سميح القاسم.. كبرياء النص

استعصى سميح القاسم على الموت، وظل يصارعه على مدى ثلاث سنوات، تحت وطأة مرض السرطان اللعين. ورغم أنه يدرك بعين الشاعر، وقلب الطفل، أن الموت يتناثر من حوله، في الشوارع وفي الساحات وفي القرى والمدن، حتى صار حالة فلسطينية بامتياز، تجدد نفسها كل يوم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي البغيض، فإنه مثلما عاش قصيدته مرفوع الرأس، عاش أيضا الموت مرفوع الرأس، لم يراهن عليه، وإنما كان رهانه الأساسي على نصه الشعري وما يفيض عنه من كتابة أخرى، امتدت إلى القصة والرواية والمسرح وقضايا الفكر والثقافة بوجه عام.
هذه الكبرياء النادرة، انعكست في شعر سميح القاسم، وشكلت في أغلب أعماله الشعرية والنثرية، مدار رؤيته، بكل محمولاتها التراثية والفكرية، وتجسداتها المتنوعة جماليا وفنيا؛ بداية من اللغة المشغولة بهموم الأرض والإنسان، والصور والرموز والدلالات المستقاة من طينة الواقع الفلسطيني وحراكه اليومي المناضل، وتواصلت هذه الكبرياء مع تقاطعات الفعل الشعري لديه، مع الماضي والحاضر والمستقبل، كما انعكست كذلك على معجمه الشعري الثري العطاء والمنهل، حتى يمكن أن أقول إننا أمام شاعر جسد بعمق وحب ما أسميه «كبرياء النص».
بهذه الروح حفر سميح القاسم اسمه في لوحة شعر المقاومة الفلسطيني، واستطاع أن يكون له في طبقاتها المتنوعة إسهامه الخاص، والذي تبلور - برأيي - في أنه ربط من خلاله، شعرية الداخل الفلسطيني بشعرية الخارج، والذي يمثلها كوكبة من شعراء المنافي المجيدين، وهو ما أسهم في جعل الشعرية الفلسطينية بكل مراحلها التي مرت بها بداية من مرحلة النكبة في عام 1948، وحتى اللحظة الراهنة، تشبه موجة واحدة، تعتد بتنوع شطوطها وبحارها، وتومض كحالة خاصة في المشهد الشعري العربي وحركة الحداثة الشعرية العربية.
عاش سميح القاسم في الداخل الفلسطيني جل حياته، فبعد مولده لعائلة فلسطينية درزية في مدينة الزرقاء في الأردن، انتقل إلى بلدة أهله «الرامة» الفلسطينية في الجليل الأعلى حيث درس الابتدائية والثانوية في مدينة الناصرة، وبدأ حياته معلما ومناضلا سياسيا. ولم يغادر موطنه الفلسطيني إلا لماما، للمشاركة في بعض المهرجانات والملتقيات الشعرية والأدبية في بلدان عربية وأوروبية.
ورغم تعدد التصنيفات النقدية لشعرية سميح القاسم، ما بين «الشعر المقاوم» والشعر «ما بعد الحداثي»، فإن «شعرية الأرض» تظل - برأيي - هي الملمح الأساس والأكثر لصوقا وانسجاما مع إبداعه الشعري، بل تشكل صيرورة وجوده في الشعر والحياة معا.
تطل «شعرية الأرض» بقوة في شعر سميح القاسم، وتفتح نصه الشعري، على حكمة التاريخ والأجداد، ورائحة البشر والكفاح والنضال، وتبدو دائما مسكونة بروح الطبيعة في بيئتها الفلسطينية الخصبة وعافيتها الأولى، ويتقاطع الحلم والذاكرة في نسيج هذه الشعرية، ينوعان فضاءاتها فنيا ودلاليا، فكأن الأرض ذاكرة حلم يلامس القصيدة، وفي الوقت نفسه، كأن القصيدة ذاكرة أرض تعانق الحلم.. واللافت أن هذا التعاشق الحي وسع من تراوحات اللغة وبنية وإيقاع المشهد في شعر سميح القاسم؛ فهو مشهد طازج طافر بأسئلة الروح والجسد والوطن والوجود، من دون فواصل أو عقد زمنية، تفصل أحدهما عن الآخر، كما أنه مشهد يحيل إلى نفسه دائما، مخطوف إلى الدخل، إلى نبض الحياة في العمق وفيما تحت القشور.. ملمح من هذا المشهد نطل عليه في إحدى قصائده بعنوان «النار فاكهة الشتاء»؛ والتي يقول فيها:
«ويروح يفرك بارتياحٍ راحتين غليظتينْ
ويحرّك النار الكسولةَ جوفَ موْقدها القديم
ويعيد فوق المرّتين
ذكرَ السماء
والله.. والرسل الكرامِ.. وأولياءٍ صالحين
ويهزُّ من حين لحين
في النار.. جذع السنديان وجذعَ زيتون عتيق
ويضيف بنّا للأباريق النحاس
و يُهيلُ حَبَّ (الهَيْلِ) في حذر كريم
(الله.. ما أشهى النعاس
حول المواقد في الشتاء!)
