البيشمركة.. في مواجهة «داعش»

من جماعة تخوض حرب عصابات من جبال كردستان.. إلى قوة منظمة تقف وحيدة لمحاربة الإرهاب

البيشمركة.. في مواجهة «داعش»
TT

البيشمركة.. في مواجهة «داعش»

البيشمركة.. في مواجهة «داعش»

تخوض قوات البيشمركة الكردية منذ بداية الشهر الجاري معارك طاحنة مع مسلحي تنظيم داعش المتطرف، الذي بدأ يفرض نفوذه على مناطق واسعة في غرب البلاد وشمالها، بعد تخاذل الجيش العراقي الذي انهار أمامه إبان سقوط الموصل. فبعد أن كانت البيشمركة تحارب الأنظمة العراقية المتعاقبة وتخوض حرب عصابات من الجبال، باتت الآن في خط المواجهة الأول لمحاربة الإرهاب في العراق، وتتلقى السلاح النوعي من الغرب.. الأمر الذي قد يجعلها من القوى الرئيسة في المنطقة والإقليم بأكمله.
تتسارع دول العالم حاليا لتقديم الدعم العسكري لإقليم كردستان الذي أصبح خلال الأيام القليلة الماضية محطة لطائرات وزراء خارجية أوروبا ومسؤوليها، فبعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلى أربيل والإعلان عن استعداد بلاده لمساعدة الأكراد عسكريا، وصل وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير بداية الأسبوع الجاري إلى أربيل، حيث قال في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الإقليم مسعود بارزاني إن ألمانيا لن تترك الأكراد وحدهم في مواجهة «داعش»، وأكد أن بلاده ستناقش مع الإقليم احتياجات البيشمركة العسكرية ليقوموا فيما بعد بتوفيرها لهؤلاء المقاتلين.
وأعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماع طارئ في بروكسل يوم الجمعة الماضي عن اتفاق على دعم تسليح المقاتلين الأكراد في العراق. ورحب الوزراء بقرار دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي تلبية النداء الذي أطلقته حكومة الإقليم لتزويدها بالمعدات العسكرية بشكل عاجل.
وأعلنت وزارة البيشمركة أن 130 خبيرا عسكريا أميركيا وصلوا الإقليم لتقديم المشورة العسكرية للبيشمركة في حربهم ضد «داعش»، وكشفت عن أن الخبراء الأميركيين قرروا تأسيس مطار عسكري في أربيل بعد أن أعدوا دراسة وافية عن الموضوع، لكن الوزارة نفت في الوقت ذاته وصول أي جندي بريطاني إلى كردستان.
واستطاعت قوات البيشمركة خلال الأيام القليلة الماضية بفضل تلك المعونات العسكرية أن تستعيد السيطرة على مناطق واسعة من سهل نينوى، وسيطرت على سد الموصل بعد معارك مع مسلحي «داعش» الذين تقدموا مع بداية الشهر الجاري باتجاه أربيل عاصمة إقليم كردستان.
معركة السيطرة على سد الموصل بدأت بإسناد جوي أميركي قوي، حيث شلت الطائرات الأميركية الحركة الهجومية لـ«داعش»، إضافة إلى الأسلحة الجديدة التي حصلت عليها البيشمركة والتي ساهمت في أن تستعيد هذه القوات زمام المبادرة وتبدأ هجوم استعادة المناطق التي سيطر عليها «داعش» في المدة الماضية.
يرى الدكتور عبد الحكيم خسرو أستاذ العلوم السياسية في جامعة صلاح الدين في أربيل، أن «هناك أسباب كثيرة لتحرك المجتمع الدولي للدفاع عن كردستان، منها وجود هذا العدد الهائل من النازحين واللاجئين في الإقليم، إلى جانب أن الإقليم يعد النموذج الناجح الوحيد في العراق من ناحية التعايش السلمي والدبلوماسية والإعمار». ويرى خسرو، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن معركة أربيل كانت مفتاح القضاء على «داعش» في الشرق الأوسط.
