقون بركب لائحة جديدة يقودها «الفيلسوف» اليساري رافايل كلوكسمان رغم أن الحزب الاشتراكي أعطى رئيسين للجمهورية (فرنسوا ميتران وفرنسوا هولاند)، وكان ممسكاً بمقابض السلطة قبل أقل من عامين. وثمة إجماع على أن السبب الأول لضعف اليسار هو تشتته وتفتته وتناحر قادته، ما يجعله عاجزاً عن تشكيل قوة ضاربة تفرض حضورها مجدداً على المشهد السياسي الفرنسي. ويرى ماكرون في الانتخابات الأوروبية وسيلة مناسبة إضافية لتهميش اليسار واليمين التقليديين، إذ إن مصلحته السياسية تكمن في أن يكون اليمين المتطرف الذي يشن عليه حملات تلو حملات، أكان في فرنسا أو على المستوى الأوروبي، خصمه الأول ومنافسه الرئيسي.
بيد أن معركة انتخابية أخرى، ولكن هذه المرة داخلية، تشغل بال ماكرون وحزبه، وهي معركة الانتخابات البلدية في العاصمة باريس. وأول من أمس، خرج من الحكومة ثلاثة وزراء، هم إلى جانب ناتالي لوازو، الناطق باسم الحكومة بنجامين غريفو، ووزير الدولة لشؤون الاقتصاد الرقمي منير محجوبي، وهذان الأخيران ينتميان إلى الدائرة الضيقة التي رافقت ماكرون في مغامرته الرئاسية. لكن المشكلة تكمن في أن كلاً منهما يريد أن يكون عمدة باريس القادم. ذلك أن محجوبي أعلن قبل أسابيع ترشحه للانتخابات البلدية في العاصمة باسم حزب «الجمهورية إلى الأمام»، وغريفو ينوي الشيء نفسه في الأيام القليلة المقبلة. وثمة متنافس آخر من الحزب نفسه، هو عالم الرياضيات والنائب سيدريك فيلاني، الذي شكّل النواة العاملة لمصلحة ترشيحه. ويتعيّن على الحزب، وقبل ذلك على الرئيس الفرنسي أن يختار الشخصية التي ستكون مهمتها انتزاع رئاسة بلدية باريس من رئيستها الحالية الاشتراكية آن هيدالغو.
ما زالت الانتخابات البلدية بعيدة، ولن تُحلّ إلا بعد عام كامل. والخيار المطلوب من ماكرون ليس سهلاً بالنظر للعلاقة الوثيقة التي تربطه بغريفو ومحجوبي، وبالاحترام الذي يكنه لفيلاني. والقرار، كما كان بالنسبة لاختيار رأس اللائحة للانتخابات الأوروبية موجود بين يديه، وليس بين يدي المكتب السياسي لحزب «الجمهورية إلى الأمام». ويبدو أن الرئيس، وإن لم يقل ذلك جهاراً، قد اختار غريفو الذي انتخب في 2017 نائباً عن باريس. ونقلت صحيفة «لو موند» المستقلة عن مقرب من ماكرون قوله إنه يجد أن غريفو «مرشح جيد» لمعركة العاصمة.
إضافة إلى ذلك، ترى تقارير صحافية، أمس، أن قبول استقالة الناطق باسم الحكومة في هذا الوقت بالذات، ورغم الحاجة إليه يُعدّ مؤشراً لتفضيله على منافسه الأقرب محجوبي. لكن محجوبي وفيلاني ما زالا سائرين في حملتهما الانتخابية بانتظار أن يتم اختيار المرشح رسمياً على المستوى الحزبي. لكن محجوبي عازم على خوض المنافسة، وأعلن أول من أمس أنه مصرّ على ترشيحه أكثر من أي وقت مضى.
تطول لائحة المرشحين من كل ألوان الطيف السياسي لترؤس بلدية العاصمة. لكن الحرب الطاحنة ستكون بين الرئيسة المنتهية ولايتها آن هيدالغو ومرشح «الجمهورية إلى الأمام». ويفيد استطلاع للرأي أجري لصالح صحيفة «لو جورنال دو ديمانش» الأسبوعية أن شعبية هيدالغو تتقدم بعد مراوحة، لا بل تراجع دام شهوراً.
ووفق الاستطلاع المذكور الذي نشرت نتائجه، الأحد الماضي، فإن 24 في المائة من الناخبين الباريسيين يؤيدونها، فيما يؤيد 22 منهم غريفو. وحصلت المرشحة المحتملة لليمين الكلاسيكي، رئيسة بلدية الدائرة السابعة البورجوازية رشيدة داتي على 16 في المائة، والخضر على 10 في المائة، و«فرنسا المتمردة» (اليسار المتشدد) على 8 في المائة.
إذا كانت باريس تجتذب هذا الكمّ من المرشحين، فلأن رئاسة بلديتها منصب رئيسي ومنطلق لمناصب أعلى. والدليل على ذلك أن الرئيس شيراك انتقل من رئاسة بلدية باريس إلى رئاسة الجمهورية. ويُعدّ مقر البلدية المطل على نهر السين والمجاور لكاتدرائية نوتردام، من أجمل التراث العمراني الباريسي.
وتُعدّ بلديتها محطة إلزامية لقادة الدول في زياراتهم الرسمية إلى العاصمة. ويتمتع رئيس (أو رئيسة) البلدية بحضور ملحوظ على المستوى الوطني، وبميزانية بالمليارات، وبـ«جيش» كما أنه يدير «جيشاً» من الموظفين. وفي ذلك كله ما يغذي الطموحات، وربما أيضاً الأطماع. وإذا استمر محجوبي وداتي في التنافس، فإن المعركة ستشهد حضور مرشحين من أصول عربية، وهي ظاهرة الأولى من نوعها في باريس، التي ربما ستسير يوماً على خُطا لندن التي اختارت عمدة لها من أصول باكستانية.
«معركة باريس» انطلقت... والتنافس على أشده بين مرشحي الحزب الرئاسي
مرشحان من أصول عربية يشاركان في السباق على رئاسة بلديتها
«معركة باريس» انطلقت... والتنافس على أشده بين مرشحي الحزب الرئاسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة