مذكرة التفاهم مع روما «نصر سياسي كبير» لبكين

الرئيس الصيني يشيد بالمساهمة الإيطالية في مبادرة «الحزام والطريق»

الرئيس شي ينجح في اختراق نادي «السبعة الكبار» ويوقّع مذكرة تفاهم مع إيطاليا أمس معلناً انضمامها لمبادرة «الحزام والطريق» (إ.ب.أ)
الرئيس شي ينجح في اختراق نادي «السبعة الكبار» ويوقّع مذكرة تفاهم مع إيطاليا أمس معلناً انضمامها لمبادرة «الحزام والطريق» (إ.ب.أ)
TT

مذكرة التفاهم مع روما «نصر سياسي كبير» لبكين

الرئيس شي ينجح في اختراق نادي «السبعة الكبار» ويوقّع مذكرة تفاهم مع إيطاليا أمس معلناً انضمامها لمبادرة «الحزام والطريق» (إ.ب.أ)
الرئيس شي ينجح في اختراق نادي «السبعة الكبار» ويوقّع مذكرة تفاهم مع إيطاليا أمس معلناً انضمامها لمبادرة «الحزام والطريق» (إ.ب.أ)

ينزل الربيع دافئاً أكثر من المعتاد على العاصمة الإيطالية هذه الأيّام، وتزداد معه الحساسية من البراعم المتفتحة قبل أوانها، كما يتزايد القلق في الأوساط الأوروبية والأميركية من الهبوط الضخم للمارد الصيني في روما التي أكثرت من التطمينات لحلفائها لكنها لم تقنع أحداً حتى الآن.
«للمساهمة الإيطالية في طريق الحرير الجديدة مغزى كبير»، قالها الرئيس الصيني أمام نظيره الإيطالي الذي ردّ بقوله: «إنها فرصة لتوطيد أواصر الصداقة بين البلدين، لكن في إطار الاستراتيجية التي حددها الاتحاد الأوروبي»، مضيفاً: «الحوار التجاري والسياسي هو السبيل إلى تطوير هذه العلاقات مع احترام الصداقة التي تربطنا بالولايات المتحدة».
الأيام الأخيرة التي سبقت زيارة شي جينبينغ لروما كانت حافلة بالتحذيرات العلنية الأوروبية والضغوط الأميركية عبر القنوات الثنائية المباشرة، وتخللتها محادثات مكثّفة بين الطرفين الصيني والإيطالي أدّت إلى تعديل العديد من الاتفاقات التجارية التي تتضّمنها مذكرة التفاهم التي وقّعها الجانبان، أمس (السبت)، وإسقاط مشروع الاتفاق حول قطاع الاتصالات الذي أبلغت واشنطن حليفتها الإيطالية بأنه خط أحمر.
الرئيس جينبينغ من جانبه، مدركاً مدى الحساسية التي يثيرها تمدد التنّين الاقتصادي والمالي الصيني في أوروبا، أكّد «أن العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي تكتسي أهمية بالغة، وبكّين تتطلّع إلى أوروبا موحّدة ومستقرّة ومنفتحة... ونراقب باحترام النقاش الدائر في القارة الأوروبية، ونأمل في أن يتجاوز الأوروبيون مشكلاتهم قريباً».
قيمة المشاريع والاتفاقات الاستثمارية التي وقّعها الطرفان لا تتجاوز 8 مليارات دولار في الوقت الراهن، لكنها تساوي نصراً سياسياً كبيراً بالنسبة إلى الصين التي ألقت بمرساتها الاقتصادية الثقيلة في بلد أساسي ومؤسس داخل الاتحاد الأوروبي بعد أن كانت اتفاقاتها السابقة قد اقتصرت على عدد من المشاريع الصغيرة في بلدان أوروبا الشرقية والبلقان واليونان والبرتغال.