وشدد بالقول: «المجتمع الدولي يعرف أن البيشمركة هي القوات التي يمكن أن يساعدوها في فرض الأمن والاستقرار في أجزاء من العراق، وذلك بعد أن اطمأنوا إلى أنها قوات لم يصدر منها أي تمييز على أساس القومية أو الدين أو الطائفة والعرق والمذهب في المناطق التي تسيطر عليها، والدليل أننا نرى أن النازحين والهاربين من مناطق العراق الأخرى التجأوا إلى المناطق التي تسيطر عليها البيشمركة».
وحول إمكانية مشاركة البيشمركة في أي عمليات عسكرية ضد الإرهاب خارج العراق، أشار خسرو إلى أن هذا «غير معروف حاليا»، مضيفا أن «محاولات الأوروبيين إصدار قرار عن طريق حلف الناتو لمحاربة (داعش) والجهود الدولية لتأسيس حلف من عدة دول، وكذلك قرار مجلس الأمن الدولي لمحاربة هذا التنظيم المتطرف حسب الفصل السابع، كلها تشير إلى أن معركة أربيل تصبح مفتاحا لحل مشكلة الإرهاب في الشرق الأوسط، إضافة إلى أن هناك تخطيطا عاما بمشاركة قوات البيشمركة والقوات العراقية والأردنية ودول الخليج ولبنان وتركيا لبدء حملة عسكرية ضد (داعش)، إذن هنا سيناط بقوات البيشمركة واجب خاص في هذه العملية الإقليمية».
وتعد البيشمركة أو القوات المسلحة الكردية أقدم قوات مسلحة في العراق، حيث يعود تأسيسها إلى بداية القرن المنصرم، وخاضت على مداره معارك ضد الأنظمة العراقية المتعاقبة من أجل نيل الحقوق القومية للكرد في العراق.
البيشمركة تعني بالعربية «الذين يواجهون الموت» أو «تحدي الموت»، وهي قوة بنيت على أساس الإيمان بالمبادئ القومية والتضحية من أجل الحرية، وتخوض هذه القوات اليوم معركة الدفاع عن العراق والمنطقة ضد الإرهاب والتشدد، في سبيل حماية الحرية التي حصل عليها العراقيون بعد عام 2003.
* قصة البيشمركة
* الكاتب والصحافي عبد الغني علي يحيى الذي التحق منذ عام 1963 بالثورة الكردية تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن بدايات تأسيس البيشمركة وقياداتها، والثورات التي قادتها هذه القوة، وهو يشير إلى أن البيشمركة ظهرت قوة نظامية في عام 1946. ويروي يحيى حكاية البيشمركة قائلا: «سميت القوات الكردية المدافعة عن جمهورية كردستان أو (مهاباد) بقوات البيشمركة، وكان الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى بارزاني وزيرا للدفاع في هذه الجمهورية، وكانت الخدمة العسكرية في هذه الجمهورية تطوعية وليست إجبارية».
وتابع: «لم تتداول تسمية (البيشمركة) حتى اندلاع ثورة سبتمبر (أيلول) عام 1961 بقيادة الملا مصطفى بارزاني ضد الحكومة العراقية، وكان سكان القرى من أكثر المشاركين في تشكيلات هذه القوة، إضافة إلى عدد قليل من الجنود والضباط الأكراد الذين هربوا من الجيش العراقي والتحقوا بالثورة الكردية، من بينهم المقدم عزيز عقراوي والملازم عزيز الأتروشي وضباط آخرون».
وعن التشكيلات الأساسية لقوات البيشمركة، قال يحيى: «كانت قوات البيشمركة تتكون آنذاك من تقسيمات تبدأ من الفصيل الذي كان يسمى بالكردي (بل) والفرع (لق) والبطاليون وتنتهي بالفرقة أي (هيز)، وهي أكبر جزء من تشكيلات البيشمركة آنذاك، وكانت الفرق تحمل أسماء مناطق كردستان التي كانت توجد فيها، كفرقة حمرين وسفين وسهل أربيل وكاروخ وزاخو وعقرة وشيخان وبالك».
اعتمدت هذه القوات على مدار ثورتها في ثمانينات القرن العشرين على الأسلحة الخفيفة فقط المتمثلة ببنادق الكلاشنيكوف وقاذفات الـ«آر بي جي»، والقنابل اليدوية، لكنها بعد عام 1991 حصلت على أسلحة ثقيلة لأول مرة، حيث استولت على أسلحة القوات العراقية بعد انتفاضة شعبية اندلعت في كردستان أدت إلى خروج الجيش العراقي وتأسيس حكومة إقليم كردستان، لكن مشكلة سلاح البيشمركة لم تحل لأن الأسلحة كانت قليلة.
وفي عام 2003 وبعد أن احتلت أميركا العراق، استطاع الكرد أن يحصلوا على أسلحة الجيش العراقي في كركوك والموصل وديالى، وكانت هذه الأسلحة تتمثل في أسلحة ثقيلة من مدرعات ودبابات ومدافع هاون وراجمات ودوشكات ثنائية ورباعية، لكن هذه الأسلحة كانت قديمة وبعضها كان معطبا، ورغم مطالبات حكومة الإقليم لبغداد بتسليح البيشمركة وتدريبها بما يتواكب من تدريبات ومعدات عسكرية حديثة، باعتبار ذلك جزءا من منظومة الدفاع العراقية، فإن بغداد لم تقدم على ذلك طيلة الأعوام الماضية التي تلت سقوط نظام صدام حسين، فيما كانت واشنطن تصر على أن يكون تسليح البيشمركة عن طريق وزارة الدفاع العراقية.
وبعد أحداث الموصل في يونيو (حزيران) الماضي وما ترتب عليه من سقوط للمحافظات السنية بيد تنظيم داعش، وانهيار المنظومة الأمنية والدفاعية العراقية بالكامل، أصبحت قوات البيشمركة القوات النظامية الوحيدة في العراق لمواجهة «داعش» الذي استولى على أسلحة الجيش العراقي الحديثة والثقيلة.
يقول العميد هلكورد حكمت الناطق الرسمي باسم وزارة البيشمركة لـ«الشرق الأوسط» إن «مهمتنا الآن هي محاربة الإرهاب العالمي، فقوات البيشمركة تقاتل الآن دولة إرهابية، ومع أن العدو يمتلك أسلحة أكثر تطورا من أسلحتنا، التي استولى عليها جراء فرار الجيش العراقي، فإن قوات البيشمركة استطاعت إيقاف تقدم (داعش). ومن ثم بدأنا هجوما بريا بإسناد من الطيران الأميركي لاستعادة المناطق التي استولى عليها (داعش) خلال الأسبوعين الماضيين في سهل نينوى، واستطعنا أن نستعيد السيطرة على سد الموصل وكل المناطق والقرى التابعة لها».
وحول الدعم العسكري الدولي لكردستان قال حكمت: «هناك دول كثيرة أعلنت عن استعدادها لتزويد البيشمركة بالسلاح والتجهيزات العسكرية، منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، والنمسا والتشيك وفنلندا وكندا وبولندا وإيطاليا وأستراليا، ودول أخرى، وستقوم كل دولة بإرسال خبرائها مع الأسلحة لتدريب قوات البيشمركة على هذه الأسلحة الحديثة». وأضاف: «حتى الآن تسلمنا السلاح الأميركي والفرنسي، ونحن بانتظار وصول الأسلحة الأخرى من أصدقائنا.. أميركا أرسلت إلى الإقليم 130 خبيرا عسكريا لتوجيه المشورة لقوات البيشمركة ووضع الخطط العسكرية، وقرر هؤلاء بناء مطار عسكري أميركي في أربيل بالتنسيق بين واشنطن وأربيل وبغداد».

* قوة البيشمركة

* وزارة البيشمركة لم تذكر عدد قواتها الكامل بحجة السرية العسكرية، إلا أن الشرق الأوسط علمت من مصادرها الخاصة أن عدد البيشمركة يبلغ نحو 200 ألف مقاتل، متوزعين على عدد من الفرق والألوية والأفواج، إضافة إلى قوات الكوماندوز الكردية وقوات مكافحة الإرهاب التي تخوض كلها الآن المعارك ضد تنظيم داعش. يقول حكمت إن «قوات البيشمركة لا يمكن مقارنتها بالجيش العراقي الهزيل حاليا.. ليس هناك وجود للقوات العراقية.. كما شاهدناه في الموصل، لا يملك الإرادة والقدرة، وكان يمتلك أسلحة وأعتدة عسكرية متطورة، إلا أنه لم يبد مقاومة ضد (داعش) وترك أسلحته لمسلحي هذا التنظيم الذين يستخدمونها الآن ضد البيشمركة».
وحول تدريب قوات البيشمركة، بين الناطق الرسمي باسم الوزارة أن البيشمركة تلقت تدريبات عسكرية في الإقليم، وهناك قوات من البيشمركة تلقت تدريبات خاصة بحرب الشوارع والمدن، وهي الآن تقاتل «داعش» وكان لها دور بارز في المعركة، مؤكدا أن المعركة مع «داعش» أكبر مدرسة تدريب لقوات البيشمركة في الإقليم، خاصة أنها جاءت بعد مدة طويلة لم تخُض فيها البيشمركة أي معارك.
قوات البيشمركة استطاعت بعد انسحاب الجيش العراقي من المناطق المتنازع عليها أن تحل محل هذه القوات وتحافظ على الأمن في هذه المناطق، إلا أن تأخر الدعم العسكري لها تسبب في انسحابها من بعض الأماكن، كقضاء سنجار ذي الأغلبية الإيزيدية وأقضية الحمدانية وتلكيف في سهل نينوى، إضافة إلى ناحية جلولاء في محافظة ديالى.
القائد الميداني العقيد أديب تروانشي في اللواء الأول زيرفاني، كشف لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «الطائرات العراقية كانت سببا لانسحاب البيشمركة من سنجار لأنها لم تستجب لندائهم».
وقال تروانشي الذي كان ضمن القوة الكردية في سنجار: «استفدنا جدا من الإسناد الجوي الأميركي، أما الإسناد الجوي العراقي فلم يؤدِّ المهمة بالشكل المطلوب، كنت في سنجار، ووجهنا حينها عدة نداءات إلى سلاح الجو العراقي، لكن لم يستجيبوا لنا، لو قدمت بغداد لنا الإسناد الجوي لما حدث ما حدث من سقوط قضاء سنجار.. (داعش) تمتلك أسلحة متطورة وثقيلة».
وأضاف تروانشي الموجود حاليا في سهل نينوى: «رغم تسلحنا المتواضع فإن الإيمان بالحرية وبالقضية والمبدأ والتعايش، دفع بنا إلى صد الأعداء والدفاع عن كردستان وأهلها وحماية هذه الأرض من تدنيس (داعش)، والآن ننتظر ساعة الصفر لاستعادة كل المناطق الكردستانية».
بدوره قال ئاري هرسين رئيس لجنة البيشمركة في برلمان الإقليم لـ«الشرق الأوسط» إنه الآن موجود في الجبهة الأمامية في المعركة مع «داعش» في محور شلالات الموصل. وأضاف: «خلال وجودي بين البيشمركة اتضح لي أن أكبر سلاح تملكه هذه القوات هو المعنويات العالية، وهي التي مكنت البيشمركة من التصدي لـ(داعش). البيشمركة لا تقارن بالجيش العراقي، كان في الموصل قرابة 60 ألف جندي عراقي لكنهم لم يصمدوا أمام (داعش) وسلموه مواقعهم وأسلحتهم المتطورة دون أي مقاومة، لذا فإن البيشمركة هي أهم قوة في المنظومة الدفاعية العراقية، لكن مع الأسف الحكومة العراقية لا تولي أي اهتمام لهذه القوات، وبالعكس عاقبت بغداد البيشمركة وسلبت حقها المشروع في الدستور العراقي منذ عام 2004».
يقول أحد أفراد البيشمركة العائد من جبهات القتال في مخمور التي استعادت البيشمركة السيطرة عليها الأسبوع الماضي، لـ«الشرق الأوسط»، دون أن يكشف عن اسمه: «القتال كان عنيفا جدا في البداية، اضطررنا إلى الانسحاب لأن (داعش) كانت تمتلك سلاحا مدفعيا قويا أرغمنا على الانسحاب؛ فأسلحتنا لم تكن في المستوى المطلوب، وتمت مهاجمتنا من الخلف من لدن القرى العربية التي تحالفت مع (داعش)، لذا انسحبنا إلى مواقع قريبة من مخمور الأسبوع الماضي، وكان (داعش) يتقدم باستمرار، إلى أن بدأ الطيران الأميركي بقصف مواقع التنظيم في مخمور والكوير. الطائرات الأميركية دمرت مدفعية (داعش) وشلت حركته الهجومية تماما. حين بدأنا هجوما قويا عليهم من أربع محاور تمكنا من استعادة السيطرة على مخمور والكوير وأكثر من خمسين قرية في أطرافهما. عدونا لاذ الفرار فعلا، لكن نحن بحاجة إلى سلاح».

* قوة متعددة الأعراق

* جميع مكونات إقليم كردستان يشاركون في قوات البيشمركة، فهناك بيشمركة إيزيديون ومسيحيون وتركمان وكاكائية يخدمون في صفوف البيشمركة التي أصبحت القوة المسلحة الكردية التي تحمي كردستان والعراق من الإرهاب الذي تفشى في الجسد العراقي.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.