في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، تسببت غضبة شعبية ونقابية في مصر، في إحباط محاولة لتكريم المخرج الفرنسي كلود ليلوش، ضمن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بسبب مواقفه «الداعمة للصهيونية»، لكن وقبل تلك الواقعة بأسبوعين تقريباً، كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يبحث علانيةً علاقات بلاده مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في نيويورك، على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2018... مشهدان ربما يلخصان حال معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية التي تم توقيعها قبل أربعين عاماً، ورغم ما يراه البعض من تحقيقها «تطورات سياسية» على المستوى الرسمي، فإنه لا يمكن رصد نتيجة مماثلة للمستوى الشعبي.
ومنذ توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن، وبرعاية أميركية، في 26 من مارس (آذار) عام 1979، «معاهدة السلام»، شهدت المعادلة السياسية ما يمكن اعتباره «انقلاباً استراتيجياً» في موازين القوى، وتتابعت ردود أفعال عدة منها تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية لنحو 10 سنوات تقريباً.
وجاءت الدعوة لمعاهدة السلام مع مصر، بمبادرة الرئيس المصري أنور السادات، الذي زار إسرائيل عام 1977، وبدا حينها من شبه المستحيل أن تكون نتيجتها ذات آمال بالنجاح، إذ كان اليمين الإسرائيلي بقيادة مناحم بيغن، قد وصل لتوّه إلى الحكم، وهو معروف برفضه دفع ثمن السلام، ولكن الولايات المتحدة بقيادة الرئيس جيمي كارتر، وجدت في الزيارة، فرصة، خصوصاً أنها كانت قد بدأت تتعاون مع الاتحاد السوفياتي على عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط عارضته إسرائيل بشدة.
وبموجب هذه الاتفاقيات انسحبت إسرائيل من سيناء المصرية بالكامل وهدمت مستوطناتها وأخلت 7000 مستوطِن، ووافقت على منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً كاملاً، وسحب الجيش الإسرائيلي من معظم مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن تدار مفاوضات لخمس سنوات تُفضي إلى تسوية أعمق تتضمن اعترافاً بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. ولكن هذا الجانب من الاتفاق لم يطبَّق، إذ كان يتجاهل منظمة التحرير الفلسطينية ويتحدث عن مفاوضات مع الأردن ووفد فلسطيني محلي من الضفة والقطاع. وقد رفض الأردن المشاركة وكذلك الفلسطينيون، ووجدت حكومة بيغن هذا الرفض ذريعة لتنفيذ أهدافها، فأقامت المستوطنات بوتيرة جنونية في الضفة والقطاع وفي القدس الشرقية المحتلة.
ويضع أستاذ العلوم السياسية الدكتور مصطفى كامل السيد، معياراً لتقييم المعاهدة بعد أربعة عقود، متمثلاً في الهدف الذي صاحب إعلان توقيعها، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إن أطرافها اعتبروها بداية لتسوية شاملة، وأنها ليست «صلحاً منفرداً بين مصر وإسرائيل». ويستدرك: «واستناداً إلى هذا الهدف فإنها لم تحقق تقدماً على سبيل التسوية العربية - الإسرائيلية، وفق ما هو قائم على أرض الواقع في الضفة والجولان وغزة».
وحسب تقدير السيد، فإن المعاهدة «حققت لإسرائيل كل ما تريده، فقد خرجت القاهرة من خانة الصراع، وأمّنت دولة الاحتلال الجبهة الغربية لها».
وبشأن التطور الذي دخل واقعياً على نص المعاهدة والتي تقضي نصوصها بوجود عسكري مصري محدود في شمال سيناء، وهو ما تغير الآن بوجود قوات مصرية بعتاد ثقيل لملاحقة العناصر الإرهابية المسلحة في المنطقة، يقول السيد: «إن التغيير الذي حدث لا يعود لنصوص المعاهدة، بل بالخطر الطارئ على مصر وإسرائيل، خصوصاً أن بعض هذه المنظمات يدّعي عداءً لإسرائيل، وبالتالي فإنه لم يكن متصوراً أن تمانع الأخيرة في دخول قوات مصرية كثيفة التسليح إلى المناطق المحظورة في المعاهدة».
وتزامناً مع المناسبة، نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية، تقريراً، أمس (الثلاثاء)، أشادت فيه بـ«علاقات السلام الناجحة نسبياً»، وقالت إن «الاتفاق صمد رغم العديد من الهزات». وأشار التقرير إلى أن «الاتفاقيات أفرزت تعاوناً واسعاً في مجال الزراعة والسياحة والأمن والسياسة».