لكن.. يُقلق صمت عينيه الدخان
فيروح يشتمّ.. ثم يقهره السّعال
وتقهقه النار الخبيثة.. طفلةً جذلى لعوبة
وتَئزّ ضاحكةً شراراتٌ طروبهْ
ويطقطق المزراب.. ثمّ تصيخ زوجته الحبيبة
- قم يا أبا محمود.. قد عاد الدوابّ».
إن «شعرية الأرض» هي التي تثبت المشهد، ليس فقط في جسد القصيدة، بل أيضا في جسد الزمن، وهي شعرية تنطلق من نقطة ثبات، لكنها مع ذلك تبني منها تنوعها وتموجها، حيث تبدو اللغة وكأنها ثمرة ولدت للتو من شجرة الأرض، من مراتع الطفولة والصبا، مخزن الذاكرة الحي في حياة الشاعر.. كما أنها شعرية تكتنز في إهابها العناصر الطبيعية الأولى، التي تشكل قانون الوجود: الماء والنار والتراب والهواء. ويزخر شعر سميح القاسم باللعب على أوتار هذه العناصر، في الوقت نفسه، تكسب شعرية الأرض الصورة الشعرية عبقا خاصا، وتجعلها مشرّبة بروح الحكاية الشعبية، وتجرد طاقة الغناء من البذخ البلاغي والتوشيات النمطية.. فالحلم بالأرض، هو الحلم بالطبيعة والقصيدة، هو الحلم بالحرية، بالأنثى والوطن.. فهكذا يخاطب الشاعر أنثاه قائلا:
«لو كنت شجرة
سأكون عندليبا يعيش بين أغصانك
لو كنت شجرة
ستكونين فاكهتي الوحيدة
لو كنت كهفا
سأكون راعيًا مبللا بالمطر يلوذ بك
لو كنت كهفًا
ستكونين الصدى الأبدي بين جنباتي»
ثم ينوع إيقاع المشهد، وكأنه لوحة تشكيلة معجونة بالألوان، في طينتها الطبيعية الأولى، ويشد قماشة اللوحة في معزوفة بصرية وشعرية، لتتسع لأزمنة وأمكنة شتى، واضعا القارئ أمام «باقة زرقاء»، تذكرنا بمرحلة بيكاسو الزرقاء.. يقول سميح القاسم:
«ساعات الفجر الأولى
زرقٌ
العندليب الأول على شجرة الليمون الزرقاء
أزرقُ
أنهار العالم تلتف على عنقي الأزرق
أنشوطة زرقاءُ زرقاء
جفون عيني
زرقاءُ زرقاء
أتلاشى في الزرقة
أتلاشى
لم أعد أعرف لون عينيك»
ومن ثم، تبرز قيمة التكرار، وتتنوع بسلاسة كمقوم جمالي ودلالي، يشكل عنصر إضافة معا، فهو يوثق للمعنى حين يكرره، ولا يجتره تحت وطأة التشابه؛ وحين ينفيه أو يحذفه، أو يمارس عليه نوعا من الإزاحة، يتخذ من ذلك سبيلا لكي يخلخل سكونه، وثباته، ويخلق له ملامس ومجالات إدراك جديدة في النص الشعري.
لقد وعى سميح القاسم أهمية تطوير الشكل في الفن، خاصة في شعر المقاومة، وأدرك أنه لا يمكن أن نعبر عن مضامين وأفكار وحقائق ثورية جديدة، في هياكل وقوالب شعرية قديمة، أو تقليدية، فالشكل لا ينفصل عن المضمون، وكلاهما يفيض عن الآخر، ويكسبه هويته ووجوده. لذلك جرّب أشكالا عديدة من الكتابة، من أجل تطوير أسلوبه، ودفع نقاط الثبات التي اكتسبها بتراكم الخبرة والمعرفة، إلى طاقة مغايرة، قادرة على المغامرة والتجاوز والتخطي.
