هل تمهد الأحداث الكبيرة التي تعصف بالمنطقة، بما تنطوي عليه من ويلات ومآس لميلاد قاموس لغوي وأدبي مختلف، أو في الأقل، للغة تستلهم مفردات ومصطلحات جديدة تتسرب تدريجيا، وبوعي أو غير وعي، إلى كتابات أدبائنا؟
الناقد والشاعر د. محمد الصفراني، يتوقع أن يفرز المشهد الثقافي نتاجا أدبيا مختلفا، بلغة جديدة ومصطلحات مغايرة، شريطة أن يصنع على أيادي مبدعين حقيقيين، لا يسارعون للتعبير عن الأحداث قبل أن تنتهي مرحلتها وتكتمل صورها وتختمر فكرتها.
يقول: «لكل مرحلة قاموسها اللغوي، الخاص بها، فكلمة (ثورة) جديدة على الوطن العربي، وكلمة (ربيع) أخذت مدلولا جديدا غير المدلول المتعارف عليه في السابق، فهي تعبر عن التغيير أو عن التفاؤل أو عن المستقبل والديمقراطية».
ووفق الصفراني، هناك أحداث صاحبتها تعابير، أصبحت لها معانٍ جديدة في العالم العربي، مثل الانتخابات والتصويت، فضلا عن الإشارة البصرية، كالإشارة إلى ميدان رابعة، التي تتبادر للذهن كثورة وانتفاضة للشعب المصري ما تبعها من أحداث خلال مرحلة الإخوان المسلمين هناك، فضلا عن أحداث غزة الأخيرة و«داعش» وغيرها.
ويضيف: «أنتظر أن يكون بالفعل هناك قاموس لغوي يتشكل في المنطقة وهو إخراج هذه المصطلحات إلى السطح الآن وهذا القاموس ينطبق عليه ما ينطبق على الأحداث نفسها، أي لم يكتب بعد، إذ لا يزال قيد الكتابة. ولكن ستصبح هناك كلمات متداولة من هذا القاموس ستجد طريقها للرواية والشعر، وللخاطرة والمقالة الأدبية».
غير أن الصفراني استدرك أن ما يكتب حاليا وقت لحظة الحدث، لم يصل إلى مستوى الكتابة الأدبية والقاموس الأدبي الجديد، لأنه لا تنطبق عليه شروط استثمار مفردات الحدث، وهو برأيه ما يقع في دائرة الاستثمار السطحي الانفعالي وردة الفعل.
ويصف ما يحدث حاليا من كتابة بأنه يتعلق بالحساسية التي تميز الشخصية العربية، والتي تقوم على رد الفعل السريع والمباشر، مبينا أن ذلك ينتهي بأخطاء على المستوى السلوكي وعلى المستوى الأدبي لا تأتي بأدب جيد، مشيرا إلى أنه إذا استكمل الحدث عناصره واستنفد وقته، فسيبرز بشكل ناضج ومغاير قاموس ولغة جديدتين. وعن دوره بوصفه ناقدا في تقييم ملامح هذه المرحلة أدبيا، يقول:
«كناقد أنتظر انتهاء المرحلة، وأدرسها على النصوص الحالية وهي نصوص منفعلة مع المرحلة وليست معبرة عنها لأن الانفعال العاطفي الشخصي هو أكثر من الأدبي، لأنه بعد ما تنتهي المرحلة، قد يغير هذا الشخص أو ذاك موقفه. اكتمال الحدث هو مربط الفرس».
وعن تقييمه لمدى تفاعل الكتاب مع الأحداث، يعتقد الصفراني أن التفاعل ضعيف، ضاربا مثلا بقضية محمد الدرة، «ففي فترة الحدث وبدايته لم توجد صحيفة أو مطبوعة، إلا وأفردت مساحة لقصيدة عنه، وحتى الذين لم يكتبوا شعرا من قبل كتبوه في تلك الفترة، وكذلك الحال في الرواية والقصة. ولكن تلك الانفعالات ذهبت أدراج الرياح. لقد نشرت (مؤسسة البابطين للإبداع الشعري) مجموعة من القصائد قيلت في هذا الحدث باعتبار أنه كان حدث الساعة. وبعد ثلاث إلى أربع سنوات كتبت نصوص جمعتها البابطين أيضاً. وعند المقارنة بينهما، نجد أن بينهما بون شاسع، فالأخيرة أكثر نضجا بكثير».
ويعزي الصفراني سبب هذا البون إلى أن الحدث نضجت عناصره؛ حيثياته ومآلاته، فأصبح التعبير عنه ناضجا أدبيا، بخلاف ما كان عليه الأمر في النتاجات الأولى التي كانت أشبه بالعزاء والمواساة، وهذا ينطبق على الأحداث الآنية الأخرى. المبدع الحقيقي، لن يتناول موضوعاً إبداعياً إلا بعد نضوج الحدث واكتمال عناصره ومخرجاته واختمار فكرته».
