كيف تعامل الشعراء المحدثون مع ثيمة الموت؟

قسم منهم اعتبروه وحشاً كاسراً أو صياداً وآخرون زائراً

كيف تعامل الشعراء المحدثون مع ثيمة الموت؟
TT

كيف تعامل الشعراء المحدثون مع ثيمة الموت؟

كيف تعامل الشعراء المحدثون مع ثيمة الموت؟

كلما امتد العمر بالشعراء اختلفت نظرتهم للحياة وللموت معا، فالزمن هو العامل الأكثر أثراً على الشعراء، والأشد وطأة على نصوصهم، إذ كلما اختُطف عامٌ من أعوامهم بدوا برثائه، وكلما انهدرت لحظاتٌ من بين أصابعهم بكوها بكاءً حاراً، فالشعراء هم الكائنات الأكثر تحسساً من الزمن، والأشد خوفاً من التوغل في العمر، فكلما توغلت سنوات الشاعر نحو الشيخوخة توغلت رؤيته نحو زمن يراوح ما بين الموت والحياة.
إنّ مسألة الموت قاهر الشعراء وقاهر الكائنات جميعا شكّلت ثيمة أساسية في نصوص معظم الشعراء، فالموت هاجسهم الذي يطاردونه، وصديقهم الذي لا يحبونه، فيراوغونه بالكتابة وهذا ما دعا درويش أنْ يقول (هزمتك يا موتُ الفنون جميعها، هزمتك يا موت النقوش على حجارة معبد....)، بهذه المراوغة التي يبتكرها الشعراء، تعددت نظرتهم له، فما بين الوحش الذي ينشب أظفاره إلى كائن وديع يصاحب الموتى في رحلة يسيرة، ما بين هذا وذاك نجد تمظهرات متنوعة للموت أطلقها الشعراء، صرخات احتجاج وخوف مرات، ولحظات تصالح واستسلام مرات أخرى.
فالشاعر «أبو ذؤيب الهذلي» قديما قال عن الموت وأصبح بيته من أشهر ما قيل فيه:

وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
وبهذه النظرة هيمنت فكرة الوحش على مجمل الخطابات الشعرية، فقد بقي الوحش ذو الأظافر الدامية يهيمن زمناً طويلاً على الشعراء الذين يتعاملون مع الموت، فالجواهري يكاد يكرر تلك الصورة النمطية التي تساوق عليها الشعراء حيث يقول:

ذئبٌ ترصدني وفوق نيوبه
دم إخوتي وأقاربي وصحابي
وهو بهذه النظرة يتطابق تمام التطابق مع النظرة التقليدية للموت حيث يشبهه بالوحش ذي النيوب المدماة، وأنه ينقضُّ على فريسته كأي حيوان مفترس.
لقد بقيت النظرة التقليدية للموت مهيمنة على أغلب من تناول هذه الموضوعة بوصف الموت وحشا كاسرا، علما بأن الجذور الدينية والميثولوجية لم تتحدث عن الموت بوصفه وحشا، وربما تحتاج هذه الفكرة إلى مزيد من البحث والدراسة.
بقيت النظرة للموت حتى مع التحول الحداثي في القصيدة العربية، فقد تحولت معه موضوعات متعددة، ومنها موضوعة الموت، التي بقيت تتناوبها نظرتان: الأولى مختلفة عن السياق، فيما الثانية منقادة للسياق المعروف، وإنْ اختلف الأداء واللغة، فالسياب أحد أهم شعرائنا الذين شكل الموت هاجساً مقلقاً له، فتناوله بنصوص كثيرة مصرحاً وملمحاً له، إلَا أنه لدى «السياب» مختلف عن (الموت الوحش) المعتاد لدى الآخرين، فهو عالم غامض ومختلف ولكنه بلا ملامح.
حيث يقول:

