خالد البلتاجي: الكتابات العربية المنفتحة تثري قاموسي كمترجم

ترجم 29 عملاً ما بين الرواية والقصة والشعر

خالد البلتاجي
خالد البلتاجي
TT

خالد البلتاجي: الكتابات العربية المنفتحة تثري قاموسي كمترجم

خالد البلتاجي
خالد البلتاجي

تتسم معظم محتويات مكتبة المترجم المصري الدكتور خالد البلتاجي بالطابع الأكاديمي والبحثي في علوم اللغة والترجمة. ويبدو ذلك حصاداً منطقياً لباحث ترجم 29 عملاً ما بين الرواية والقصة والشعر، من بينها أعمال لكافكا وكونديرا وهافيل.
وفي جولة بالمكتبة، أشار البلتاجي إلى أركانها، وقال إنها تضم أربعة أقسام رئيسية؛ القسم الرئيسي والأكبر فيها هو لمؤلفات مختلفة باللغة التشيكية، تضم دراسات متعلقة باللغة، كعلم اللغة التطبيقي وعلم اللغة الوظيفي وعلم اللغة الرياضي، وغيرها من الدراسات البينية في علوم اللغة. ومثل هذه الدراسات البينية، حسب ما أشار إليه البلتاجي، كان لها الفضل في ربط اللغة بالدراسات التربوية والاجتماعية، وحتى المنطقية الفلسفية. وأيضاً دراسات علم اللغة الرياضي كان لها، وما زال، دور كبير في تطوير تقنيات الترجمة التخصصية باستعمال الحاسوب، وأشهر تطبيقاتها عالمياً هو تطبيق «جوجل» للترجمة.
وهذا الجزء من المكتبة جمعه البلتاجي على مدار عشرين عاماً خلال عمله الأكاديمي، سواء في مصر أو خارجها في التشيك وفي سلوفاكيا. وهناك عدد من المراجع المهمة في المكتبة، من بينها كتاب عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير «محاضرات في اللسانيات العامة»، ويتشكل من مجموعة من المحاضرات التي جمعها تلاميذه وصدرت بعد وفاته. واعتبر فيها دي سوسير اللغة ظاهرة اجتماعية حاضرة متجددة، وليست تاريخية متجمدة.
أما الجزء الثاني من المكتبة، فهو قسم المعاجم، ويضم مجموعة كبيرة من المعاجم التفسيرية، أحادية اللغة، والمعاجم ثنائية اللغة، في المجالات المختلفة، كالسياسة والاقتصاد والفلسفة والنسيج والطب والسياحة، وغيرها من المجالات.
وحول طبيعة هذا القسم، يقول: «هذا القسم تحديداً أحرص على تطويره باستمرار، لكن بصورة رقمية، بعد أن أقوم بالاستبدال بالنسخ المطبوعة من معظم المعاجم نسخاً إلكترونية، لسهولة وسرعة الاستخدام. فالبحث عن الكلمة في المعجم الورقي يتطلب عشرة أضعاف الوقت المستخدم في البحث الإلكتروني، إضافة إلى اتصال المعاجم الرقمية بمصادر خارجية لمزيد من المعلومات حول المصطلح».
والقسم الثالث يضم دراسات في الترجمة ونظرياتها، وهذا الجزء أيضاً متغير ومتجدد باستمرار، نتيجة تزايد اهتمام الباحثين بقضايا الترجمة في أنحاء العالم، وهو يضم مجموعة كبيرة من دراسات الترجمة التي صدرت باللغات المختلفة.
وعند البلتاجي كتب ودوريات باللغة التشيكية كثيرة في مجال الترجمة، أهمهما كتاب بعنوان «فن الترجمة»، وهو باللغة التشيكية، واسم المؤلف يرشي ليفي. وهذا الكتاب صدر في الستينات، باللغة التشيكية، ويلفت البلتاجي إلى أنه يعده «مرجعاً أساسياً يتناول قضايا الترجمة بوصفها علماً وفناً، ويناقش كثيراً من تقنيات الترجمة الأدبية خاصة، سواء كانت رواية أو مسرحاً أو شعراً»، مضيفاً: «أما المرجع الآخر الذي يترأس قائمة الكتب الأكثر تداولاً في يدي، ودائماً ما ألجأ إليه، فهو كتاب (الترجمة ونظرياتها)، من تأليف أمبارو أورتادو ألبير، وترجمة د. على المنوفي». وهذا العمل الذي يزيد في نسخته العربية على ألف صفحة يتناول قضية الترجمة وتاريخها، ومفاهيمها الأساسية، ومراحلها، بصورة مستفيضة. ولا يقتصر الكتاب فقط على الجانب النظري، بل يتناول الترجمة كعملية نصية، وكعملية اتصال، وما تحتويه من اختلافات ثقافية محتملة، وسياقات اجتماعية متباينة.
والقسم الرابع من المكتبة، وهو الأكثر ديناميكية لدى البلتاجي، حيث يظل في تزايد مطرد، هو قسم الأدب: إصدارات أدبية متنوعة من الأدب التشيكي والسلوفاكي، والعربي بالطبع. وربما نسبة الكتب التشيكية والسلوفاكية أكبر، حيث يقضي وقتاً كبيراً في متابعة وقراءة مختارات من الأدبين. كما أنه يحرص في أثناء زيارته السنوية لمدينتي براغ وبراتسلافا على اقتناء كل ما يُمكنه من متابعة النشاط الأدبي في كلتا الدولتين، فضلاً عما يحمله به الأصدقاء في المؤسسات الثقافية هناك من كتب تأتيه على شكل هدايا غالباً «لكني أدفع مقابلها في صورة (وزن زائد) في المطارات».
ويأتي قسم الأدب العربي في مكتبة البلتاجي باعتباره جزءاً أصيلاً منها، إذ يقول: «تغلب عليه الكتابات الحديثة الشابة، فأنا أعد التجارب الأدبية الحديثة أهم بكثير للمترجم من التجارب الأدبية الكلاسيكية، حيث إنها تقدم تجارب مختلفة، من حيث اللغة المتحررة والتعبيرات المتجددة والمعالجات الجديدة، لكن ممارستي للترجمة تفسد عليّ للأسف متعة القراءة الحرة والاستمتاع بهذه التجارب بصورة كاملة، فكثيراً ما أنظر إلى العمل من منظور نقدي تقني؛ أبحث فيه عن هذه المستجدات والصياغات والمعالجات التي تفسد عليّ غالباً متعة القراءة والاستمتاع بالدهشة».
ويتابع البلتاجي: «أحب كثيراً التجريب والنحت اللغوي الحر، فحرية الإبداع من حرية وسيلة الإبداع، وهي اللغة. لذلك تعجبني كثيراً روايات إنعام كجه جي، وعلوية صبح، وعلاء الديب، وطارق إمام، ومي خالد، حيث اللغة عندهم تتميز بتشكيلات إبداعية متجددة ومنحوتات مدهشة. ومن ثم، أعد أي عمل أدبي عربي أقرأه هو بمثابة إحياء وتجديد للمخزون اللغوي الذي استمد منه صياغاتي اللغوية في أثناء الترجمة كي لا أسقط في فخ جمود لغة المترجم. كما أن الكتابات العربية المنفتحة، خصوصاً لغوياً، تثري من قاموسي وتضيف إليه الكثير».



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.