تركيا: خضوع أكثر من نصف مليون شخص للتحقيق منذ محاولة الانقلاب

TT

تركيا: خضوع أكثر من نصف مليون شخص للتحقيق منذ محاولة الانقلاب

كشفت إحصاءات رسمية في تركيا أن عدد الأشخاص الذين خضعوا للتحقيق منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016 وحتى بداية العام الجاري، بتهمة الضلوع في الانقلاب والانتماء إلى حركة الخدمة التابعة لفتح الله غولن التي تتهمها السلطات بالوقوف وراء هذه المحاولة، بلغ 500 ألف و650 شخصا.
وبحسب أرقام حديثة لوزارة العدل التركية، تم التحقيق مع 400 ألف و650 شخصا. ومن بين هؤلاء 379 ألفا و732 رجلا و103 آلاف و517 سيدة، وتم اتخاذ إجراءات قانونية بحق ألفين و60 طفلا بزعم الانتماء لحركة الخدمة.
وأشارت بيانات الوزارة إلى أن أعمال التحقيق والملاحقة القانونية لا تزال مستمرة بحق 259 ألفا و99 شخصا، في حين أن عدد المتهمين في الدعاوى القضائية التي لا تزال قائمة بلغ 78 ألفا و544 شخصا. وتضمّ السجون التركية 30 ألفا و679 شخصا بتهمة الانتماء لحركة الخدمة، التي صنّفتها السلطات في تركيا كمنظمة إرهابية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، من بينهم 18 ألفا و679 مداناً، بينما لا يزال الآخرون رهن الاعتقال. وأشارت الإحصاءات إلى فرار 22 ألف شخص أثناء التحقيق معهم، أو ملاحقتهم بتهمة الانتماء للحركة.
كما أصدرت السلطات قرارات إخضاع للرقابة القضائية بحق 77 ألفا و355 شخصا، من بينهم 24 ألفا و335 شخصا في مرحلة التحقيق، و53 ألفا و30 شخصاً في مرحلة الملاحقة.
وتنفّذ السلطات التركية «حملة تطهير» واسعة في مؤسسات الدولة أسفرت عن سجن نحو 80 ألفاً في انتظار المحاكمات، وفصل أكثر من 175 ألفاً من عملهم، بدعوى الانتماء إلى حركة غولن، وتثير هذه الحملة انتقادات حادة لتركيا من جانب الغرب والمنظمات الحقوقية الدولية، التي رأت أن السلطات استخدمت محاولة الانقلاب كذريعة للتخلص من جميع معارضي الرئيس رجب طيب إردوغان، حيث لم تقتصر على من يزعم ارتباطهم بغولن فقط، وإنما شملت أطيافاً واسعة من المعارضين له.
وتقول المعارضة التركية إن محاولة الانقلاب الفاشلة ليست إلا «حادثة مفتعلة» من جانب إردوغان لاستخدامها كذريعة لسحق معارضيه، وتكريس حكم الرجل الواحد في البلاد، لكن الحكومة التركية تقول إن هذه الحملة مطلوبة من أجل إبعاد أي خطر على أمن البلاد.
والأسبوع الماضي، كررت تركيا مطالبتها للولايات المتحدة مجدداً بتسليم فتح الله غولن الذي كان في السابق أقرب حليف لإردوغان وحكومته، والذي اختار ولاية بنسلفانيا الأميركية للإقامة فيها منذ العام 1999 كمنفى اختياري، بعد أن سبق وأعلنت الإدارة الأميركية أكثر من مرة أنها لا يمكنها التدخل في هذا الأمر الذي يخضع للقضاء بشكل كامل، مطالبة أنقرة بتقديم أدلة دامغة على وقوف غولن، وحركة «الخدمة» التابعة له، وراء محاولة الانقلاب الفاشلة.
وحملت رسالة بعث بها وزير العدل التركي عبد الحميد غل، يوم الجمعة الماضي، لتهنئة نظيره الأميركي الجديد ويليام بار، بمناسبة توليه المنصب، مطالبة جديدة بتسليم غولن وباقي أعضاء حركته لتركيا. وينفي غولن أي صلة له بمحاولة الانقلاب.
ومؤخراً، قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب وعد بالبحث في مسألة تسليم غولن، لكن البيت الأبيض نفى أن يكون ترمب قدم وعداً بتسليم غولن، وإنما أشار إلى أنه سيتم التحقيق بشأن حركة «الخدمة» في أميركا، وإذا قدمت أنقرة أدلة دامغة على تورط غولن في حركة «الخدمة»، قد يتم النظر في مسألة تسليمه. ورفضت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما التدخل في القضية كونها خاضعة للقضاء، وهو الموقف نفسه الذي تبنته إدارة ترمب.
في سياق متصل، تراجعت تركيا في التصنيف العالمي لسيادة القانون إلى المرتبة 109 من أصل 126 دولة شملها التصنيف. ونقلت صحيفة «جمهوريت» التركية عن التقرير أن الحكومة التركية فشلت في تحقيق التزامها بسيادة القانون، لتأتي في مرتبة متدنية بعد دول أخرى مثل ناميبيا ورواندا وبوركينا فاسو والصين وإيران.
وأضاف التقرير أن تركيا احتلت المرتبة 123 في مجال مكافحة الفساد، والمرتبة 93 بالنسبة لمعايير الشفافية الدولية. وجاءت الدنمارك والنرويج وفنلندا في المراكز الثلاثة الأولى في التزامها بتطبيق القانون.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