ورغم سيطرة الغنائية بسياقها المفرد والجمعي على أغلب مناخ الشعرية الفلسطينية، وأيضا مناخ القصيدة العربية، فإن سميح القاسم استطاع أن يكسر هذه السطوة، فدفع قصيدته إلى براح الفعل المسرحي، ليضعها في مواجهة درامية أخرى، وبشكل حي مع الجمهور. وهي مواجهة لا تقل ضراوة عن مواجهة الواقع اليومي بالنضال ضد المحتل.. كسر هذا الاختبار الجديد حيادية الغنائية، وحد من تراتبها الذاتي ودلالتها المباشرة، وأصبح القارئ يتعامل مع النص بإيقاع نفسي وصوري معا، حيث يجد فيه صدى وتجاوبا لما يجول في أعماقه، إضافة إلى رسم تكوينات وخرائط مغايرة للقضية الفلسطينية، تتعامل بحيوية مع تحولات وتبدلات الصراع على الأرض، وتنفتح على مخزون متماثل من الرموز وقصص التراجيديا الإنسانية والأساطير، مثل أسطورة سدوم، وأوديب وأنتيغونا.. وغيرها، لتوسع من طبقات النص، وتصبح جزءا حيا من نسيجه الداخلي. كما دخلت السيرة الذاتية، لتمنح كتاباته النثرية قوة مساءلة الذات، تحت مطرقة المواجهة التي تصل إلى حد البوح والتعرية والسخرية.. يقول في قصيدة بعنوان «أنتيغونا»، وهي ابنة أوديب الملك المنكوب التي رافقته في رحلة العذاب التراجيدي حتى النهاية:
«خطوة..
ثِنْتان..
ثلاث..
أقدِمْ.. أقدِمْ!
يا قربانَ الآلهة العمياء
يا كبشَ فداء
في مذبحِ شهواتِ العصرِ المظلم
خطوة..
ثِنْتان..
ثلاث..
زندي في زندك
نجتاز الدرب الملتاث!
………
يا أبتاه
ما زالت في وجهك عينان
في أرضك ما زالت قدمان
فاضرب عبر الليلِ بِأشأمِ كارثةِ في تاريخ الإنسان
عبرَ الليل.. لنخلق فجر حياة
وعلى عكس شعرية النشيد، التي وسمت الغنائية في الشعر الفلسطيني وفي أجزاء من شعر سميح القاسم نفسه، فإن انحيازه الأكبر والأوسع كان لشعرية الصيحة الخاطفة الواخزة، التي تشبه الرصاصة في دويها، وهي تنطلق من حناجر الجموع.. واللافت أيضا، أن هذه الشعرية تنهض مكان الحكمة الشعرية القديمة، والتي شاعت في تراث الشعر العربي كله.. وتتجسد شعرية الصرخة بخاصة في المواقف والأزمات المصيرية، فيعلو صوتها كشعار سياسي، وراية للعدل والحرية. وهو ما يبرر إذاعة قصائد سميح القاسم على مجموعة من القنوات العربية والفلسطينية خلال الهجوم الفلسطيني الذي لم يتوقف بعد على غزة.
لكن سميح القاسم، بعمره الذي ناهز خمسة وسبعين عاما، ودفاتر إبداعه المتنوعة الغزيرة والتي بلغت أكثر من 70 مؤلفا.. لم يستطع أن يصطاد الموت، أو ينصب له فخا في القصيدة، فقرر أن يلاعبه ويشاكسه، كحريتين تتصارعان من أجل حرية واحدة، هي حرية الوطن والإنسان.. عاش في ظله وكنفه، تحت تهديد العدو، وتهديد المريض، يقاوم بالحب والأمل، حتى أصبح الموت مرثية للحياة، ضد أعدائها، مغتصبي الأرض وسارقي الأحلام، إنه خيط شفيف، سرير عابر يخطف الروح والجسد في قبضة المجهول، ليعيدهما لبكارتهما الأولي، فيناجي نفسه في مرآته ببراءة طفل، ويقول:
«أيها الفتى الجميل كبركان
الساحر كإعصار
كم ظلموا فمك المشتعل
كم أخروا ميعاد القبل
حين ابتكروا انشغالك الفاجع
بهذا الشأن الصغير:
الحياة أو الموت!»
أو يدينه بوجع حاد مرير، في فضاء أكثر اتساعا من مكابدات وهموم الذات؛ ففي واقع ماثل بكل تناقضاته في ذاكرة القصيدة والحلم، وكأنه حدوتة فاسدة، لا تمل من تكرار نفسها كل يوم بأقنعة ووجوه مزيفة:
«يا أيها الموت بلا موت
تعبت من الحياة بلا حياة
وتعبت من صمتي
ومن صوتي..
تعبت من الرواية والرواة
ومن الجناية والجناة
ومن المحاكم والقضاة
وسئمت تكليس القبور
وسئمت تبذير الجياع
على الأضاحي والقبور».
وبعد، تحية لسميح القاسم، شاعرا سيبقى في ذاكرة الحلم والشعر، وأنشودة تتسع في خطى الإنسان، مغموسة بعرقه وأشواقه في العدل والحرية.