الموروث وتحديات العصر

يحتل التراث الشعبي مساحة كبيرة في الذاكرة الإنسانية

د. ضياء الكعبي المشرفة على مشروع تدوين الحكايات الشعبية
د. ضياء الكعبي المشرفة على مشروع تدوين الحكايات الشعبية
TT

الموروث وتحديات العصر

د. ضياء الكعبي المشرفة على مشروع تدوين الحكايات الشعبية
د. ضياء الكعبي المشرفة على مشروع تدوين الحكايات الشعبية

حين تشرع في الكتابة عن الموروث الشعبي ينتابك الخوف والاضطراب والتردد، لأنك لا تعرف من أين تبدأ حكايتك، ومن أي مخزون ستستقي معلوماتك، فهناك القول الشفهي، والخبر المكتوب، والعلم والتنظير تجاه هذه الطاقة الإنسانية التي أبدعها الأجداد والآباء عبر العصور والأزمان في كل مناحي التراث الإنساني المحلي وغير المحلي.
ولكن أي تراث نريد؟ بالتأكيد إنه التراث الذي يعبر عن تجارب الإنسان في أشكال مختلفة، لوحات فنية تشكيلية، أو نصوص لغوية وصلتنا مكتوبة، ولكنها كانت في السابق نصوص شفاهية، أو لوحات غنائية وإيقاعية، أو رقصات وإيماءات فنية تعكس بعضاً من حياة تلك الفترات المتعاقبة، سواء جاءت لنا في حكاياتنا الشعبية أو في علامات التسلية والحكاوي التي كنا نسمعها قبل النوم من جداتنا، أو في وقت السهر وجلسة العائلة المسائية، أو ملاحمنا الأسطورية التي تعبر عن تاريخ بعض تجاربنا، سواء أكانت شعراً أم سرداً.
وعلى الرغم من أهمية هذا التراث الإنساني والفلكلوري، هناك من يتجاهل هذا الفن وينادي بتجاهله، في الوقت الذي تقف المنظمات العالمية الثقافية، والمؤسسات العالمية المعنية بالتراث، وعلى رأسها «اليونيسكو»، و«المنظمة العالمية للتراث الشعبي»، وما تدعو إليه تجاه الاهتمام بهذا التراث الإنساني الذي يتمظهر في كل دول العالم بأشكال مختلفة، لذلك علينا جميعاً، وعلى المعنيين بهذا الأمر، تأكيد تلك الدعوات ليكون تراث الشعوب المادي والمعنوي، الشفاهي والمكتوب، مكان دراسة وتقدير، وضرورة التأمل في أصالة هذا التراث والعمل الإنساني وثقافته المتوارثة عبر الأجيال التي ساهمت في وصوله إلى الآخر، من جهة، وبين الحداثة والمعاصرة التي تسعى دائماً إلى توظيف هذه الثقافة في حياتنا اليومية في الغناء والشعر والتمثيل والسلوك الاجتماعي من جهة ثانية.
ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، هل تساءلنا عن دورنا تجاه تراثنا وكيفية الاهتمام به؟ خصوصاً وأن منظمة «اليونيسكو» أوجدت صيغة للتعامل والتفاعل مع تراث الشعوب المختلفة باعتباره تراثاً إنسانياً عاماً لكل الأمم والقارات والشعوب في أي كان وأي زمان، وليس النظر إلى التراث على أنه ملك لفرد دون غيره، لذا أقرت «اليونيسكو» تجاه هذا ثقافة خاصة تتمثل في تناول هذا المخزون الإنساني تحت مسمى التراث الثقافي الذي يأخذك نحو مجموعة من الاهتمامات الرئيسية فيه، مثل: التعبير الشفاهي، وفنون الأداء والغناء والطرب، والسلوك والممارسات الاجتماعية، فضلاً عن طقوس المناسبات في الأفراح والأتراح، وتلك الحكايات التي نجحت البحرين مؤخراً في تدوينها بواسطة مجموعة من الطلبة بإشراف وتنسيق وإعداد الدكتورة ضياء الكعبي بـ«جامعة البحرين». وأنجز بعد 10 سنوات من العمل المضني المتمثل في الجمع والتسجيل والتدوين والتنسيق والمراجعة والتحكيم.
وهذا المشروع المهم يعتبر أول مشروع في العالم العربي، وهو مدعوم مادياً ومعنوياً من قبل «أرشيف التراث الشعبي»، و«المنظمة العالمية للتراث الشعبي»، التي يرأسها الشاعر على عبد الله خليفة، وكذلك «جامعة البحرين».
حين أكدت المنظمات العالمية الاهتمام بالتراث الإنساني، فهذا لم يأت صدفة أو نتيجة رغبة مؤقتة، ولم تولد هذه الاهتمامات كلها بشكل مباغت، بل كانت نتيجة مخاض تجارب إنسانية، سياسية واجتماعية واقتصادية، وظروف معيشية. وهنا يحضر المتخيل الذي كان عنصراً مهماً في تكوين التراث الشعبي، أو ما نطلق عليها الثقافة الشعبية، حيث يأخذ التراث الشعبي مساحة كبيرة في الذاكرة الإنسانية، ذاكرة الشعوب، وذاكرة المكان والزمان، وهذا ما يجعلنا أكثر قرباً من تراثنا وشعبويتنا الثقافية، ليس بهدف التقوقع داخل محيط دائرته، وتسييج الدائرة بالأقفال، بل لكي ندرس تاريخنا الشعبي، وتراثنا، وأهميته في تواصله مع موروثات الشعوب العالمية الأخرى، ولمعرفة موقعنا الثقافي، ودور تراثنا تجاه التحديات الثقافية والتراثية، وأهمية المحافظة على هذا المخزون في ظل التجديد والتحديث والتطوير الذي تقوم بها الدول.
ونحن حينما ندعو إلى دراسة تراثنا والتأمل في المنجز الثقافي لهذا التراث، فإننا نؤكد في الوقت نفسه على ضرورة نبذ كل الموروثات التي تكرس الشعوذة، والبعد عن العقل، والتغرير بإسعاد الإنسان، بل الأخذ بما يزيد من دورنا الحضاري والثقافي والشعبي، وتأصيل هويتنا التي راحت تعصف بها التحديات المعاصرة، خصوصاً عند الشباب الذي لا يعي دوره في المجتمع والحياة، فلم يعد التراث بالنسبة إلى شباب هذا العصر ذا قيمة إنسانية أو مهمة حياتية، لذلك واجب علينا، لكي لا يبتعد المرء عن تراثه ومكوناته، ثم يضعف تدريجياً ويذوب في زحمة العمل اليومي، والشحن غير المبرر من تلقي ما هو سلبي في الثقافات الأخرى من دون وعي، أن نمد اليوم جسور الثقافة والتواصل الفعلي بين ثقافتنا الشعبية التي تؤصل تاريخنا، وبين ما هو جديد وعصري وحداثي.
وبالنظر إلى العالم نرى الكثير من الشعوب تحاول أن تعطي تراثها ومخزونها الثقافي أهمية كبرى لكي يستطيع أن يعزز قيم الهوية، والمكانة الاجتماعية والسياسية، وكل مكان لا يوجد فيه مخزون ثقافي وتراثي فإنه بعيد عن حركة التاريخ الإنساني، ألم ندرس في مدارسنا وجامعاتنا أن العراق يحمل بين دفتيه ثمانية آلاف سنة من التراث الثقافي والحضاري، وكذلك ألم ندرس حضارة مصر الفرعونية وما بين جناحيها من عمر زمني يتجاوز الخمسة آلاف سنة، ألم ندرس حضارات الدول الغربية، ألا توجد بين هذه الحضارات والثقافات، الثقافة الشعبية والعلاقات الإنسانية اليومية من عادات وتقاليد وأعراف، ألم تكن هذه ضمن الثقافة الشعبية التي ينبغي البحث في مضامينها وتحليل مكوناتها وتركيباتها اللغوية واللسانية والثقافية؟ فلماذا هناك من حافظ على تراثهم وحضارتهم، ألسنا نحن بحاجة ماسة للنظر في تراثنا المحلي والإقليمي والعربي؟ ها نحن في بداية مشوار أقدمت عليه الدكتورة ضياء الكعبي من «جامعة البحرين»، ولكن هذا لا يكفي، بل نحن ننتظر المزيد حتى لا يأتي يوم قد لا نتمكن فيه من عملية البحث والتقصي.
إن العصر الحالي وما يحمله من تناقضات وتقلبات عبر الفضائيات أو الشبكة العنكبوتية يسهم بشكل غير مبرر تجاه الحضارة الإنسانية الأصيلة، ويحاول أن يفكك العلاقات الإنسانية، على الرغم من مناداته بأن كل هذه التطورات هي في مصلحة الإنسان وتخدمه، لكن الواقع يقول عكس ذلك، لأننا نريد أن نتمسك بما يؤكد هويتنا وثقافتنا وعلاقاتنا، وأيضاً يعطينا دور التواصل مع العالم الآخر ثقافياً وحضارياً، وهنا علينا إقناع أنفسنا بدور الثقافة المحلية والشعبية والإبداعية التي تؤصلنا وترسمنا على خريطة الثقافة العالمية.
* كاتب بحريني



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!