متحف «المصطبة» يوثق تاريخ الآلات الموسيقية الشعبية في مصر

في محاولة منه لإحياء قضية الموسيقى الشعبية المصرية وتوثيقها، قام فنان السمسمية المصري ابن مدينة بورسعيد (شمال شرقي القاهرة) زكريا إبراهيم، بإنشاء مركز و«متحف المصطبة» من أجل هذا الغرض. ويضم المتحف آلات موسيقية أحضرها من النوبة وأسوان ومناطق البحر الأحمر، ومدن القناة وشمال سيناء وجنوبها، فضلاً عن ثمانمائة ساعة فيديو تغطي فضاءات مختلفة من بيئات الغناء التراثي، والكثير من الحوارات التي أجراها هو بنفسه مع مطربين وموسيقيين وصانعي آلات موسيقية ينتمون إلى أقاليم مختلفة في مصر.
ولم يتوقف الأمر بالنسبة لإبراهيم عند هذا الحد، بل سعى لتكوين عدد من الفرق في الكثير من المدن والبلدان التي زراها، وتعرف على فنانيها الشعبيين، ومن هؤلاء عازفا الناي يحيي الشوربجي، والسمسمية جمعة غنايم، من شمال سيناء، وكوّن زكريا معهما وآخرين فرقة «الجركن» التي تقدم أغنياتها منذ عام 2003، وما زالت تنشط بحفلاتها حتى الآن.
وقال إبراهيم لـ«الشرق الأوسط»: إن «شهرة الفرقة ذاعت خارج مصر، فسافرت إلى إنجلترا، وغنّت في العاصمة الإنجليزية لندن، وسجلت ألبوماً هناك، وهي واحدة من الفرق التي يمكنك سماع أغنياتها في مكتبة المصطبة الموسيقية التي تضم أربعمائة ساعة مسموعة».
وخلال رحلته للتعرف على الموسيقى التراثية الشعبية في مصر، التقى إبراهيم أكبر فناني بورسعيد والسويس والإسماعيلية سناً، وأدار معهم حوارات مسجلة، كان مهتماً بقصة وصول آلة السمسمية إلى هناك، واكتشف أن هناك الكثير من الاجتهادات التي تفسر ذلك، منها الباحث في التراث الشعبي فرج العنتري الذي كان رأيه أنها جاءت مع النوبيين، في زمن حفر قناة السويس.
ولفت إبراهيم إلى أن السمسمية موجودة في مدافن بني حسن، عصر الدولة الوسطى الفرعونية، عام 2000 قبل الميلاد، وهي آلة مصرية خالصة، لكنها تنتشر رغم ذلك في مناطق البحر الأحمر بالكامل، في جدة، والعقبة والحديدة، وينبع، وبورسودان، والصومال، فضلاً عن باقي مدنه المصرية، وهي قضية تشغله، ويستعرض دائماً تاريخها ويعمل على التعريف بها كلما شارك في مؤتمر أو ندوة علمية، خارج مصر.
اهتمام إبراهيم بالأغنية الشعبية المصرية وتراثها، جعله يضعها في بؤرة اهتمامه خلال محاضراته التي قدمها بجامعة السوربون، ومتحف بيتري الإنجليزي، وإسبانيا، وكان حريصاً على تعريف المهتمين بها بتاريخها وموسيقييها ومطربيها، وآلاتها، وكان هذا سبباً من أسباب اهتمامه بإنشاء قسم خاص داخل مركز المصطبة يضم بعضاً من الآلات الموسيقية القديمة، ومن بينها السمسمية التي تحكي قصة تطورها، وأشكالها المتعددة مثل «الباص طنبورة»، وهي آلة قام باختراعها، ليجمع بين السمسمية والطنبورة، فالأولى تحب السهر وتظهر في المساحات المفتوحة على السواحل، وفي الصحاري، أما «الطنبورة» فتختص بالأجواء الروحية، وطقوسها، كما أن جمهورها محدود، وتعمل دائماً في الأماكن المغلقة، مثل حفلات الزار، ومنها الذي يقتصر على المرأة فقط.
وتعد عملية تطوير الموسيقى الشعبية، والمحافظة على أصالتها، من أهم أهداف مركز المصطبة، إلى جانب تطوير شكل الآلات نفسها، وجعلها أكثر فاعلية، ويضم متحف المصطبة، ما يوثق الحفلة التي تصاحبت فيها السمسمية والطنبورة في حفل عرض فني واحد، وهو ما لم يحدث من قبل.
وسط القاعة الرئيسية للمتحف الصغير، توجد آلة تسمى «الرانجو»، وهي واحدة من الآلات التي جلبها السودانيون معهم إلى مصر، زمن محمد علي باشا، ويصدر عنها إيقاع منغم، وكانت موجودة في الإسماعيلية قبل التهجير، لكنها الآن تكاد تندثر. ولمح الباحث عادل العليمي في كتابه «الزار ومسرح الطقوس» إلى أن عازفيها لم يعودوا موجودين، وقد دفع ذلك صاحب المصطبة إلى الاهتمام بها، وبالزار، والبحث عنها، وقد عثر في النهاية على آخر عازف لها في مصر يدعى حسن برجمون، وهو من أصول سودانية، ويعيش في القاهرة، وأنشأ معه فرقة «أسياد الزار»، التي تقدم عروضها على مسرح الضمة بمنطقة عابدين.
وهناك نسخ عدة من آلة السمسمية التي جاء بها صاحب متحف المصطبة من السودان، ومصر، وتمثل مراحل تطورها المختلفة، ومنها ما كان ظهرها مصنوعاً من السلحفاة، وهي واحدة من الآلات النادرة لدى إبراهيم، ومعها «المنجور» وهو حزام يتمنطق به المشارك في حفلات الزار، فضلاً عن «التوزة» و«الربابة» السيناوية والصعيدية و«الجندوة»، التي كانت تستخدم في الزار حتى فترة الخمسينات، ثم بعدها توقفت تماماً.
ولا تتوقف كنوز متحف المصطبة عند الآلات القادمة من مصر أو النوبة والسودان فقط، لكن إبراهيم ضم مقتنيات جاء بها من منطقة صويرة المغربية، مثل آلة «قمبري»، وهناك يقدمون الزار كما يعرفه السودانيون في مصر بالضبط، كما جاء بآلات من باماكو عاصمة مالي في أوقات لاحقة.