جورج قرم يطرح «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان»

المواطنون يزدادون يأسا من تحسن أوضاع بلادهم بسبب النظام الطائفي المعتمد

جورج قرم
جورج قرم
TT

جورج قرم يطرح «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان»

جورج قرم
جورج قرم

قد يجد القارئ في هذا الكتاب تفسيرا لسوء الأداء السياسي والاقتصادي في لبنان، الذي يحرم المواطن من أبسط ظروف العيش الكريم. لقد مر لبنان كما هو معروف بأحداث جسيمة تغلب على تداعياتها، لكن تفاقم الأزمات والمشاكل السياسية والإنمائية، وتدنِّي أداء الدولة، وتفاقم الأزمات المعيشية، وتراجع حالة الخدمات العامة، زاد من يأس المواطنين في تحسين أوضاع بلادهم، خصوصا مع ما يحصل في دول الجوار من ثورات، ويرتد سلبا على الوطن الصغير المساحة. فقد ازداد الانقسام الحاد بين الزعامات السياسية اللبنانية، وارتفع الدين العام على الرغم مما أنفقته الدولة منذ ثلاثين سنة بحجة الإعمار، وعلى الرغم من موارده الطبيعية، وكفاءاته البشرية التي لا يعلم كيف يستغلها في الداخل فيرحلها إلى خارج حدود الوطن.
قسّم المؤلف كتابه الصادر عن «دار الفارابي»: «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية»، إلى جزءين: الأول يتعلق بالأوضاع السياسية، والثاني بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وفي الجزءين اقتراحات عديدة حول المعالجات الممكنة خارج الإطار التقليدي لكل من الثقافة السياسية والاقتصادية اللبنانية، وذلك اعتقادا منه بأن المشكلة التي نشعر بأنها مستعصية الحل هي مطروحة بشكل غير صحيح.
يطرح المؤلف مجموعة أسئلة محورية حول إمكانية فصل السياسة عن الاقتصاد في الأزمة اللبنانية، ومصير نظام لبنان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وما هي قدرة البلاد على الصمود أمام المتغيرات العملاقة التي تشهدها المنطقة
هناك الكثير من اللبنانيين الذين يعتقدون أن الأزمة هي نتيجة سوء أداء السياسيين واستهتارهم بالمصلحة العامة، ولذلك لا ترى هذه الفئة أي فائدة من الخوض في أمور الإصلاح، طالما أن لبنان خاضع للنظام الطائفي الذي جعل خيرات البلاد مجرد تقاسم مغانم بين الزعماء.
ويرى بعض اللبنانيين أن أصل البلاء هو في هيمنة سوريا على هذا النظام وتداخلها فيه بشكل متواصل، سواء خلال سيطرتها ووجودها في لبنان أم بعد خروجها من لبنان عام 2005. وفي نظر هؤلاء أن مجرد تغيير النظام في سوريا سيسمح بحل المشاكل التي يتخبط فيها لبنان.
ويرى فريق ثالث من اللبنانيين أن أصل الداء في سوء تطبيق اتفاق الطائف وانحرافه نحو نظام «الترويكا» وعدم تحقيق الإنماء المتوازن والوفاق الوطني الحقيقي. وهناك فئة واسعة من اللبنانيين تعتقد أن الوضع لا يمكن أن يتحسن في ظل استمرار الصراع العربي الإسرائيلي.
هذه الطروحات الأربعة تؤكد استحالة إجراء أي إصلاح اقتصادي من دون إعادة النظر في الوضع الإقليمي، وكذلك في الوضع السياسي الداخلي، وهي طروحات تؤدي كلها إلى طريق مسدود.
ويرى المؤلف ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في هذه الطروحات. ويقول إن الحكمة التقليدية ترى أن استقرار الأحوال وحسن الحكم السياسي هما القاعدة الأساسية للنمو الاقتصادي والازدهار. لكن هناك دولا مارست أنواعا مختلفة من الاستبداد والعشوائية، ومع ذلك فإن معدلات النمو الاقتصادية فيها كانت عالية. مثال ألمانيا في القرن التاسع عشر في عهد بسمارك، وتشيلي في سبعينات القرن الماضي عندما استولى الجيش على الحكم. وكوريا الجنوبية التي لم يسد فيها الفساد فقط إنما أيضا الاضطراب الأمني والحرب الشعواء التي عصفت بشبه الجزيرة الكورية، وقسّمتها إلى دولتين متناحرتين، كما يستشهد بالإنجازات الأولى للثورة الصناعية وبوادرها التي تمت في أجواء الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك، أو في حالة حرب مستمرة في إيطاليا بين الإمارات والممالك والجمهوريات الشهيرة مثل البندقية وجنوى وفلورنسا.