* الناصر: «الربيع العربي» حالة مرتبكة
* أما الروائي والكاتب عبد الله الناصر وهو مستشار وزارة التعليم العالي السعودية بالرياض، فيعتقد أن الوضع أو الربيع العربي وما بعده، هو حالة مرتبكة وغير مستقرة وتأخذ أشكالا وألوانا من التغيير الارتدادي بشكل دراماتيكي لا يتيح للمبدع أن يرصدها أو يصفها كحالة واضحة المعالم.
يقول: «في ظل هذا الارتباك الذي أحدثته قوى مختلفة خارجية وداخلية، أفرز تكوين أشبه بالجنين المشوه داخل الرحم، حيث إن هناك مصطلحات تزاحمت مؤخرا في المشهد، منها إرهابية ورهبوية وشرطجية وبلطجية، وهناك دخان ودماء وبارود».
وعليه، يعتقد الناصر أن الوعي البوليسي أصبح أقوى من الوعي الجماهيري، ومن ثم فإنه كما يرى لا تتشكل حالة يمكن للمبدع أن يرصدها ويتفاعل معها إلا في حالة الاضطراب، في المشهد العراقي ونظيره السوري والفلسطيني مثلا. وهنا «يمكن للمتأمل أو المتعايش أن ينفعل مع هاتين الحالتين انفعالا ثابتا لأنهما أخذا شكل الديمومة والمنهج الثابت، ذلك المنهج القائم على الذبح والقتل والتدمير والإحراق والإبادة، فيما أخذ المشهد السوري شكل الفضيحة الأخلاقية والثقافية والأممية».
وبرأي الناصر فإن فضيحة المشهد السوري، تأخذ شكل الإجرام والرذيلة بالنسبة للنظام الذي يبيد شعبه على حد تعبيره، مبينا أنه أصبح أيضا فضيحة أممية لأن العالم كله تواطأ على إبادة الشعب السوري وإحراق أرضه وتدمير بنيته التحتية.
أما الفضيحة الثقافية والفنية فتتجلى بوضوح، كما يعتقد الناصر، في وقوف بعض الكتاب والشعراء والفنانين إلى جانب النظام السوري، حيث إن بعض الذين كانوا يمارسون الغش على المثقفين طيلة ستين عاما، بزعم الحداثة والتنوير والانبثاق نحو الإنسانية، فإذا بهم يعودون إلى شرنقة الطائفية المذهبية. وهكذا وضع عالمنا العربي في حالة مخاضعة لا وضوح فيها ولا بصيص ضوء يستنير بضوئه من أراد أن يكتب من المبدعين عن هواجسه وخواطره، إنما هي قطع من الليل وسحائب من الظلم».
وأما فيما يتعلق بالإنتاج الأدبي في المشهد الثقافي الخليجي فيرى الناصر أن الشعر والقصة والرواية أغرقها طوفان الأمية متمثلة في الأدب الأمي والشعر الأمي أو ما يسمى بالشعر الشعبي. فالحكايات والقصص والأشعار الشعبية، أصبحت هي الطاغية على المشهد الثقافي الخليجي حتى على مستوى المسابقات المليونية والجوائز الثقافية، والمحطات التلفازية والملاحق والمنابر الصحافية، مشيرا إلى أن ثمرتها تتلخص في الشهرة والبيع والشراء، و«إننا نحن نعيش اليوم أزهى عصور الشعر والأدب الشعبي بعيدا عن التنوير العصري».
* د. زيد الفضيل: ميلاد مفردات «تويترية»
* أما الكاتب الدكتور زيد الفضيل ورئيس اللجنة الثقافية لمعرض الرياض الدولي للكتاب في دورته السابقة، فيتصور أن جانبا من المشهد الثقافي السعودي سبق آفاق الربيع العربي في زاوية منه بسنوات كثيرة، وهي الزاوية المتعلقة بمحاولة التنويريين فيه، التحرر من سلطة الطيف الديني المتشدد، وحركته الواسعة في المجتمع على حد تعبيره.
صدمة المجتمع السعودي جراء أعمال المتشددين الإسلامويين، وفق الفضيل، انعكست على طبيعة المشهد الثقافي الذي أظهر تحررا في كثير من أفكاره، ومارس نقدا واضحا لكثير من المظاهر السياسية التي أدت إلى ظهور ذلك الطيف المتشدد.
يقول الفضيل: «كانت كتابات كثير من مثقفينا شاهدا على ذلك سواء من خلال المقالة أو الرواية وحتى على صعيد المفردة الشعرية».
فكان المشهد الثقافي السعودي مواكبا لما يدور في المجتمع بفعالية قوية، في حين انغمس عدد من الدول العربية في أتون ما يسمى بالربيع العربي الذي اصطبغ بلون ديني جراء سيطرة الإخوان المسلمين وتيار السلفية الحركية على وتيرة المشهد السياسي فيه».
وفيما يخص المصطلحات والمفردات الجديدة التي ظهرت في النتاج الأدبي والثقافي، يرى الفضيل أننا نلمس ذلك في استخدام المفردات الـ«تويترية» تحديدا، إذ أصبح «تويتر» ساحة مفتوحة للنقاش الحاد بين المنتمين للتيار الإسلاموي الحركي الذين لم يخفوا مساندتهم السياسية والفكرية لنظرائهم في دول الربيع العربي، وبين جانب واسع من الشريحة المتنوعة للمثقفين السعوديين من ليبراليين وقوميين وكثير من المنتمين لوسطية المفردة والفكرة بمنأى عن الدخول في شرك التصنيفات. وكان من جراء ذلك أن ازداد المشهد الثقافي السعودي وضوحا في تمايز الأفكار، بل وتجلى في كثير من مفرداته كثير من الألفاظ السياسية والقانونية، وإن كانت لم تظهر بجلاء على صعيد المنتج القصصي والروائي تحديدا».
غير أنه يستدرك بقوله إن هذه الألفاظ الوليدة كانت جلية في مسار المفردة الـ«تويترية» والكتابة الصحافية، التي عكست طبيعة وعي المشهد الثقافي السعودي، ومايزت بين محدداته.
* صالحة غابش: غياب الرؤية خلّف الحذر
* وفي هذا السياق قالت الكاتبة الإماراتية صالحة غابش، مدير عام المكتب الثقافي والإعلامي بالمجلس الأعلى لشؤون الأسرة في الشارقة: «أشعر أن لغة الأدب في الوقت الحالي عجزت عن أن تؤدي دورها في التعبير عن قضايا الأمة، على الرغم من أن الأدب شعرا كان أم رواية وحتى القصة القصيرة والمسرح وغيرها كانت إلى وقت قريب انعكاسا لكل تطورات المجتمع. لا أعتقد أن لغة الأدب الحالية، مستوعبة لمستجدات الأحداث وتغيراتها وأثرها على الواقع والإنسان وما يمكن أن يستبقيه التاريخ في دفاتره منها، مع وجود استثناءات لروايات وقصائد.
وتضيف صالحة غابش: «لعل السبب لا يرجع إلى اللغة وصاحبها ولكن إلى حالة الإحباط من عدم وضوح الرؤية أو الخوف والحذر من تناول الأمور من وجهة نظر يؤمن بها الكاتب، الذي قد يكتشف بعد قليل بأنه ضلل وأن الحقيقة لا تزال متوارية في خفايا الأحداث المتتابعة ريثما تنجلي ذات يوم».
وفي الإطار نفسه تتوقع غابش، أن تكون الغلبة للرواية كمنافس قوي من بين الأجناس الأدبية الأخرى، الأقدر على التعبير عن أحداث المنطقة بلغتها التي تتعاطى معها ووفق مفردات إفرازات المشهد الحالي. لكنها تحذر من الغزارة في الكم، فهي «ليست في صالح التطور الإبداعي إن لم يواكبه غزارة في النوع، وفي عمق التناول واللغة والمعرفة التي تأتي بها النصوص الإبداعية، فغزارة الكم لا يعول عليه كأساس لقياس تطور الأدب وتأثيره في المجتمع والثقافة المحلية والإنسانية عموما، بنقله أحداث المنطقة الحالية أو غيرها».
ولفتت إلى أن الأعمال المؤثرة في وجدان الشعوب وفكرها، المستندة إلى أفق ثقافي وحضاري معرفي، وحدها التي تستحق أن تضم إلى قوافل الإبداع، لأنها تؤشر إلى جدية صاحب التجربة ومدى اشتغاله على عمقها، متجنبا الجانب السطحي الذي لا يغني ثقافة ولا معرفة».
* أشجان هندي: اختمار الفكرة أولا
* الشاعرة د. أشجان هندي، ربطت تأثر الأحداث وصورها ولغتها ومصطلحاتها في النصوص الأدبية، بما تستغرق من وقت، مبينة أن المبدع يحتاج إلى مدة زمنية معينة يستوعب خلالها الأحداث ليوظفها شعرا أو رواية أو قصة، تأسيسا على الخبرة المختزنة الصادرة عن رؤية ما.
وهي تتفق مع الصفراني في أن الأثر الآني وإسقاطه على لغة الأدب، لا يتجاوز كونه نتاجا انفعاليا وردة فعل لا يعبر بدقة عن الحدث، بل لا بد أن تأخذ الأحداث وقتا كافيا للتخزين والاختمار على المستوى العام والفردي لأن «تعاطي الأديب مع الحدث ليس كتعاطي المراقب السياسي للحدث، لأن الأخير لا ينتظر لأن تختمر الفكرة لتخرج ناضجة ومعبرة ومشخصة لكافية الجوانب، وذلك لأنه يسقط عليها تحليلاته وقراءاته خاصة له».
وما تراه أشجان هندي حاليا من كتابات لا يخرج عن كونه انعكاسا لحظيا ومحاولة لمواكبة الحدث بطريقة إعلامية أكثر منه طريقة أدبية. ومن هنا، يكون العمل ناقصا، بخلاف الأديب الذي يستغرق زمنا لاستيعاب عناصر ومقومات وصناعة الحدث».