الحرب العالمية الأولى في الرواية المصرية

لا تأثير لها يذكر على مسيرتها في مصر

طه حسين و توفيق الحكيم
طه حسين و توفيق الحكيم
TT

الحرب العالمية الأولى في الرواية المصرية

طه حسين و توفيق الحكيم
طه حسين و توفيق الحكيم

اتفق نقاد وكتاب مصريون على أن الحرب العالمية الأولى لم يكن لها تأثير يذكر على مسيرة الرواية في مصر، وأرجعوا ذلك إلى أن الرواية كانت خلال تلك الفترة، مجرد بذور جنينية، لم تتضح ملامحها وسماتها الأدبية المعروفة، وأن ما كان ينشر في المجلات والدوريات الثقافية، حينذاك، لم يتجاوز إرهاصات الأقصوصة التي تعبر عن هموم شخصية، أو تناوش قضايا سياسية واجتماعية معينة أفرزها الواقع المعيش في تلك الفترة.
وعلى العكس من ذلك، كان حضور الحرب العالمية الثانية أكثر بروزا في عدد كبير من الأعمال الروائية، خاصة عند نجيب محفوظ ويحيى حقي، وتوفيق الحكيم، وفتحي غانم، وامتد للأجيال اللاحقة، فبرز على نحو لافت في رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» للكاتب إبراهيم عبد المجيد. ولفت النقاد والكتاب إلى أنه يمكن القول إن الحرب العالمية الثانية رافقت ميلاد الرواية في مصر، كجنس أدبي له قوام واضح، مفتوح على أشكال التطور، ومستفيد في الوقت نفسه من الترجمة لتجارب روائية في الغرب.
يقول الناقد الدكتور مدحت الجيار، رئيس تحرير مجلة «الرواية»: «تجربة الحرب تختلط دائما بما يسمى (أدب المقاومة)، وفي مصر لا نستطيع أن نتحدث عن تأثير ما للحرب العالمية الأولى في النص الروائي، لأنه ببساطة شديدة لم تكن ثمة رواية بالمعنى المعروف. كما أننا لا نستطيع أن نعد كتابا مثل (حديث عيسى بن هشام)»‏ للمويلحي‏، نصا روائيا، رغم أنه يتزيا بفكرة المقاومة، من خلال بطل متخيل، ينتقد كل أنماط السلوك الموجودة في المجتمع خلال تلك الفترة. هو في النهاية كتاب إصلاحي يرفع معول النقد الاجتماعي للمجتمع، بهدف الحفاظ على التقاليد والأعراف».
يتابع الجيار: «على هذا المنوال، يمكن النظر إلى أعمال بها نفس سردي في تلك الفترة، مثل رواية (ليالي سطيح) للشاعر حافظ إبراهيم.. وغيرها، ولم يكن للحرب العالمية الأولى أي تأثير في الحياة الأدبية المصرية في تلك الفترة، فظلت الكتابات ذات الطابع الروائي تدور في فلك الهموم الاجتماعية، وتدعو للتحرر من الاستبداد السياسي، والإعلاء من شأن الهوية المصرية».