أما الفكر الاقتصادي العربي فلا يزال يعتمد النظرة التبسيطية، فهو يجد في الأوضاع الأمنية المضطربة عذرا سهلا لتفسير العجز الهائل للمجتمعات العربية في امتلاك القدرات التكنولوجية الحديثة والمساهمة في حركة التجارة الدولية والعولمة على قدم المساواة مع البلدان التي انتشلت نفسها من الحلقة المفرغة للتخلف وأصبحت فريقا مهما في الحياة الاقتصادية الدولية، مثل دول شرق آسيا ككوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا، وهذه الأخيرة دولة إسلامية تمكنت من الإفلات من حلقة التخلف.w
يعرض المؤلف المنظومة الفكرية بين أنصار وظيفة لبنان الخدماتية والتوسطية وأنصار الإنماء المتوازن، والتي أثارت جدلا بين مدرستين. فالمدرسة الأولى استلهمت كتابات ميشال شيحا، وتبرر طرحها بالتراث الغني والمتعدد الجوانب، وتختصر هذا الإبداع بالتجارة والسياحة والهجرة والسمسرة، بينما كانت المدرسة الثانية تبرر موقفها بأن للبنان موارد مائية وزراعية مهمة وكفاءات بشرية مهمة. لذلك كانت ترى إمكانية تطوير الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد متنوع يعتمد على القطاع الزراعي والصناعي والخدماتي في آن واحد. وكانت ترى في هذا التطوير تأمينا لفرص عمل كافية لاستيعاب سرعة زيادة السكان.
كسبت المدرسة الأولى المعركة إلى عهد فؤاد شهاب الذي عمل بسياسة اقتصادية واجتماعية تهدف إلى التنمية المتوازنة بين كل المناطق اللبنانية، وإلى تقوية كل من القطاعين الزراعي والصناعي، إضافة إلى تقوية أجهزة الدولة الاقتصادية والاجتماعية. فأنشأ البنك المركزي والضمان الاجتماعي والمشروع الأخضر وكثيرا من المشاريع التنموية.
لم تحظ الشهابية بدعم البرجوازية التجارية والمالية التي ظلت أسيرة حلم وخيال تحويل لبنان إلى جمهورية تجارية مركزة في بيروت، تخدم المنطقة، وتصبح نوعا من إمارة شبيهة بمونت كارلو. وكانت هناك مساع مختلفة لجعل لبنان جنة ضريبية. ومن العوامل التي دعمت اتجاهات المدرسة الأولى إثراء المنطقة العربية بعد عام 1973 وارتفاع أسعار النفط، وهجرة الكثير من اللبنانيين إلى الدول المصدرة للنفط وإثراؤهم السريع نتيجة السمسرة والتوسط. فوجد لبنان نفسه في نهاية الحرب أمام أعداد ضخمة من الأثرياء الذين يرون الانتعاش الاقتصادي فقط من خلال الصفقات والأعمال المخالفة للقوانين الضريبية والاقتصادية بشكل عام.
والحقيقة أن الفريق الإعماري فاتته التغييرات الاقتصادية الكبيرة التي حصلت في المنطقة العربية خلال السنوات العشرين التي عصفت خلالها الحرب في لبنان. فدول الخليج العربي طورت بنيتها التحتية إلى أبعد الحدود، وأقامت مؤسسات مصرفية وتجارية وخدماتية عملاقة. وتم إلغاء التشريعات الاشتراكية التقييدية في الدول التي كانت تنحو هذا المنحى. لذلك لم يعد الاقتصاد اللبناني حاجة ماسة لاقتصاد المنطقة، إذ إن جميع الأقطار العربية المجاورة أسست علاقات وثيقة مع الأسواق العالمية الصناعية والمالية والخدماتية.
إن إصلاح البنية الاقتصادية اللبنانية يتطلب إصلاح ثلاثة محاور أساسية في رأي جورج قرم:
1) النظام الضريبي لجعله يتناول المداخيل المالية والريعية الطابع وتخفيف وطأته عن المداخيل الناتجة عن نشاطات إنتاجية.
2) القضاء التدريجي على دولرة الاقتصاد، وعلى استعمال ازدواج العملة لتوليد مداخيل غير شرعية على حساب الخزينة.
3) إصلاح النظام التربوي لكي يهتم بإبقاء شباب لبنان في وطنهم، فهجرة الكفاءات ليست أمرا حتميا.
ويرى المؤلف أن النظام الطائفي في لبنان نتاج تاريخه الحديث، فنظام جبل لبنان في ظل الإمارة المعنية والشهابية كان نظاما إقطاعيا عابرا للطوائف. وقد بدأ مسار تسييس الطوائف بتصاعد نفوذ الدول الأوروبية الكبرى داخل مقاطعات السلطنة العثمانية، وبعد انهيار السلطنة توسع ‏تسييس الطوائف. ‏
إن لعبة تسييس الطوائف وإدخالها في شبكات النفوذ الإقليمي والدولي يحول دون قيام دولة قوية ومستقلة. فالنظام الطائفي يعكس التوازنات الإقليمية والدولية بدلا من أن يكون أداة صالحة لتحقيق الديمقراطية التوافقية كسويسرا وبلجيكا وهولندا التي تلعب فيها العرقية أو المذهبية دورا كبيرا، ‏إنما ضمن ديمقراطية شفافة وسيادة كاملة لسلطة الدولة. أما في لبنان فالطوائف تقف حاجزا بين المواطن والدولة، فوجود الدولة مشروط باستمرار بحسن نية زعماء الطوائف، وهم بدورهم خاضعون لنفوذ دول أجنبية. فالطريق إلى السيادة يتطلب العمل على جبهتين:
1) رفض المواطنين ‏لظاهرة تسييس الطوائف من جهة.
2) فصل البنية القانونية للدولة عن البنية القانونية للطوائف من جهة أخرى.‏
ويقترح المؤلف أفكارا للإصلاح المؤسساتي في لبنان. فعلى صعيد السلطة التنفيذية يرى أن يُنتخب رئيس السلطة التنفيذية بالاقتراع العام، لأن رئيس الدولة الذي لا ينتخبه الشعب ما هو إلا صورة شكلية للحكم لا يتمتع إلا بالقليل القليل من السلطة والصفة التمثيلية. فالانتخاب على أساس الاقتراع العام سيسمح بإلغاء الالتباس بين تمثيل الطائفة وتمثيل الشعب كله.
أما النظام الانتخابي الأغلبي في دورة واحدة فهو الأسوأ بين الأنظمة، فهو يكرس نظام الزعامة ووراثة التمثيل السياسي. فحكم الزعماء يعني تحويل الديمقراطية إلى حكم الأثرياء، أي أنه نقيض الروحية الجمهورية. وحده النظام الانتخابي النسبي كفيل بأن يؤمّن تمثيل كل التيارات السياسية ويشجع وجود الأحزاب التي تقدم برامج واضحة، في حين أن الاقتراع بالأغلبية في دورة واحدة يشجع الشعبية الفردية وتأثير المال ونفوذ الزعماء.
يرى المؤلف أن تناول قضية الشرق الأوسط ووضع لبنان الصعب فيه من الأمور المعقدة والحساسة. فانقسام اللبنانيين منذ قرنين كان موضوعه تحالفات البلاد مع الخارج. ولا يزال هذا الانقسام يشكل نقطة التباين المحوري وفي حال لم ننجح في تخطي هذا التباين ستستمر التجاذبات المتناقضة في تمزيق لبنان. فالثقافة الأوروبية ترى في منطقة الشرق الأوسط منطقة مركزية في الصراعات الدولية. فالشرق الأوسط يحوي أكبر مخزون طاقة في العالم، ويتمتع بموقع استراتيجي بين القارات الثلاث، ومنبع الديانات التوحيدية.
فلماذا تخلف العرب وتقدم الغرب؟ يكمن الجواب في نقاط يختصرها المؤلف في انقسام العرب بين مؤيد للغرب ورافض له. وقد تغلبت المدرسة الأولى، غير أن الأقاليم العربية التي تحررت من السلطنة العثمانية وقعت في قبضة الدول الأوروبية، ولم تتمكن من التوحد، وتكونت بعض المحاور المتخاصمة بين الأقطار العربية.
كتاب الدكتور جورج قرم مساهمة جدية في توصيف المجتمع اللبناني والفرقاء الذين يقبضون على خناق اللبنانيين.



قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».


رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.