عالم اجتماع أميركي يستشرف نهاية العالم

متوقعاً عنفاً أكثر واستفزازات عسكرية بين الشمال الجنوب

عالم اجتماع أميركي يستشرف نهاية العالم
TT

عالم اجتماع أميركي يستشرف نهاية العالم

عالم اجتماع أميركي يستشرف نهاية العالم

هل يعيش العالم الآن الطور الأخير من عمره؟ سؤال جوهري يطرحه عالم الاجتماع الأميركي إيمانويل فالرشتاين في محاولة لتحليل وتفكيك النسق العالمي الذي يعتبره دخل طور الاحتضار، داعياً عبر كتابه «نهاية العالم كما نعرفه» إلى علم اجتماع للقرن الحادي والعشرين، وتحريك جديد للمعرفة وتجاوز المسلمات القديمة.
الكتاب الصادر بالعربية عن هيئة البحرين للثقافة والآثار وترجمه د. فايز الصياغ، وراجعة هاني تابري، يقع في 511 صفحة يحاول لفت الانتباه لأهمية اللجوء لعلم الاجتماع لفهم صيرورة العالم ومصير البشرية خلال الخمسين عاماً المقبلة. وإن كانت الطبعة الأولى من الكتاب صدرت بالإنجليزية عام 1999. لكن الإطار الفكري له ينطبق على تلك المرحلة التي يمر بها العالم ويساعد القارئ غير المتخصص على الفهم والتنبؤ بما يحمله المستقبل؛ بل، يساعده على الاستعداد لتصور الواقع الاجتماعي المقبل.
يحاول فالرشتاين المعروف بكونه أحد أهم منظري العولمة الإجابة عن تساؤل: أي نمط من المعرفة ينبغي أن يوجه رؤيتنا لمستقبل العالم؟ ويشير صاحب نظرية «الأنساق العالمية» إلى أن النسق العالمي الراهن الذي يتسم بحدة القمع واللامساواة والاستقطاب لن يدوم طويلاً، وأن العالم سيتجه ليكون أكثر ديمقراطية، لكن ذلك سيتم عبر صراع عالمي حول النسق العالمي الجديد.
يطرح الكتاب تأويلات للتاريخ المعاصر انطلاقاً من الحقبة الشيوعية، لافتاً إلى أن العالم سيكون أكثر عنفاً من الحرب الباردة، مع تكهن بتزايد الاستقطاب الاقتصادي بين الشمال والجنوب، متنبئاً بقيام استفزازات عسكرية بين الجنوب والشمال الذي سيجد صعوبة في الوقوف أمام ذلك المد.
ويستشرف فالرشتاين تنامي الحركات اليمينية في البلدان الغنية التي تدعو للوقوف أمام الهجرة في محاولات للتصدي لارتفاع معدلاتها الشرعية وغير الشرعية بسبب تواطؤ أرباب العمل المستغلين. ويلفت إلى أن الجيل الثاني من المهاجرين لن يتمكن من الاندماج الاجتماعي، وفي هذه الحالة ستعود أوروبا الغربية لأوضاع ما قبل 1848 (البيان الشيوعي)؛ حيث تتمركز الطبقة الدنيا في المناطق الحضرية التي ستمر بمشاعر الغبن العميق. هنا يشير إلى أن الأوضاع ستكون أكثر قسوة؛ فلم يعد هناك يقين بين الشعوب بأن التاريخ يقف إلى جانب التقدم، أو أن الديمقراطية ستحقق الرخاء والعدالة، منبهاً العالم إلى ضرورة الاستعداد لمواجهة شبح تفكك بنى الدول التي لم يعد الناس يثقون بها.
وعن حركات التحرر الوطني، يقدم فالرشتاين قراءة في ماضيها وتكهنات بمستقبلها، ويجيب عن تساؤل حول ما يعايشه العالم الآن من احتجاجات: ما الذي يحشد الشعوب؟ مؤكداً أن ما يحشدهم ليس القمع بل الأمل والإيمان بنهاية القمع نفسه، لافتاً إلى أنه لا توجد دولة مستقلة ولها سيادة حتى الولايات المتحدة ليست ذات سيادة بسبب هيمنة الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
ويرى عالم الاجتماع أن الحركات التحررية في تاريخ البشرية لم تحقق الأهداف الرئيسية لها ولم تحدث تحسينات ذات مغزى لشعوبها من الوعد بحياة أفضل من أجل الأبناء والأحفاد، مؤكداً أن كوادر نظام السلطة الجديد أشبه بكوادر النظام القديم، مثلما حدث في ثورة 1968 التي انطلقت في فرنسا وهزت العالم، وكذلك الثورات ما بين عامي 1945 و1970. وهو ما دفعه للتنبؤ بفشل النسق العالمي الحديث وكذلك الحضارة الرأسمالية.
ويسلط الضوء على نهوض شرق آسيا، وهنا يضع فالرشتاين عدة سيناريوهات حول تصاعد التوتر بين الصين والاتحاد الأوروبي مرجحاً انتصار الصين. ويتضمن السيناريو المآزق البيئية التي ستفرض ضغوطاً هائلة على الحكومات في محاولة للعودة إلى مستوى كافٍ من التوازن الحيوي. وهنا الجنوب سيكون أكثر غلياناً مع تزايد في المطالب الشعبية كثمن لـ«الدمقرطة»، وسيتزايد الاضطراب العالمي مع انهيار تام لليسار القديم مع توقع زيادة الحروب الأهلية.
ويكشف فالرشتاين أن الليبرالية لم تقدم للشعوب سوى سبع الكعكة لأقلية من سكان العالم وهي الطبقة المتوسطة، وهو ما لم يقلص تكديس رأس المال لكبار الرأسماليين، ولكنها حققت هدفها من نزع الفتيل الثوري، وتمكنت من ذلك حتى حقبة السبعينات من القرن العشرين، وحينما وجد الرأسماليون أنفسهم في مأزق كانت العولمة هي الحل للهروب من تحكم أجهزة الدول... ويتناول الكتاب أيضاً قضية البيئة وتكلفة الإنتاج الرأسمالية، وكيف أن تجريد العالم من طبيعته الريفية كلفه الكثير في سبيل توفير العمالة للتقدم الصناعي، ويعاود تحليل ما فعله الثالوث الآيديولوجي الذي أطر الحياة السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين: النزعة المحافظة، والليبرالية، والاشتراكية - الراديكالية في العالم مرجحاً أن الحل يكمن في النزعة الليبرالية المتحررة التي يمكن أن تكون مفيدة جداً في عالم ديمقراطي.
ومن ثم، يناقش فالرشتاين مفهومي «الاندماج» و«التهميش»، ويشير إلى أن النسق العالمي الحديث بدأ في القرن السادس عشر وبدأ معه تشكل النسق الرأسمالي العالمي، مما نشأ معه إطار مؤسسي أيضاً، ويشير هنا إلى أن مفهوم «المواطنة» دفع الصراع الوطني بين الفئات إلى الصدارة بدلاً من أن تكون عاملاً لتوحيد الدول. كما يعتبر مفهوم الاندماج مفهوماً غير قانوني؛ كونه يفترض وجود معيار ثقافي يتم على أساسه قبول الأفراد، بينما يكشف أنه في نظر بعض علماء الاجتماع تعتبر فئة المهمشين كبش فداء لأخطاء المجتمعات.
ويتحدث فالرشتين عن أبدية التغيير الاجتماعي، ولكنه يدحض هذه الفرضية، معتبراً أن ما حدث في النسق العالمي على مدار التاريخ كان مجرد استبدال، فاستبدلت بالطبقة الإقطاعية طبقة الرأسماليين، ومنذ فجر التاريخ استبدلت بأسرة مانشو في الصين أسرة منيغ، وهكذا... معتبراً أن لغة التغيير الاجتماعي لغة مضللة خادعة تشير في حركات دائرية؛ فالتفاصيل تتطور باستمرار لكن تبقى الخصائص كما هي. ويخلص هنا إلى أن النسق العالمي الحديث هو أحد حالات النكوص الأخلاقي. لكنه يختتم ذلك التحليل بجرعة تفاؤل، معتبرا أن البشرية بإمكانها أن تتخذ خيارات أخلاقية وأن تكون على مستوى التحدي.
في القسم الثاني المعنون بـ«عالم المعرفة»، يحاول فالرشتاين استنباط ما يمكن أن تقدمه العلوم الاجتماعية التي ولدت من رحم الليبرالية في عصر التشاؤم الاجتماعي العالمي، مؤكداً أنه على علماء الاجتماع الاعتراف بأنهم ضللوا أنفسهم على مدى 200 عام، وعليهم الآن تغيير اتجاهاتهم لتحويل دفة العالم عبر توجيه الذكاء الإنساني للتعامل مع المشكلات بعيداً عن لعبة النضال من أجل الحرية والرفاه الاجتماعي.
وعلى ضوء ذلك، يدعو فالرشتاين العالم ليصبح أكثر عقلانية، خاصة مع تزايد النزعة الفردية، مؤكداً بكل ثقة أن العلم الاجتماعي سيكون الحلبة التي يستقي منها حقائق العلم الأبستمولوجية والطبيعية، وزيادة مشاركة العلم الاجتماعي في العلوم البينية. ثم يلقي باللائمة على المركزية الأوروبية في العلم الاجتماعي وعلمنة النزعة الاستشراقية والتكريس لثنائية العالم الاجتماعي؛ مما خلق قائمة طويلة من الاستقطابات في كل المجالات لم تكن بالضرورة ذات علاقة مباشرة بالاستشراق، ملمحاً إلى أن أوروبا لعبت دوراً في قهر العالم عبر توسع كولونيالي متفق مع وصفها بـ«البطل الشرير».
ويشدد عالم الاجتماع فالرشتاين على بنية المعرفة باعتبارها ترتكز على المساواة في كينونتها، ومحاولة البحث عن حلول في عصر نهاية اليقينيات، والحداثة الزائفة، لافتاً إلى أن «غطرسة البشرية هي أعظم قيودها، ولكننا قادرون على أن نكون أقل ظلماً وأكثر جمالاً؛ وزيادة معرفتنا بالكون ونناضل لنكتسب المعرفة من بعضنا بعضاً».


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.