وفي دراسة له حول أدب المقاومة في روايات «نجيب محفوظ»، يستعرض الناقد سيد نجم هذا المناخ، مشيرا إلى أن المتابع يكاد يخرج بنتيجة أساسية، ألا وهي: أن ميلاد الرواية كشكل أدبي جديد في مصر، ولد وترعرع من أجل القضايا العامة والوطن. ويؤكد نجم أن «ثورة ‏1919‏ بقيادة سعد زغلول، وهي الثورة التي اندلعت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وجدت التعبير عنها في إبداعات الرواية عند‏ توفيق الحكيم‏‏ في (عودة الروح)» و(‏يوميات نائب في الأرياف‏) ‏و(عصفور من الشرق)»‏، وفي إبداع طه حسين ومحمد حسين هيكل‏، ‏ والمازني‏. غير أن رواية ‏(عودة الروح)» كانت تعبيرا ناضجا فنيا وأكثر تعبيرا عن روح الثورة الوطنية وبداية التقاط جدل عملية تشكل البرجوازية الصغيرة في المدينة، وهي البذرة التي ستنمو في ثلاثية نجيب محفوظ الملحمية‏: (بين القصرين)، و(قصر الشوق)، و(السكرية») التي أرخت لثورة ‏1919‏ حتى 1946‏، إلا أن المتغيرات الاجتماعية بعد ثورة 1919 تبدت جلية في مجمل الإبداعات الروائية، سواء في ملامح الأماكن (الشعبية)، وطقوس الأحياء العريقة وعبق الحياة الشعبية».
يتابع نجم: «هذا المناخ انعكس على تشكلات السرد والبناء الأسلوبي التعبيري، حيث اللغة العامية الفصيحة العذبة في سهولتها وإيقاعها، ورصدها تحولات الطبقة المتوسطة الصغيرة، وتماسكها الذي سيبلغ اكتماله باندلاع الثورة الوطنية وتحديد ملامح ومكونات الشخصية المصرية‏. مع التخلص من الأسلوب الخبري‏، والمحسنات اللفظية، وتماسك الفصول، ورسم الشخصيات بتصميم وتلقائية، وتشكل وقائع الأحداث، وحيث كانت رواية‏ (‏قنديل أم هاشم - يحيى حقي‏)‏ الذي يشفي المرضى بعيونهم‏، ‏ والشاب (إسماعيل‏)‏ طالب الطب الذي عاد من بعثته متشبعا بالعلم والطب الحديث ليعالج به عيون ابن عمته فاطمة فتصاب بالعمى‏، ‏ ويوشك أن يكفر ويحطم القنديل ثورة على تخلف المصريين‏. إنه صراع الشرق مع الآخر الأوروبي الغربي، حيث الحضارة الحديثة وقيم الروح الشرقية‏. ‏وتنتهي بمعادلة توفيقية بين الدين والعلم بعد عالم التصوف الشفاف‏، حيث يمزج الطبيب إسماعيل بين أدوات العلم الحديث وزيت قنديل أم هاشم في علاج مرضى الرمد والعيون‏».
ويتفق الروائي إبراهيم عبد المجيد على أن مناخ الحرب العالمية الأولى مناخ شاحب في الرواية المصرية، مضيفا أن «هم التحرر والاستقلال من المحتل الأجنبي كان الأبرز في تلك الفترة، وقد تجسد عنفوانه في ثورة 1919 التي جسد مشاهدها بقوة نجيب محفوظ في ثلاثيته الروائية الشهيرة».
ويذكر عبد المجيد أنه في روايته «لا أحد ينام في الإسكندرية» استحضر مناخ الحرب العالمية الثانية، واستطاع أن يمزج بما بين وقائعه الموثقة، وطبيعة الصراع الاجتماعي في الرواية، ليرصد من خلاله أثر فكرة الحرب في المدينة نفسها، وفي شخوص وأبطال الرواية، وتحولات شبكة الصراع، ونظرة الشخوص لواقعهم، ومصائرهم وسط غبار هذه الحرب.
ويخلص عبد المجيد إلى أن مشهد الحرب العالمية الثانية هو الأكثر نضجا في فضاء الرواية بمصر، وربما في العالم العربي، لافتا إلى أن هذا النضج ترافق مع نضج في تكنيك الرواية نفسها، وخلوصها إلى مقومات فنية خاصة نابعة من طينة الواقع والبيئة المحلية.



فريدريك جيمسون... آخر المثقفين الكلاسيكيين

فريدريك جيمسون
فريدريك جيمسون
TT

فريدريك جيمسون... آخر المثقفين الكلاسيكيين

فريدريك جيمسون
فريدريك جيمسون

ربما لم يكن الناقد الأدبي الأميركيّ البارز، فريدريك جيمسون (1934 - 2024) الذي رحل في الثاني والعشرين من الشهر الماضي عن 90 عاماً، من طينة المثقفين العامين الذين يهوون إثارة الجدل والظهور، ولكن برحيله يسدل الستار عملياً على فكرة المثقف الكلاسيكي الملم بشكل شمولي بثقافة عصره، والقادر على تقديم تصور نظري عابر لصناديق التخصص الأكاديمي الدقيق، التي عرفناها بداية مع عصر النهضة بأوروبا من خلال شخصيات مثل ليوناردو دافنشي ونيقولا ميكافيللي وفيليبو برونليسكي، واستمرت إلى النصف الثاني من القرن العشرين عبر أسماء مثل جان بول سارتر، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وإمبرتو إيكو.

بدأ جيمسون الذي ولد في كليفيلاند بالولايات المتحدة مشواره الفكريّ بحصوله على الإجازة الجامعيّة الأولى في اللغة الفرنسيّة من كليّة هافرفورد قبل أن يسافر إلى أوروبا لفترة وجيزة، حيث وسع معرفته هناك بأعمال مفكري ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما البنيويين الفرنسيين ورواد الفلسفة القاريّة. وتركزت أبحاثه وقتها على النظريّة النقديّة التي أنتجتها مدرسة فرنكفورت ومن تأثروا بأعمالها، بمن في ذلك جان بول سارتر، وجورج لوكاتش، وثيودور أدورنو، ووالتر بنيامين، ولويس ألتوسير، وهيربرت ماركوز. وقد عاد بعدها إلى جامعة ييل بالولايات المتحدة حيث منح في 1959 درجة الدكتوراه على أطروحة حول أسلوب سارتر.

دراسته لسارتر قادته إلى تعميق معرفته بالماركسيّة - وبالتبعيّة النظريّة الأدبيّة الماركسيّة - لا سيّما أن الفيلسوف الفرنسيّ الشهير كان يعد النقد الثقافيّ فضاء أساسيّاً للفكر الماركسي. وما لبث جيمسون أن شرع يتموضع سياسياً في فضاء اليسار الغربيّ الجديد، وحركات النضال السلميّ، واحتفى بالثورة الكوبيّة التي عدّها علامة على أن «الماركسية ليست حيّة فحسب، وإنما هي كذلك قوّة ملهمة للحراك الاجتماعي ومنتجة ثقافياً». وبعد عودته إلى الولايات المتحدة شارك (في 1969) بتأسيس ما عرف بالمجموعة الأدبية الماركسية مع عدد من طلاب الدراسات العليا بجامعة كاليفورنيا، بسان دييغو، وتزامل لبعض الوقت مع هيربرت ماركوز في أثناء تدريسهما في جامعتي هارفارد وكاليفورنيا.

بعد رسالته للدكتوراه عن سارتر، واصل الكتابة عن مفكرين أوروبيين آخرين؛ أمثال أدورنو وألتوسير، ليس بالضرورة تبنياً لمقارباتهم بقدر سعيه إلى تحديد موقع تلك المقاربات في الجدل حول البنية الاجتماعية وعلاقتها بالمنتجات الثقافية، وفي ذلك نشر (الماركسيّة والشكل – 1971) و(سجن اللغة: قراءة نقديّة للبنيوية والشكليّة الروسيّة – 1972)، لينتقل بعدها للخوض في اللغة والسيميائيّة والمرحلة الثقافية التي سماها الرأسماليّة المتأخرة.

لقد نقل هذا الجيل من المفكرين الماركسيين الغربيين النقد الماركسيّ من المنظور التقليديّ الذي اعتمد على فكرة أن «البنية الفوقية الثقافية» للمجتمعات تحددها أساساً القاعدة الاقتصادية، إلى مرحلة تبني تحليل نقدي للثقافة بوصفها أيضاً ظاهرة تاريخية واجتماعية، إلى جانب «علاقات الإنتاج» و«توزيع الثروة» الاقتصاديَيْن، وما يرتبط بذلك من علاقات القوة السياسية. لكن إذا أصبح النقاد الماركسيون قادرين على تقديم تحليل معمق للسياق التاريخي والطبقي لأعمال أدبيّة؛ مثل روايات جين أوستن أو قصائد تي إس إليوت مثلاً، فإن ناقداً من طينة جيمسون فقط يمكنه أن يقدم نقداً أسلوبياً ماركسياً لمروحة واسعة من منتجات الثقافة المعاصرة من المدارس الفكريّة المعقدة، مثل البنيوية، وما بعد الحداثة في سياقاتها التاريخيّة، إلى تحليل الأفلام الشعبيّة كمجموعة أفلام (حرب النجوم)، وكل ما يمكن أن يكون بينهما في الفلسفة، وأنواع الفنون، والآداب، والعمارة.