الشركاء الأوروبيون لم يخفوا امتعاضهم من الخطوة الإيطالية المتقدمة باتجاه الصين التي أصبحت هاجسهم الاقتصادي الأوّل، وقرّروا في قمتهم الأخيرة وضع استراتيجية تهدف إلى جعل أوروبا المحور الثالث في عالم يخضع بشكل متزايد للهيمنة الأميركية الصينية. ويدير هذا التوجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أعلن «أن زمن السذاجة قد ولّى»، وقال إن العد العكسي قد بدأ لحماية القطاعات الاستراتيجية مثل الاتصالات وضمان فرص متكافئة للشركات الأوروبية.
ولم يكن خافياً على الأوروبيين أن الخلافات الداخلية والأخطاء التي ارتُكبت منذ وقوع الأزمة المالية في عام 2008 مهّدت الطريق أمام بكّين ووفّرت لها الظروف المناسبة للتغلغل داخل البيت الأوروبي وإبرام عدد من الاتفاقات الثنائية. ومن القرارات التي اتخذتها القمّة استئناف المفاوضات حول آليّة لمعاقبة مؤسسات البلدان التي تقفل أسواقها في وجه الشركات الأوروبية، وإنشاء جهاز تابع للمفوّضية يشرف على مراقبة الاستثمارات الأجنبية في قطاعات استراتيجية تهدد الأمن الأوروبي.
ويلاحظ أن الدول التي كانت في السابق تعرقل التوصّل إلى مثل هذه القرارات، وفي طليعتها ألمانيا وفرنسا، هي التي تدفع الآن في هذا الاتجاه بعد أن تيقّنت من أن الفريق الأوروبي ليس قادراً على مواجهة التهديد الصيني إلا متّحداً. وقد اعترف الرئيس الفرنسي بأن أوروبا ارتكبت «خطأً استراتيجيّاً» عندما فرضت حزمة من السياسات التقشّفية على عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد للخروج من الأزمة المالية الأخيرة، مما مهّد الطريق أمام المارد الآسيوي الذي انقضّ بسيولته النقديّة الفائضة على الأصول في الاقتصادات الأوروبية التي انتكست بفعل الأزمة، وما زال بعضها يتعثّر في النهوض مثل إيطاليا.
ويرى محلّلون أن الحكومة الإيطالية تعاملت بسذاجة مع موضوع مذكرة التفاهم الموقعة مع الصين، والتي يُعتقد أن المنافع الضئيلة التي ستنشأ عنها في المدى القريب أقلّ بكثير من المخاطر الكبيرة التي تحملها على المدى البعيد. ويحذّر مراقبون من أن التعديلات التي أُدخلت على مشاريع الاتفاقات في الأيام الأخيرة لم تكن سوى من باب التهدئة السياسية بعد زوبعة الانتقادات الأميركية والأوروبية، والتخفيف من وقعها الاقتصادي على الشركات والمؤسسات الإيطالية في مرحلة أولى.
قبل مغادرته القمة الأوروبية والعودة إلى روما للتوقيع على مذكّرة التفاهم مع الصين، سمع رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي، كلاماً كثيراً يغمز من قناة روما وخطوتها المنفردة خارج سرب النواة الصلبة في الاتحاد، حتى إن المستشارة الألمانية قالت له: «الاتحاد الأوروبي لاعب دولي، فلماذا توقّعون اتفاقات ثنائية مع الصين من غير التنسيق مع الشركاء؟». لكن كونتي الذي حاول تطمين المستشارة الألمانية مؤكداً لها أن نصّ مذكرة التفاهم عُرِض على المفوضيّة ولم تعترض عليه، لم يذكّر ميركل بأن الصناديق السيادية الصينية تملك حافظة استثمارات بقيمة 1200 مليار دولار من سندات الخزينة الأميركية، وأن ألمانيا هي الشريك التجاري الأوّل للصين التي بلغت استثماراتها 90 مليار دولار في بريطانيا.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