أسئلة قصيدة النثر.. مرة أخرى

غياث المدهون في مجموعته «لا أستطيع الحضور»

أسئلة قصيدة النثر.. مرة أخرى
TT

أسئلة قصيدة النثر.. مرة أخرى

أسئلة قصيدة النثر.. مرة أخرى

في مجموعته الجديدة «لا أستطيع الانتظار»، (الدار العربية للدراسات والنشر»، وهي مجموعته الثالثة بعد» قصائد سقطت سهوا» و» طلب اللجوء», يظهر غياث المدهون في كتابه «لا أستطيع الحضور» قدرة جميلة على كتابة نصوص نثرية محملة بالنفحات الشعرية والوصف الدقيق للحالة النفسية التي يعيشها، ونزاعاتها الداخلية مع الموت، والحرب، والهجرة:
«لقد بعت أيامي البيضاء في السوق السوداء
واشتريت منزلا يطل على الحرب».
إنها إطلالة رائعة لدرجة أنني لم أقاوم إغراءها، أو كما في قوله:
«فانحرفت قصيدتي عن تعاليم الشيخ واتهمني أصدقائي بالعزلة
وضعت كحلا على عيني فازدادت عروبتي
وشربت حليب الناقة في الحلم فصحوت شاعرا».
ومع ذلك، لا يمكننا بعد قراءتنا لديوان المدهون سوى أن نطرح سؤالا واحدا: هل هذا ما يسمى «قصيدة النثر»، أم إن القصائد مجرد قطع نثرية تحمل ومضات شعرية؟
كنا نتمنى ألا يدرج كتاب المدهون في خانة الشعر، وأن يقدمه بوصفه نثرا ليختلف التعامل معه، وبالتالي تقييمه نقديا حسب هذه الصفة. ولا أعرف لماذا يستهين بعض كتابنا بفن النثر، الذي احتل فيما مضى مكانة مرموقة في الأدب العربي. إنه فن نبيل لا يقل قيمة عن الشعر.. فن راق له رواده وقراؤه، ولكن تكمن المأساة حين يجرى الخلط بين النوعين، بينما لكل نوع خصوصيته وسماته التي تدل عليه، ويجرى الخلط كذلك بين الفن النثري وقصيدة النثر، وهما مختلفان كل الاختلاف.
تقول الناقدة الفرنسية سوزان برنار، أشهر من نظّر لقصيدة النثر، إن هذه لها «إيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية، التي تعتمد على الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها، والحالة العامة للقصيدة».
ويوضح الشاعر اللبناني أنسي الحاج، أحد رواد قصيدة النثر، الاختلاف بين النص النثري والقصيدة النثرية، بقوله: «لتكون قصيدة النثر قصيدة حقا لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر.. شروط ثلاثة: الإيجاز، والتوهج، والمجانية».
لكن ماذا نجد في ديوان غياث المدهون؟
أكثر ما يفاجئنا قصيدة «4978 ليلة وليلة».. فهي قصيدة تعج بالأرقام فتشعرك بأنك تسرح في صفحات سجل إحصائي في إحدى الدوائر الحكومية:
«أن تكسب هذه الـ4978 يوما
يعني أن تخسر 465 ألفا و338 خطوة في أزقة الشام القديمة
و114 مجلس عزاء تم غيابك
و13 ألفا و712 زجاجة بيرة
ثلاث منها فاسدة».
هل يمكننا أن نسمي هذه القطعة «قصيدة»؟ القصيدة أبعد ما تكون عن عملية الحسابات والأرقام.. فالأرقام تسقطها من عليائها, مهما كانت دلالاتها.
وأيضا نود الإشارة إلى قصيدة «إسرائيل»:
«لولا إسرائيل لما طرد أبي من فلسطين
لما نزح إلى سوريا
لما التقى أمي
لما كنت أنا الآن موجودا
لما كنت أنت الآن حبيبتي».
عادة ننطلق من الذات لنتوسع ونصل إلى قضايا كبيرة وشاملة كقضية الوطن.. ولكن الشاعر انطلق من قضية ومأساة الوطن ليصل إلى نقطة ضيقة هي ذاته وحبيبته.. فيشعر قارئ النص بتهافت النص، ويتمنى ضمنيا ألا يكون عرض الشاعر لهذه المسألة، وبهذه الطريقة، تهكما على المأساة التي وصل إليها المواطن الفلسطيني.
ولا يسعنا بعد قراءة هذا الديوان، ودواوين أخرى حديثة، إلا أن نذكر قضية تتفشى في أيامنا هذه بسرعة المرض المعدي، وتثير القلق في الساحة الشعرية، وهي مشكلة اختيار الألفاظ، فهل يعقل أن يستخدم الشاعر في قصيدة كلمات مثل: «بول الحزن»! أو «عواؤها المسعور»، وعبارات أخرى أكثر إيذاء للعين والروح، لا يمكن تسجيلها.
ومن القصائد العجيبة قصيدة «زر قميصك»، ففي هذه القصيدة يكرر الشاعر كلمة زر 7 مرات، ولو كان هذا الزر من ذهب لمللنا من عده.
ويقفل قصيدته قائلا:
«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وزر هوى قرب الجدار بمنزلي».
قمة الاستخفاف بأبيات رائعة امرئ القيس، بتبديل بعض كلماته في الشطر الثاني إلى كلمات لا معنى لها.
وفي الصفحة 108 يكرر الشاعر كلمة «ارم» في مطلع كل سطر.. كررها نحو 7 مرات.. فيشعر القارئ وهو يقرأ هذه السطور بالاختناق وصعوبة التنفس.
كما يقع الشاعر في فخ الكلمة ومعناها في أكثر من موقع، «كم أشتهي أن أراك خلسة، تلصصا..».
غياث المدهون في كتابه «لا أستطيع الحضور» يظهر عن خيال جميل وموهبة في صياغة الفكرة والصورة بشرط ألا يسمى ذلك شعرا.. ألا يمكن أن نكتفي بقولنا: «نصوص نثرية حرة»؟



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.