بسام منصور: كلما اقتربت من الكلام هرب مني

قال إنه هرب من لبنان لأنه لا يحب «المواجهة في الوحل»

غلاف المجموعة  -  بسام منصور
غلاف المجموعة - بسام منصور
TT

بسام منصور: كلما اقتربت من الكلام هرب مني

غلاف المجموعة  -  بسام منصور
غلاف المجموعة - بسام منصور

صدر للشاعر والإعلامي اللبناني بسام منصور ديوان جديد هو «يكفي أن تعبر الليل» (دار النهضة العربية - بيروت) بعد انقطاع استمر فترة طويلة، لكن هذا لا يعني أنه انقطع عن كتابة الشعر، شاغله الأول والأخير. ويأتي الديوان الجديد وقد تكثفت فيه تجربته الشعرية التي تجلّت في ديوانيه السابقين «وجاء أنه» 1986 و«الفصول السبعة» 2002. عمل منصور منذ استقراره في باريس عام 1976، في مؤسسات صحافية عربية وأجنبية كثيرة، منها مسؤول إعلامي للمنطقة العربية في منظمة اليونيسكو، حيث أشرف على تأسيس موقعها وتحريره. هنا حوار معه عن تجربته الشعرية بمناسبة صدور مجموعته الجديدة:
> مر زمن طويل منذ أن أجريت معك حواري الأول، وها أنا أعود إليك بعد قراءة مجموعتك الجديدة بعين جديدة، ما الذي اختلف بين هذين التاريخين؟
- هل فعلاً مر كل هذا الوقت؟ هل ترانا ما زلنا على قيد الحياة أم يشبه لنا؟ في أي معطف اختبأنا حتى وصلنا إلى ما نحن وصلنا إليه وأي عربة زمن امتطينا؟ ليتني قادر أن أعود في هذه العربة إلى أول الوقت لأصحح كل أخطائي وأخطاء غيري، ينزلق الوقت بين أيدينا من دون أن نتمكن من الإفادة منه لتحسين ظروف حياتنا وتحسين مجتمعاتنا لبناء غد أفضل. أرى أن العالم يسير من سيئ إلى أسوأ، وما الابتكارات العلمية والرقمية الجديدة والمتسارعة إلا لتزيد من بؤسنا قبل أن تزيد من سعادتنا. في لقائنا الأول، كنا لا نزال نحلم بأن نبني مجتمعات عادلة قائمة على الإنصاف والمساواة والكرامة للجميع... والذي اختلف اليوم هو أننا نود أن نعود إلى ذلك الوقت لنكتفي به ونمنعه من التقهقر.
> لماذا ينقطع الشاعر في نظرك عن كتابة الشعر؟
- لا أعتقد أن الشاعر يمكن أن ينقطع عن كتابة الشعر لأنه شرط وجوده بالمعنى الفعلي والمجازي. قد يكون هناك بعض الخوف والتردد والشعور الكبير بالعبث ولكن التخلي والانقطاع من الأمور المستحيلة. إن الموهبة لا تجف وهي لا تمتلئ أبداً، الموهبة رحم يجب أن تخصب حتى تنجب. ولكن حالة الخصب فيها لا تكتفي بلقاح واحد إنه لقاح متعدد المصادر والأماكن. ما تكتبه الآن قد تجده ساذجاً غداً وتعود وتجده رائعاً بعد غد.
> حاولت في مجموعتك «يكفي أن تعبر الليل» أن تعمل على تكثيف تجربتك السابقة في ديوانيك «وجاء أنه» 1986 و«الفصول السبعة» 2002.
- «كلما كتبت كلمة ابتكرتها» كتبت ذات مرة. إن ما تسميه تكثيفاً موجود دائماً في محاولاتي الإبداعية. الكلمة عالم لا يتكرر. إنه تجديد دائم. كلما اقتربت من الكلام هرب مني كأنني وحش ضار في عالم من المخلوقات السحرية. وليس التجريد إلا محاولات صعبة لكشف ما يصعب الكشف عنه من عالمنا ووجودنا. قد تجد طريقك إلى النور عبر الحب أو عبر الغناء أو عبر الرياضة، أما أنا فطريقي في الحب والغناء والرقص والرياضة بالكلام. الكلمة هي كبسولة وصولي إلى خفايا الكون المجهول.
> أثارت قصيدة النثر جدلاً بين شعر التفعيلة والشعر التقليدي العربي، يصل أحياناً إلى الطلاق بينهما... ما رأيك؟
- إن الشعر موجود في النثر منذ بدايات الوقت وفي كل الثقافات والحضارات. وفي اللغة العربية قبل غيرها، فإن النثر العربي التراثي خزان شعري هائل والأمثلة كثيرة. وضع الدكتور والشاعر أديب صعب في مقالته عن «مجموعة يكفي أن تعبر الليل» إصبعه على جانب لم أكن أعيه؛ هو أنني اعتمدت التفاعيل في أمكنة ما من دون وعي بذلك. واسمح لي أن أشاركك رأيه: «نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة، (تُغمِض في جفن الحبّ ويَسهو)، تجري على إيقاع (فعلن)، الذي يتكون منه الوزن المتدارَك. على هذا الإيقاع أيضاً عبارة (لو كان الشعرُ امرأةً)، وأيضاً: (وَجهُكَ أجملُ ما في المرآة). ومن الموزون على مجزوء الخفيف (فاعلاتن مفاعلن): (يَعبرُ الوقتُ دونَنا). ومن الإيقاع نفسه: (أنتَ والوقتُ توأمان). وعلى الكامل (متفاعلن): (ما لي وما لكِ والطريقُ قصيرُ؟). وعلى المتقارِب (فعولن): (وتَرمي بها في المحيطِ البعيد)».
إن التماهي في الشعر هو أكثر جدوى من التماهي في الأشكال. الشعر جوهر.
> لماذا لجأت إلى باريس بعد نشوب الحرب الأهلية؟ هل مهمة الشاعر الهروب من واقعه أم مواجهته؟
- إن الحرب الأهلية اللبنانية بالنسبة إلي أبشع الحروب في التاريخ. وما كان لي، وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أن أتعايش مع هذه الحرب بأي شكل من الأشكال. تلك الحرب البشعة أجهضت أحلامنا بالتقدم والحرية والسعادة للجميع، وبدل أن نتقدم عدنا معها إلى العصر الحجري، بأسوأ صوره لأنه عصر حجري بتقنيات حديثة. وما كنت أخاف منه في ذلك الوقت تحقق اليوم بحيث توسعت هذه الحرب الأهلية واتسعت وأصبحت حرباً أهلية عربية. هربت؟ نعم هربت. لا أحب المواجهة في الوحل. وأدعو جميع الشباب أن يفعلوا مثلي ويهربوا من الحروب حتى لا يعود لتجار السلاح من يشتري منهم.
> ما مخاطر الغنائية على الشعر في نظرك؟
- الغنائية ليست خطراً ما دام أنها لا تنزلق إلى السطحية. وأعتقد أننا اليوم في وقت تداخلت فيه المدارس القديمة لابتكار عالم جديد معقد كلما دخلت إليه تعيد اكتشافه من جديد. في قول المتنبي: «حببتك قلبي قبل حبِّك من نأى وقد كان غداراً فكن أنت وافياً»، هناك غنائية دائمة لكل العصور وعلى مدى الدهور. وكذلك في «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر» لبدر شاكر السياب... مهمتي أن أهز أغصان الشعر من كل العصور حتى تبقى المواسم مثمرة بالكلام الأليف.
> ما علاقتك بالشاعر الراحل أنسي الحاج؟ وما تقييمه لك من وجهة نظر شاعر، وأنت تخاطبه في بعض قصائدك؟
- أنسي الحاج الشاعر الملعون، الشيطان والملاك في آن. لقد اجتمعت فيه كل الصفات وليست قادرة على تلخيصه. كان شاعراً نادراً وكائناً نادراً وصحافياً نادراً. في الشعر كان من أوائل الثوار، بمعنى دفع الشعر حتى الطرف الآخر للحرية في التعبير والخيال، وكان متطرفاً في مخيلته التي تحولت معه آلة للخصب الدائم. إنني محظوظ جداً أن هذا الشاعر الكبير وهذا الإنسان الكبير كان واحداً من أساتذتي.
> هل تعتقد أن القصيدة تنتهي عند عنوان معين؟ أم أن النص هو الذي يحرر الشاعر من قيوده؟
- أحياناً، يكون العنوان أصعب شيء يمكنني أن أكتبه بعد الانتهاء من القصيدة. تشتبك العناوين في مخيلتي وتتزاحم. وأحياناً، يأتي العنوان كأنه الطلق الأول لمولد القصيدة. إن القصيدة تبدأ ولا تنتهي لأن حدودها المطلقة هي ما تجعلها تتفتح في مخيلة القارئ.
> تسعى على الدوام إلى استخدام مفرداتك الشعرية التي تميزك... هل تعتقد أن على الشاعر أن يؤسس لمفرداته الخاصة؟
- باختيارك المفردات تختار القصيدة. الكلمة هي التي تحدد مسار المعاني والصور والرموز. الكلمة ابتكار يتجدد مثل الحب لا ينضب إلا ليمتلئ من جديد. المهارة في الشاعر أن تكون قادراً على ابتكار مفرداتك ولغتك كما تبتكر من تحب... المرأة التي تحب لا يمكن أن تكون إذا كنت عاجزاً عن ابتكارها.
> الليل مادة لطالما عالجها الشعراء والكتّاب في كتاباتهم... هل كان الليل دليلك إلى الشعر والحياة؟
- الليل هو أحب الأوقات إلى قلبي وأكثرها سطوة. ربما في حب الليل تتألق مازوشيتي وتصل إلى أوجها. بقدر ما أحب الليل أخافه. أذكر، في الماضي، كنت أصل الليل بالنهار سهراً وعملاً ومتابعة. كنت أخرج من النادي الليلي إلى البيت لأستحم وأرتدي ملابس جديدة وأذهب إلى العمل أو إلى الجامعة أو المكتبة. كان هناك تواصل مطلق بين الليل والنهار والنوم كان عدوي الدائم. حينما بدأ الليل يتحول إلى زمن للنوم الصعب أخذ يتحول إلى عبء وكابوس.
> أنت شاعر «تعلق مرساتك في الرمال المتحركة»... ألا وجدت الأرض الثابتة التي تقف عليها؟
- وجدت الأرض؟ نعم وجدتها، بل وجدت الأراضي ولكنها كلها متحركة وغير ثابتة، لا شيء فيها يمكن أن نقول إنه صلب. هناك قول لأبي العلاء في وصفه الأرض: «خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد». الرمال المتحركة هي نحن، والمرساة نعلقها في أجسادنا.
> لماذا هذا الاقتصاد شديد في اللغة؟
- كما هو ممكن أفعل. هل هو اقتصاد في اللغة أم هو نوع من أن نوفر أكبر كمية من الوقت لتكون حياة أوفر؟ هناك لعبة مرآة بين الوقت واللغة. هل اللغة ترى نفسها في الوقت أم الوقت هو الذي يرى نفسه في اللغة؟ يمر عقد من الزمن من عمرك كأنه لحظة، فلا يمكنك أن تجعل من هذه اللحظة قاموساً بملايين الكلمات. إذا ابتكرت كلمة أو اثنتين تكون عملاقاً.
> نلاحظ أن فلسطين تتردد في شعرك قضية وجودية وليست سياسية...
- لو لم تكن مأساة فلسطين لكنت أكثر الناس سعادة اليوم. أنا لا أحولها من قضية سياسية إلى قضية وجودية، إنها أصلاً مسألة وجودية وإنسانية في الصميم. تعالَ نتأمل بالذي حصل ويحصل؛ هل كان يمكن أن يتم ذلك من دون أن يتبعه زلزال وجودي في الصميم في أي مكان آخر في العالم؟ المهم عندي هو أن تنتهي مأساة الشعب الفلسطيني. ووجود فلسطين في شعري يأتي من شعوري بمصدر الألم الحقيقي. وربما لهذا السبب أرادوا أن يحولوا بلداننا كلها إلى جراح مفتوحة.
> تتناول الحياة اليومية ولكنك تسعى على الدوام إلى رفعها إلى مستوى الأسطورة؟
- ربما هناك تماهٍ ما بين اليومي وما وراء اليومي، ما بين الواقع والوهم، أو ما بين الحياة وما بعد الحياة أو ما فوقها. أن تجعل من سلسلة الثواني والدقائق والساعات والأيام حبكة جديدة تبني عليها قصتك مع العمر، تحدٍ حقيقي يجعل منك أنت الكائن البسيط نوعاً من جلجامش بملامح عامل مقهى أو سائق باص أو راكب دراجة أو رجل يسير على الرصيف دون أن يعرف إلى أين يمضي.
والوقت هنا هو أخي التوأم يشبهني وأشبهه حينما ينتهي أنتهي معه. أنا حليفه وهو الفخ الذي ولد معي.
> تشير إلى الموت من خلال بعض الرموز السياسية اللبنانية... هل يصطف الشاعر إلى جهة معينة في نظرك؟ ألا يشكل خطراً على شعرك؟ أم لك موقف صارم من بعض القضايا؟
- أعتقد أنك تقصد قصيدة «إلى جبران تويني»، وفي هذا العنوان أعود إلى محنتي مع العناوين أحياناً. كتبتها مثل الجرح الذي ينزف في عشر دقائق ونمت عليها طويلاً. جبران تويني لم يكن سياسياً بالمعنى التقليدي وإن انتخب عضواً في المجلس النيابي. كان صحافياً ومناضلاً يدافع عن الحرية بصورة عامة وعن حرية التعبير والصحافة بصورة خاصة. وكنا أصدقاء منذ المراهقة. ويوم قتل بتلك الطريقة الوحشية، وكل جريمة قتل هي جريمة وحشية، شعرت أن شيئاً من شبابي قتل معه. هل عندي موقف صارم من بعض القضايا؟ نعم، لا يمكنني أن أقبل بأن يكون القتل طريقة لحل الخلافات السياسية وغير السياسية بين الناس.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!