تدريجياً أصبح التاريخ يلعب دوراً أكثر مركزيّة في نقد جيمسون للمنتجات الثقافية إنتاجاً واستهلاكاً، ونشر عبر سلسلة من الأعمال مفهوم اللاوعي السياسيّ وراء النص، بوصف ذلك طريقة بديلة لتفسير الأعمال الروائيّة، ما منحه مكانة بارزة في فضاء النقد الأدبي في الثقافة الأمريكيّة.

على أن كثيرين يعدّون مساهمة جيمسون الأهم ربما كانت تحليله لما أصبح يعرف في تاريخ الثقافة بمرحلة «ما بعد الحداثة»، وعُدّ ناقدها الأبرز، رغم أنّه أتى إليها عن طريق أعمال جان فرنسوا ليوتار.

عند جيمسون، «ما بعد الحداثة» تعبير بمنتجات الثقافة عن فترتنا الحاليّة من الرأسماليّة المتأخرة التي شهدت توسعاً هائلاً في أساليب الإنتاج الثقافي ربطاً بتنوع صيغ المشهديّة التي يقدّم بها هذا الإنتاج. وكان جيمسون قد انضم إلى هذا النقاش في عام 1984 بمقالته بعنوان «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» التي نشرها بداية في مجلة «اليسار الجديد»، قبل أن يوسعها إلى كتاب نشره عام 1991، أصبح منذ حينها أكثر أعماله مبيعاً، وأكثرها شهرة، لا سيّما في الصين حيث تمتع جيمسون هناك بمكانة رفيعة بين المثقفين وطلاب الجامعات.

يذهب جيمسون إلى ضرورة التعامل مع «ما بعد الحداثة» على أنها نتاج تاريخي، ولذلك فهو يرفض أي معارضة أخلاقية لها بوصفها ظاهرة ثقافية، ويقترح بدلاً من ذلك مقاربتها بمنهج الديالكتيك الهيغلي الذي من شأنه أن يقرأ التّطور الثّقافي للرأسمالية المتأخرة جدلياً، أي بوصفه كارثة وتقدماً معاً.

أكاديمياً، بدأ جيمسون مهنته أستاذاً للأدب الفرنسي والمقارن بجامعة هارفارد عام 1959، وتنقل بعدها بين عدة جامعات مرموقة، قبل توليه في 1985 منصب أستاذ كنوت شميدت نيلسن للأدب المقارن، وأستاذ الدراسات الرومانسية (الفرنسية)، ومدير معهد النظرية النقدية في جامعة ديوك، التي تقاعد عن التدريس فيها، دون أن يتوقف عن الكتابة.

لم يسلم جيمسون من النقد، لكن أهم منتقديه كان رفيقه الماركسيّ تيري إيغلتون، الذي، وإن أعجب بمقارباته للعديد من المنتجات الثقافية، عدّ إسرافه في الحديث عن اليوتوبيا كان بلا رافعة سياسيّة، إذ أهمل في مجمل أعماله الجانب السياسي والمضمون الثوري للماركسيّة، ولم يشتبك على الإطلاق بأعمال المفكرين الماركسيين مثل فلاديمير لينين، أو روزا لوكسمبورغ، أو أنطونيو غرامشي، كما اتهمه بمزج تبنيه للأفكار المختلفة بنهج ليبرالي، يلفق بينها دون الأخذ بتناقضاتها. ومع ذلك، فإن ثمة توافقاً بين المثقفين من جميع المشارب على أنه ظلّ، ولأكثر من خمسة عقود، الناقد الأدبي والثقافي الماركسي الأهم في الولايات المتحدة، إن لم يكن في العالم أجمع.