الموروث وتحديات العصر

حين تشرع في الكتابة عن الموروث الشعبي ينتابك الخوف والاضطراب والتردد، لأنك لا تعرف من أين تبدأ حكايتك، ومن أي مخزون ستستقي معلوماتك، فهناك القول الشفهي، والخبر المكتوب، والعلم والتنظير تجاه هذه الطاقة الإنسانية التي أبدعها الأجداد والآباء عبر العصور والأزمان في كل مناحي التراث الإنساني المحلي وغير المحلي.
ولكن أي تراث نريد؟ بالتأكيد إنه التراث الذي يعبر عن تجارب الإنسان في أشكال مختلفة، لوحات فنية تشكيلية، أو نصوص لغوية وصلتنا مكتوبة، ولكنها كانت في السابق نصوص شفاهية، أو لوحات غنائية وإيقاعية، أو رقصات وإيماءات فنية تعكس بعضاً من حياة تلك الفترات المتعاقبة، سواء جاءت لنا في حكاياتنا الشعبية أو في علامات التسلية والحكاوي التي كنا نسمعها قبل النوم من جداتنا، أو في وقت السهر وجلسة العائلة المسائية، أو ملاحمنا الأسطورية التي تعبر عن تاريخ بعض تجاربنا، سواء أكانت شعراً أم سرداً.
وعلى الرغم من أهمية هذا التراث الإنساني والفلكلوري، هناك من يتجاهل هذا الفن وينادي بتجاهله، في الوقت الذي تقف المنظمات العالمية الثقافية، والمؤسسات العالمية المعنية بالتراث، وعلى رأسها «اليونيسكو»، و«المنظمة العالمية للتراث الشعبي»، وما تدعو إليه تجاه الاهتمام بهذا التراث الإنساني الذي يتمظهر في كل دول العالم بأشكال مختلفة، لذلك علينا جميعاً، وعلى المعنيين بهذا الأمر، تأكيد تلك الدعوات ليكون تراث الشعوب المادي والمعنوي، الشفاهي والمكتوب، مكان دراسة وتقدير، وضرورة التأمل في أصالة هذا التراث والعمل الإنساني وثقافته المتوارثة عبر الأجيال التي ساهمت في وصوله إلى الآخر، من جهة، وبين الحداثة والمعاصرة التي تسعى دائماً إلى توظيف هذه الثقافة في حياتنا اليومية في الغناء والشعر والتمثيل والسلوك الاجتماعي من جهة ثانية.
ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، هل تساءلنا عن دورنا تجاه تراثنا وكيفية الاهتمام به؟ خصوصاً وأن منظمة «اليونيسكو» أوجدت صيغة للتعامل والتفاعل مع تراث الشعوب المختلفة باعتباره تراثاً إنسانياً عاماً لكل الأمم والقارات والشعوب في أي كان وأي زمان، وليس النظر إلى التراث على أنه ملك لفرد دون غيره، لذا أقرت «اليونيسكو» تجاه هذا ثقافة خاصة تتمثل في تناول هذا المخزون الإنساني تحت مسمى التراث الثقافي الذي يأخذك نحو مجموعة من الاهتمامات الرئيسية فيه، مثل: التعبير الشفاهي، وفنون الأداء والغناء والطرب، والسلوك والممارسات الاجتماعية، فضلاً عن طقوس المناسبات في الأفراح والأتراح، وتلك الحكايات التي نجحت البحرين مؤخراً في تدوينها بواسطة مجموعة من الطلبة بإشراف وتنسيق وإعداد الدكتورة ضياء الكعبي بـ«جامعة البحرين». وأنجز بعد 10 سنوات من العمل المضني المتمثل في الجمع والتسجيل والتدوين والتنسيق والمراجعة والتحكيم.
وهذا المشروع المهم يعتبر أول مشروع في العالم العربي، وهو مدعوم مادياً ومعنوياً من قبل «أرشيف التراث الشعبي»، و«المنظمة العالمية للتراث الشعبي»، التي يرأسها الشاعر على عبد الله خليفة، وكذلك «جامعة البحرين».
حين أكدت المنظمات العالمية الاهتمام بالتراث الإنساني، فهذا لم يأت صدفة أو نتيجة رغبة مؤقتة، ولم تولد هذه الاهتمامات كلها بشكل مباغت، بل كانت نتيجة مخاض تجارب إنسانية، سياسية واجتماعية واقتصادية، وظروف معيشية. وهنا يحضر المتخيل الذي كان عنصراً مهماً في تكوين التراث الشعبي، أو ما نطلق عليها الثقافة الشعبية، حيث يأخذ التراث الشعبي مساحة كبيرة في الذاكرة الإنسانية، ذاكرة الشعوب، وذاكرة المكان والزمان، وهذا ما يجعلنا أكثر قرباً من تراثنا وشعبويتنا الثقافية، ليس بهدف التقوقع داخل محيط دائرته، وتسييج الدائرة بالأقفال، بل لكي ندرس تاريخنا الشعبي، وتراثنا، وأهميته في تواصله مع موروثات الشعوب العالمية الأخرى، ولمعرفة موقعنا الثقافي، ودور تراثنا تجاه التحديات الثقافية والتراثية، وأهمية المحافظة على هذا المخزون في ظل التجديد والتحديث والتطوير الذي تقوم بها الدول.
ونحن حينما ندعو إلى دراسة تراثنا والتأمل في المنجز الثقافي لهذا التراث، فإننا نؤكد في الوقت نفسه على ضرورة نبذ كل الموروثات التي تكرس الشعوذة، والبعد عن العقل، والتغرير بإسعاد الإنسان، بل الأخذ بما يزيد من دورنا الحضاري والثقافي والشعبي، وتأصيل هويتنا التي راحت تعصف بها التحديات المعاصرة، خصوصاً عند الشباب الذي لا يعي دوره في المجتمع والحياة، فلم يعد التراث بالنسبة إلى شباب هذا العصر ذا قيمة إنسانية أو مهمة حياتية، لذلك واجب علينا، لكي لا يبتعد المرء عن تراثه ومكوناته، ثم يضعف تدريجياً ويذوب في زحمة العمل اليومي، والشحن غير المبرر من تلقي ما هو سلبي في الثقافات الأخرى من دون وعي، أن نمد اليوم جسور الثقافة والتواصل الفعلي بين ثقافتنا الشعبية التي تؤصل تاريخنا، وبين ما هو جديد وعصري وحداثي.
وبالنظر إلى العالم نرى الكثير من الشعوب تحاول أن تعطي تراثها ومخزونها الثقافي أهمية كبرى لكي يستطيع أن يعزز قيم الهوية، والمكانة الاجتماعية والسياسية، وكل مكان لا يوجد فيه مخزون ثقافي وتراثي فإنه بعيد عن حركة التاريخ الإنساني، ألم ندرس في مدارسنا وجامعاتنا أن العراق يحمل بين دفتيه ثمانية آلاف سنة من التراث الثقافي والحضاري، وكذلك ألم ندرس حضارة مصر الفرعونية وما بين جناحيها من عمر زمني يتجاوز الخمسة آلاف سنة، ألم ندرس حضارات الدول الغربية، ألا توجد بين هذه الحضارات والثقافات، الثقافة الشعبية والعلاقات الإنسانية اليومية من عادات وتقاليد وأعراف، ألم تكن هذه ضمن الثقافة الشعبية التي ينبغي البحث في مضامينها وتحليل مكوناتها وتركيباتها اللغوية واللسانية والثقافية؟ فلماذا هناك من حافظ على تراثهم وحضارتهم، ألسنا نحن بحاجة ماسة للنظر في تراثنا المحلي والإقليمي والعربي؟ ها نحن في بداية مشوار أقدمت عليه الدكتورة ضياء الكعبي من «جامعة البحرين»، ولكن هذا لا يكفي، بل نحن ننتظر المزيد حتى لا يأتي يوم قد لا نتمكن فيه من عملية البحث والتقصي.
إن العصر الحالي وما يحمله من تناقضات وتقلبات عبر الفضائيات أو الشبكة العنكبوتية يسهم بشكل غير مبرر تجاه الحضارة الإنسانية الأصيلة، ويحاول أن يفكك العلاقات الإنسانية، على الرغم من مناداته بأن كل هذه التطورات هي في مصلحة الإنسان وتخدمه، لكن الواقع يقول عكس ذلك، لأننا نريد أن نتمسك بما يؤكد هويتنا وثقافتنا وعلاقاتنا، وأيضاً يعطينا دور التواصل مع العالم الآخر ثقافياً وحضارياً، وهنا علينا إقناع أنفسنا بدور الثقافة المحلية والشعبية والإبداعية التي تؤصلنا وترسمنا على خريطة الثقافة العالمية.
* كاتب بحريني