ومع أن قيمة الاستيراد الإسرائيلي من مصر بلغت 650 مليون دولار فقط، والصادرات الإسرائيلية إلى مصر لم تتجاوز 110 ملايين دولار في سنة 2018، ومع أن عدد السياح الإسرائيليين إلى مصر بلغ ربع مليون نسمة (معظمهم عرب من فلسطينيي 48)، فإن التعاون بين البلدين أثمر اتفاقية منطقة التجارة الحرة (QIZ) التي تم توقيعها بين البلدين سنة 2005 مع الولايات المتحدة، وبموجبها بدأت مصر تصدر منتجات مصانعها بشراكة إسرائيلية محدودة وجمارك مخفضة إلى الولايات المتحدة، بقيمة متراكمة 8 مليارات دولار.
وتحدث عدد من الدبلوماسيين القدامى، الذين عملوا في مصر عبر هذه السنين، فأكدوا أن اتفاقيات السلام «أثبتت جدواها وأن العلاقات المتطورة بين البلدين هي الأفضل». ووصفها السفير الأسبق في القاهرة، د. حاييم كوريين، بأنها «تحولت إلى علاقات استراتيجية، صمدت في امتحانات كثيرة، ولم تنخفض حتى في زمن حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، أحد زعماء الإخوان المسلمين». وأضاف كورين: «لا يوجد بين البلدين حب وعشق ولكن توجد شراكة مصالح».
ويقدّر كامل السيد أن «العلاقات الآن على المستويات الرسمية العليا في الجانبين ودّية ومزدهرة وتتضمن تنسيقاً أفضل من أي وقت مضى، ويتواكب مع ذلك تطور مماثل في العلاقات الاقتصادية، وعلى وجه خاص بعد توقيع اتفاقية تصدير الغاز من إسرائيل لمصر، والدخول في نطاق منتدى غاز شرق المتوسط، مع دول عدة، بما يشير إلى زيادة في معدلات التبادل التجاري تتجاوز ما كان سابقاً».
وبشأن انعكاس المعاهدة شعبياً في الجانب المصري، يلفت السيد إلى أنه «عقب عودة الرئيس السادات من زيارته المفاجئة لإسرائيل قوبل بحماس من حشود استقبلته بدافع وعود الرخاء المنتظَر، وانتهاء التعبئة الحربية والدخول في عصر الاستثمارات، وحشود السائحين الإسرائيليين لتحقيق انتعاشة لاقتصاد البلاد»، ويضيف: «الآن وبعد كل هذه السنوات، نجد أن نحو 32% من المصريين، حسب بيانات رسمية، لا يزالون تحت خط الفقر، وبالتالي تراجعت مستويات الحماس لدى البعض الذي كان منتظراً لتك القضية».
وأثار تطبيع بعض المصريين العلاقات مع الإسرائيليين، عواصف لم تتوقف حتى الآن، وجوبهت برفض، أسفر عن الإطاحة بالنائب البرلماني السابق توفيق عكاشة، وإسقاط عضويته بمجلس النواب عام 2016 على خلفية مقابلته السفير الإسرائيلي آنذاك حاييم كوريين.
من جهتها تفاعلت السفارة الأميركية في القاهرة مع الذكرى الأربعين للمعاهدة، ونشرت مقالاً باسم القائم بأعمالها توماس غولدبرغر، قال فيه: «أرى كل يوم النتائج الإيجابية لهذا الاختيار الشجاع (...) أرى ذلك في التنمية الاقتصادية لمصر، ودورها في المنطقة، وعلاقتها بالولايات المتحدة... نحن نعتقد اعتقاداً راسخاً بأنه بسبب السلام أصبحت مصر أكثر استقراراً وأكثر أمناً وأكثر ازدهاراً، بما يضمن دورها في قيادة المنطقة».
من جهته، قال وزير الخارجية الأميركي، في بيان، أمس، إن «معاهدة السلام أسست بين مصر وإسرائيل فصلاً جديداً في تاريخ الشرق الأوسط بعد اتفاقيات كامب ديفيد». ولفت إلى أن «هذا الإنجاز الدبلوماسي المتوج، هو نتيجة سنوات من المفاوضات المكثفة». كما شدد بومبيو في البيان، على أن اتفاقية السلام «مهّدت للمزيد من الأمن والاستقرار والتكامل في المنطقة، وأنهت فترة طويلة من النزاع المسلح».
معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية بعد 4 عقود... رفض شعبي رغم «الازدهار» الرسمي
بومبيو: أنهت فترة طويلة من النزاع المسلح

مصافحة معاهدة السلام بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر في مارس 1979
معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية بعد 4 عقود... رفض شعبي رغم «الازدهار» الرسمي

مصافحة معاهدة السلام بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر في مارس 1979
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة