في شهر أبريل (نيسان) من سنة 1983 غادر هذا الناقد الفندق الذي حل فيه بالقرب من «قصر الفنون الرفيعة» في سان فرانسيسكو في نحو التاسعة صباحاً. يقع الفندق على خطوات من ذلك القصر في شارع لومبارد. استدار الناقد يميناً ومشى حتى شارع وبستر الذي يبدأ على ارتفاع منخفض ثم يعلو على نحو متواصل تبعاً لطبيعة المدينة المبنية على هضاب وجبال متوالية. على بعد عشر دقائق من بداية شارع وبستر هناك منزل كبير من طابقين.
إنه منزل يملكه المخرج فرنسيس فورد كوبولا وهو لم يدعني إليه. ما حدث هو أنه خلال حضوري مهرجان سان فرانسيسكو الدولي (الذي كان يُقام في قصر الفنون ذاك) التقيت بالمخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي الذي أعطاني العنوان لكي أقوم بزيارته.
ضغطت على الجرس وفتح مارون بغدادي الباب بنفسه. تصافحنا وبدأت أسأله ماذا يفعل في سان فرانسيسكو وكيف حاله الآن ولم ألاحظ أن صوتي مرتفع. قاطعني وطلب مني خفض صوتي لأن مارتن سكورسيزي لا يزال نائماً.
إذن البيت لكوبولا الغائب عنه وهو وافق على استضافة صديقه المخرج مارتن سكورسيزي الذي استضاف بدوره مارون بغدادي. لم يكن البغدادي على ثقة كاملة من أنه يريد تحقيق فيلم ما في نيويورك أو هوليوود: «هذا ليس ما أطمح إليه. أسلوبي وأسلوب عملي وتفكيري لا ينصب في هذا الاتجاه».
- صعود وهبوط
بعد نحو ربع ساعة تواعدنا على لقاء آخر في مكان آخر (تم بعد ثماني سنوات في مهرجان مونبلييه الفرنسي) وغادرت المنزل نزولاً هذه المرّة إلى حيث أتيت. كانت هذه هي المرّة الأولى التي أزور فيها هذه المدينة فعلياً. على نحو غير فعلي، كان عشقي لها قائم في الأساس على دعاية فيلم واحد شاهدته شاباً صغيراً سنة 1986 بعنوان «بوليت» للمخرج البريطاني بيتر ياتس.
ستيف ماكوين (الممثل وليس المخرج الحالي بالاسم نفسه) هو التحري الذي لا يُرتشى ولا يتأثر بأي تهديد. روبرت فون هو المدعي العام الذي يريد الحفاظ على شاهد هارب من المنظمة في شيكاغو حياً إلى حين تقديمه إلى المحكمة.
عين المدعي العام على المكسب السياسي. عين التحري بوليت على خدمة القانون أولاً وأخيراً. لكن المنظمة تبعث برجلين من المحترفين (بول كنغ وبل هيكمان) لقتله في الفندق الذي ينزل فيه بحماية أحد رجال بوليت. القضية تتطوّر. القاتلان يلاحقان (على إيقاع لحن لالو شيفرِن غير المنسي) فوق طرقات سان فرانسيسكو حيث تقع الأحداث. بوليت يعلم أنه مُطارَد… لكنه سيغير الوضع بحيث يصبح هو المطارِد.
- الأعاجيب تبدأ هنا
كون المدينة قائمة على مرتفعات يجعل الشوارع في ذلك الجزء المنتصف من المدينة عبارة عن شوارع جبلية صاعدة وهابطة.
بيتر ياتس، بأسلوبه التسجيلي الذي مارسه كأحد سينمائيي جماعة السينما البريطانية الجديدة في الستينات، عمد إلى توظيف ذلك في مطاردة تبدأ في المدينة ثم تغادرها وتنتهي بمقتل المجرمين. لكن قبل هذه النهاية تقفز السيارتان بعجلاتهما فوق قمة كل مرتفع على علو واضح قبل أن تحط على الأرض. مشهد لم يغب عن بال هذا الناقد وهو يصل إلى مدينة سان فرانسيسكو ويأخذ تاكسي من أحد المرتفعات (في اليوم الأول من وصوله). المتحدرات كانت من الشدة بحيث تساءلت إذا ما كانت سيارة التاكسي ستقلب رأساً على عقب وهي تهبط من أعلى الجبل صوب الساحل الشمالي من المدينة حيث يقع المهرجان والفندق ومطعم الفلافل الفلسطيني القريب.
- 1906
سان فرانسيسكو كانت دوماً مرحبة بالسينما. فيها تم إنشاء أول صالة سينما في الولايات المتحدة (ولو أن هناك خلافاً أميركياً - أميركياً حول هذا الموضوع) إذ قامت بعرض الأفلام منذ سنة 1906. في كل الأحوال هي أكبر صالة سينما عمراً إذ ما زالت تعرض الأفلام إلى اليوم جنباً إلى جنب صالتين آخرتين هما «ذا ستانفورد» و«كاسترو».
الكاميرا دارت في سان فرانسيسكو في العام ذاته عندما أتي زلزال كبير على معظم أنحاء المدينة فدمّرها وذلك في18 أبريل (نيسان) سنة 1906 أيضاً. وسرعان ما شبت نيران نتيجة انفجارات أنابيب ومحطات الغاز والنفط خرج عن قدرة المدينة استحواذه فاندلعت النيران لبضعة أيام ما زاد من آثار النكبة.
هناك فيلمان حول الكارثة أحدهما من إنجاز الأخوين مايلز والثاني لا يعرف من قام بتحقيقه. سافر الأخوان مايلز بما صوّراه إلى نيويورك للتحميض في السابع عشر من ذلك الشهر أي قبل 24 ساعة من الزلزال الكبير. بعد نحو أسبوع عادا إلى المدينة المنكوبة وصوّراها من جديد وبالطريقة ذاتها مستعرضين ما آلت إليه وهذا التصوير، الذي تحوّل إلى قسم آخر، ضاع منذ ذلك الحين إلى أن اكتشف وجوده شاب أميركي يعيش في لندن كما أشارت محطة CNN في نهاية إحدى نشراتها الإخبارية سنة 2017.
- مخرج مجهول
الفيلم الآخر مجهول الصانع وتم تصويره بعد النكبة لكن هناك احتمال أن يكون المؤرخون مزجوا بين الفيلمين واعتبروهما مستقلين كل عن الآخر. هوليوود عادت إلى حكاية الزلزال الكبير في فيلم بعنوان «سان فرانسيسكو». هذا كان من إنتاج مترو - غولدوين ماير سنة 1936 التي أسندت إلى وودي فإن دايك مهمة تحقيقه.
بطل فيلم «ذهب مع الريح» (1939) لم يهتم بالموضوع ولم يرغب في تمثيله لكن عقده مع مترو غولدوين ماير لم يخوّله الاختيار فقبل بالمهمة غصباً عنه وتجلّى ذلك في تعامله الخشن مع بطلة الفيلم.
المخرج الأشهر من فان دايك، وورك ديفيد غريفيث ساعد في تحقيق بعض فصول الفيلم لكن اسمه لم يذكر في الفيلم وأحد هذه الفصول هو الفصل الذي يقع فيه الزلزال ذاته. هذا الفصل مصنوع بدراية فعالة وتنفيذ محكم. والنتيجة مبهرة بحيث إن الفيلم ساد إيرادات ذلك العام وعلى نسقه قامت شركة فوكس بتحقيق فيلم عن زلزال آخر في مدينة أخرى عنوانه «أولد شيكاغو» حققه هنري كينغ بعد عامين.
- هاميت وصقره المالطي
سان فرانسيسكو ليست المدينة التي تم تصوير أفلام الكوارث فيها فقط. وفيلم «بوليت» ليس الفيلم المعاصر الوحيد الذي استغل إمكانياتها المعمارية وطبيعتها الخاصة. لكن طبيعتها تناسبت وتحقيق أفلام تشويقية في كثير من الأحيان في مقابل بعض الأفلام العاطفية من بينها فيلما وودي ألن «العبها ثانية، سام» (لهربرت روس، 1972) و«بلو جاسمين» (إخراجه من دون تمثيله، 2013).
هي المدينة التي اختارها أيضاً هال أشبي لتحقيق أحد أفلامه الدرامية «هارولد ومود» (1971). وفيها قام كريس كولمبوس بتحقيق فيلمه الكوميدي «مسز داوتفاير» (1993) وحول حاكم المدينة هارفي ميلك أخرج غس فان سانت «ميلك» سنة 2003. وقبله قام الصيني الأصل واين وانغ بتحقيق فيلمه الجيد «ديم صم: قليل من القلب» سنة 1985.
في الأربعينات قام جون هيوستون بإخراج «الصقر المالطي» من بطولة همفري بوغارت لاعباً شخصية التحري سام سبايد كما وضعها الروائي داشل هاميت. رغم أن هاميت عاش في سان فرانسيسكو وقص حكاية تدور في أرجائها، إلا أن هيوستون آل لعدم استخدام المدينة إلا في مشهد تأسيس المكان العام في مطلع الفيلم الذي تم تصويره سنة 1941.
عاد همفري بوغارت إلى سان فرانسيسكو بعد خمس سنوات وقام بتمثيل «ممر مظلم» لكاتب بوليسي آخر هو ديفيد غوديس. الفيلم، من إخراج دلمر ديفيز يوظف المدينة جيداً في الدقائق العشر الأولى من الفيلم.
بعد عام واحد قام أورسن ولز بتصوير فيلمه الجيد كذلك «سيدة من شنغهاي» في أرجاء تشايناتاون في سان فرانسيسكو. مثله ولز، كما أخرجه ومعه في البطولة ريتا هايوورث التي لاحقاً ما وصفت الفيلم بـ«المذهل» ولو أنها أضافت: «لكني لم أفهم ما يدور الفيلم حوله جيداً»… شاركها في هذا الرأي عدد من النقاد والكثير من المشاهدين.
خمسينات القرن الماضي بدأت بفيلم رادولف ماتي D.O.A (الأحرف الأولى من Dead On Arrival أو «ميت عند الوصول»). أيضاً هو فيلم بوليسي - تشويقي داكن (فيلم نوار) مع إدموند أو برايان في دور فريد.
- عن المال والمرأة
تعددت الأفلام قليلاً في الخمسينات إلى أن توّجها (وتوّج سينما الغموض والتشويق بأسرها) فيلم «فرتيغو» (1958) للمبدع ألفريد هيتشكوك.
كيم نوڤاك تلعب لعبتها على جيمس ستيوارت وتدعي مقتلها ثم تعاود الظهور أمام عينيه حيّة. يعتقد أنها شبيهة بالمرأة الأولى قبل أن يفهم أنه كان موضع حبكة دبرت ضده.
الستينات، طبعاً، هو العقد الذي قام فيه المخرج البريطاني بيتر ياتس بتحقيق فيلمه الرائع «بوليت» كما تقدم. الفيلم الذي وضع أسساً جديدة لأفلام المطاردات من بينها «فرنش كونكشن» لويليام فردكن (1971) الذي دارت أحداثه (ومطارداته) في مدينة نيويورك.
شهدت الستينات أيضاً فيلم «بوينت بلانك» للآيرلندي جون بورمان. حققه سنة 1967 حول قصّة انتقام بطلها لي مارفن وعدوه فيها جون فيرنون والخلاف هو على امرأة (أنجي ديكنسون) وبعض عشرات آلاف الدولارات حصة مارڤن التي التهمها غريمه فيرنون.
في أول السبعينات قام كلينت إيستوود ببطولة «ديرتي هاري» للمخرج دون سيغال (1971) وفي نهايتها عاد الاثنان إلى المدينة ليحققا فيها «هارب من الكاتراز» (1979). الكاتراز جزيرة قريبة تم تحويلها إلى سجن محاط بالماء وأسماك القرش وكانت مسرحاً لأفلام سجون عديدة من الثلاثينات والأربعينات وما بعد (وظهرت قليلاً في فيلم جون بورمان «بوينت بلانك»).
في فترة متوسطة من السبعينات حقق المخرج الرائع فرنسيس فورد كوبولا فيلمه «المحادثة» (1974) ليختار المدينة مكاناً يعيش فيه بعد ذلك (كما يمتلك خارجها حقول عنب هي قوام «بزنس» آخر له هو صنع النبيذ).
أفلام كثيرة أخرى صوّرت فيها واحتمت بديكورها الطبيعي الأخاذ. كثير منها مرّ في مخيلتي خلال سنة 1984 وفي زيارتين لاحقتين للمدينة صممت خلالهما البقاء في ذات الفندق المتواضع الكامن في وسط المسافة بين شارع لومبارد وساحل المدينة التي ترى منه جسر غولدن غايت الذي كان مسرح أفلام أخرى أفضلها «ڤرتيغو» بالطبع.