«حراس الدين»... مزيج متطرف

هيكله التنظيمي مُعقد ومستقبله غامض

مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
TT

«حراس الدين»... مزيج متطرف

مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)

مر ما يقارب العام على ظهور تنظيم «حراس الدين» الإرهابي شمال غربي سوريا، وعلى الرغم من مخاوف الخبراء الأمنيين من أن التنظيم الوليد سوف يشكل خطراً على استقرار الأوضاع الأمنية في سوريا والعراق، خصوصاً أنه مزيج من تنظيمات متطرفة مختلفة مثل «القاعدة»، و«جبهة النصرة»، و«داعش»، «وطالبان»، فإن مختصين في الحركات الأصولية أكدوا أن نشاط «حراس الدين» ضعيف جداً بالمقارنة بـ«جبهة النصرة» المنشق عن «القاعدة»... وأن انضمام عناصر من «داعش» إليه وارد جداً، خصوصاً مع تشظي التنظيم الداعشي، عقب هزائمه في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية.

أكد مراقبون أن «حراس الدين» يمتلك بنية هيكلية وتنظيمية مُعقدة جداً، تعد من أكثر البنى تعقيداً، وتدير التنظيم شخصيات تحمل من الحنكة والخبرة الكثير، خصوصاً على الصعيد الأمني... فتراكم خبرات قيادات التنظيم الذين كانوا جزءاً من «القاعدة»، و«داعش»، و«جبهة النصرة»، أسهم في ظهور هذه البنية المعقدة.
ويشار إلى أن التقسيمات الداخلية لـ«حراس الدين» تشكل قوة وضعفاً للتنظيم في آن واحد، حيث ساهمت الانقسامات السابقة في التنظيمات الموالية لـ«القاعدة» إلى حد كبير في الحفاظ على سرية العمل لدى «حراس الدين»، ومنحته قدرة تمويه جديدة على تحركات قياداته ومناطق وجودهم؛ لكنها شكّلت في ذات الوقت خوف القيادات بعضها من بعض، نتيجة الطمع في القيادة.
وقال المختصون لـ«الشرق الأوسط» إن «حراس الدين» كشف عن عمق الخلافات داخل «القاعدة». مرجحين أن التنظيم الوليد لن يذهب إلى مكان آخر، ومستقبله غامض.

كيان جديد

أعلن «حراس الدين» عن نفسه في فبراير (شباط) عام 2018، وزعم التنظيم عبر حسابه على موقع التواصل «تليغرام» حينها، أنه «تنظيم إسلامي من رحم الثورة السورية، يسعى للعدل بين المسلمين». ورغم عدم الإشارة إلى ارتباطه بـ«القاعدة»، فإنه مكون قاعدي بشكل كبير، خصوصاً مع إعلان مؤسسة «السحاب» التابعة لـ«القاعدة» عن ظهور كيان في سوريا يدعى «حراس الدين».
المراقبون قالوا إن «التنظيم الجديد جذب لصفوفه عناصر أجنبية من بقايا (جبهة النصرة)، و(تحرير الشام) المحسوبين على (القاعدة)، بالإضافة إلى تشكيلات عسكرية عدة، أبرزها (جند الملاحم، وجيش الساحل، وجيش البادية، وسرايا الساحل، وسرية كابل، وجند الشريعة)».
وفي مطلع مارس (آذار) الجاري، شن عناصر من «أنصار التوحيد» وهي مجموعة يقال إنها موالية لـ«حراس الدين»، هجوماً على نقاط عسكرية شمال حماة بوسط سوريا، أسفر عن مقتل 21 شخصاً.
وقال نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم «الجهاد» المصري، المختص في شؤون الحركات الأصولية، إن نشاط «حراس الدين» ضعيف جداً بالمقارنة بـ«النصرة»، فجميع التنظيمات الصغيرة، الموالية لـ«القاعدة» عندما تحصل على فرصة للتمويل الخارجي وتستأثر بها تنفصل عن التنظيم الأم... فمثلاً «النصرة» عندما استأثروا بالأموال غادروا «القاعدة».
دراسات وتقارير عربية ودولية أكدت أن «حراس الدين» يجمع بين استراتيجية «القاعدة» التقليدية في قتال العدو البعيد، وقتال العدو القريب لـ«داعش» في آن واحد، ويستخدم تكتيك «حرب العصابات» التي تتناسب مع الأعداد القليلة لعناصره... وقوام التنظيم يضم مقاتلين من «داعش»، وعدداً من العناصر الإرهابية القديمة التي شاركت بالقتال في العراق وأفغانستان... وتتمتع هذه العناصر بمهارات كبيرة في الحرب، وعلى الأرجح في جمع المعلومات الاستخبارية، وقد ساهمت تجارب التنظيم بأفغانستان في تعزيز روابطه مع قيادة «القاعدة» المركزية، فضلاً عن شبكة من الولاءات والعلاقات الشخصية ضمن أقسام أخرى من التنظيم. لكن «داعش»، الذي عانى من هزائم كبيرة في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية، هاجم «حراس الدين» واصفاً عناصره بالكفر –على حد تعبير التنظيم. وحذر من الانضمام إلى التنظيم والتبرؤ منه. ووصفت مجلة «النبأ» الأسبوعية التابعة لـ«داعش»، تنظيم «حراس الدين» بأنها مجموعة انشقت عن جبهة «الجولاني» وهيئة «تحرير الشام»، وأظهروا انتماءهم لحركة «طالبان» بعد ذلك.

دعم «القاعدة»

ورجح أحمد زغلول، المختص في شؤون الحركات الأصولية بمصر، انضمام عناصر من «داعش» لـ«حراس الدين»، خصوصاً مع تشظي «داعش» في سوريا والعراق لينجذبوا إلى «حراس الدين» كمجموعات متطرفة مثل التي كانت موجودة في «القاعدة»، وانفصلت وانضمت إلى «داعش»، لافتاً إلى أن «هذا هو حال جماعات العنف، كل فترة تظهر مجموعة أو تنظيم بأفكار جديدة».
لكن نعيم أشار إلى أن «حراس الدين» ليس له تاريخ، وعناصر «داعش» لن يذهبوا إليه، بسبب أفول نجم «داعش» نتيجة خسائره الأخيرة.
وأكد المراقبون أن «حراس الدين» يعمل على استقطاب معظم المقاتلين الأجانب، وينشط في جلب العناصر المحلية بسوريا والعراق، ويتمتع بدعم وإسناد قيادة «القاعدة» المركزية وفروعها الإقليمية، ويحظى بشرعية جهادية من معظم منظري الجهادية العالمية القاعدية.
وأوضح المراقبون أن «حراس الدين» كشف عن عمق الخلافات داخل «القاعدة» في سوريا، حيث كانت البداية إعلان أبو محمد الجولاني، أمير «جبهة النصرة» في يوليو (تموز) عام 2016، فك ارتباط «جبهة النصرة» بـ«القاعدة»، وتغيير اسمها لـ«جبهة فتح الشام»، وفك الارتباط أدى إلى وقوع انشقاقات داخلية كبيرة لدى الجبهة، وعزوف كثير من عناصرها وقادتها العسكريين والشرعيين عن العمل، وبعضهم انتقل لمناطق سيطرة «داعش»، والبعض الآخر فضّل البقاء في مناطق سيطرة الجبهة مع بعض الفصائل الأخرى.
مصادر أمنية في العراق قالت إن «حراس الدين» ينشط في مناطق في صلاح الدين ونينوى وكركوك، لا سيما طوزخورماتو والشرقاط التي كانت نفسها مسرحاً لظهور ما سمي في وقتها «أهل الرايات البيض» بعد إعلان العراق هزيمة «داعش» عسكرياً.
وأكد زغلول أن «التنظيمات المحلية التي تنشأ في الدول يتحدد مستقبلها بالدول الخارجية التي تدعمها، وطبيعة الأزمة السياسية في هذه الدول، ودائماً ما تلعب هذه التنظيمات على ورقة «أنهم جاءوا لرفع الظلم –على حد زعمهم»، مثل «داعش» من قبل، بعد ذلك تتضخم هذه التنظيمات في ظل وجود صراع إقليمي، مثل «داعش» الذي نشأ توسع على أطلال «القاعدة».

مستقبل غامض

الدراسات والتقارير العربية والدولية أشارت أيضاً إلى أنه يوجد في «حراس الدين» مجلس أعلى يسمى «شورى القاعدة»، وهو صاحب القرار في التنظيم، وهذا المجلس حلقة الوصل بين التنظيم في سوريا وقيادات «القاعدة» بالخارج، ومن أهم الأسماء التي ظهرت في قيادة التنظيم سمير حجازي الملقب بأبي الهمام السوري، وهو القائد العسكري السابق لـ«جبهة النصرة» قبل انشقاقه عنها، ومن الأردن سامي العريدي، وخالد العاروري، وأبو قتادة الألباني المقرب من القيادات الجهادية في سوريا، إضافة إلى أبي مصعب الليبي، وأبي حمزة اليمني، وجميعهم يمثلون القيادة الرئيسة للتنظيم في سوريا... ويردد البعض أن من يقود العمل ضمن التنظيم بشكل رئيسي مع «القاعدة» هو أبو عبد الكريم المصري، صاحب الدور الرئيسي في إطلاق الجولاني لقيادات «القاعدة» المنشقين عن «جبهة النصرة» عقب توقيفهم نهاية عام 2017.
وحول كون «حراس الدين» قدماً أساسية لـ«القاعدة» في سوريا والعراق، قال نعيم، إن «التنظيمات الموالية ليس لها وضع محدد عند تنظيم (القاعدة)، فـ(جبهة النصرة) كانت ضد (داعش) ومع ذلك انشقوا عن (القاعدة)، فمن يستطيع أن يترك (القاعدة) من هذه التنظيمات عندما يأتي له تمويل مستقل يفعل ذلك، فجميع التنظيمات والميليشيات يتم دعمها، وبالتالي تظهر تنظيمات جديدة من وقت لآخر، لو لم تنفذ ما يُطلَب منها من أعمال عنف وقتل وترويع، يتم سحب التمويل منها».
وذكرت الدراسات والتقارير العربية والدولية في هذا الصدد أن التقسيمات الداخلية لـ«حراس الدين» تُشكل قوة وضعفاً للتنظيم في آن واحد، فالانقسامات السابقة ساهمت إلى حد كبير في الحفاظ على سرية العمل لدى التنظيم، ومنحته قدرة تمويه جديدة على تحركات قياداته ومناطق وجودهم؛ لكنها في الوقت نفسه شكّلت خوف القيادات بعضها من بعض، كون هذه القيادات تعلم أن كل مجموعة تسعى لقيادة التنظيم في النهاية، وهذا ما جعلها تنعزل في مناطق مُتباعدة، وهو ما تمكن ملاحظته تماماً في توزيع «حراس الدين»، فشق يوجد في مناطق ريف حلب الجنوبي، وريف إدلب الشرقي، وشق آخر يوجد في ريف جسر الشغور، وقسم ثالث من السوريين في جبل الزاوية، وكل جزء من هذه الأجزاء يسعى لإدارة منطقته بنفسه.
وحول مستقبل «حراس الدين» ومقاصده الجديدة في الدول، أكد نبيل نعيم أن «التنظيم مستقبله غامض وقد يختفي، ولن يذهب إلى مكان آخر؛ بل سيظل يقوم بعمليات خاطفة في سوريا والعراق، لأن مثل هذه التنظيمات مرتبطة بشكل كبير بتنظيم (القاعدة)، وبزعيمه أيمن الظواهري، وباختفائه أو مقتله سوف يقسم (القاعدة) إلى تنظيمات صغيرة متناحرة ومشتتة».


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.