فالموت عالم غريب يفتن الصغار
وبابه الخفي كان فيك يا بويب
بينما خصص محمود درويش عملا كاملا يتحدث فيه عن الموت، وما بعده، وهو (الجدارية) وأزعم أن هذا العمل شكل تحولاً مهماً في شعرية درويش، وأصبح يؤشر عليه ما قبل الجدارية وما بعدها، وعلى الرغم من اللغة الهائلة في الجدارية والحوار اللذيذ الذي اجترحه «درويش» مع الموت فإنه ما زال ينظر إليه نظرة الصياد، أي إن النظرة إلى الموت ما زالت نفس النظرة التقليدية على الرغم من تحول اللغة ودهشة الصور والبناء الدرامي الساحر في الجدارية فهو يقول:
(ويا موت انتظر يا موت / حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي / لتكون صيادا شريفا لا يصيد الظبي قرب النبع / ولتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة.... / لم يمت أحد تماما / تلك أرواح تبدل شكلها ومقامها)، وهنا يدخل درويش بحوار دافئ وشيق مع الموت لغة وبناء وجدالا، ولكن في النتيجة التي نستخلصها من هذا المقطع فإن درويش لم يغادر النظرة التقليدية للموت، فما زال ينظر إليه بوصفه صياداً لا أكثر (لتكون صياداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع) والإنسان عبارة عن ظبي يترصده الصياد في أي لحظة. ويؤكد «درويش» على فكرة الصياد في مقاطع أخرى من الجدارية (اجلس على الكرسي / ضع أدوات صيدك تحت نافذتي/ وعلق فوق باب البيت سلسلة المفاتيح الثقيلة / لا تحدق يا قوي إلى شراييني/ لترصد حالة الضعف الأخيرة / أنت أقوى من نظام الطب/ أقوى من جهاز تنفسي / أقوى من العسل القوي / ولستَ محتاجاً / لتقتلني / إلى مرضي/ فكن أسمى من الحشرات...)، وعلى الرغم من دهشة البناء واجتراح الصور المدهشة فإن الفكرة العامة هي فكرة الصياد التي تتعاضد مع فكرة الوحش.
ولكنْ هناك شعراء استطاعوا أنْ ينحرفوا بموضوعة الموت، ويبتكروا لها معالجة مختلفة غير معتادة، فعبد الرزاق عبد الواحد يكتب عن الموت في واحدة من أهم نصوصه - كما أرى - وهو نفسه كان يقول لنا - في جلسات خاصة نهاية التسعينات وبداية الألفين - بعد موتي، والحديث لعبد الرزاق عبد الواحد، لن يتبقى من شعري إلا القليل، ستبقى مسرحية «الحر الرياحي»، والحديث ما زال له، وستبقى «الزائر الأخير» وبعض النصوص الأخرى، وسيذهب «ثلثا شعري» أدراج الرياح، هكذا كان يقول. و«الزائر الأخير» أحد أكثر النصوص تعاملاً مع الموت، ولكنه تعامل مختلف، يبدأ من العنوان، فالموت ليس وحشاً، إنّما هو زائر سيطرق الباب، ويجلس، بحيث أضفى عبد الرزاق كل صفات الإنسان إلى الموت من حديث، وحركة، وتعامل لطيف. يقول: (من دون ميعادِ/ من دون أنْ تقلق أولادي / اطرقْ علي الباب / أكونُ في مكتبتي في معظم الأحيان/ إجلسْ قليلاً مثل أي زائرٍ / وسوف لا أسأل لا ماذا ولا من أينْ / وعندما تبصرني مغرورق العينين / خذ من يدي الكتاب / أعده لو سمحت دون ضجة للرف حيث كان / وعندما نخرج لا توقظ ببيتي أحدا / لأنَّ من أفجع ما يمكن أنْ تبصره العيون / وجوه أولادي حين يعلمون). فيما نظر «أمل دنقل» نظرة أخرى للموت، وشكل اللون أحد أهم مفاتيح الحوار مع الموت، ولكنه تعامل اليائس والمنقاد له، ولكامل تفاصيله، فديوانه «الغرفة رقم 8» هو اشتغال واسع لفكرة الموت أججتها أمراض «أمل دنقل» ورقاده الطويل في المستشفى، وفي الغرفة رقم 8 التي أصبحت فيما بعد عنواناً لمجموعته الأخيرة، وهي من أهم أعماله؛ حيث يقول في هذا النص:
(في غرف العمليات / كان نقاب الأطباء أبيض / لون المعاطف أبيض / تاج الحكيمات أبيض / أردية الراهبات / الملاءات / لون الأسرة / أربطة الشاش والقطن / قرص المنوم / أنبوبة المصل / كوب اللبن / كل هذا البياض يشيع بقلبي الوهن / كل هذا البياض يذكرني بالكفن / فلماذا إذا متُّ / يأتي المعزَّون متشحين بشارات لون الحداد/ هل لأن السواد / لون التميمة ضد الزمن / ضد من / ومتى القلب في الخفقان اطمأن).
إنَّ الحديث عن تعامل الشعراء ونظرتهم للموت، حديثٌ طويل ومتشعب، ونابع بالأساس من ثقافة الشعراء، واعتكافهم على مشروعاتهم الشعرية، وتغلغل الحياة والموت بذواتهم الشاعرة، وهذا ما دعا شاعراً مثل «محمد علي شمس الدين» أنْ يخاطبه بروح صوفية دافئة حيث يقول:
وأنا لستُ قويا كيما تنهرني بالموت
يكفي أن ترسل في طلبي
نسمة صيف فأوافيك
وتحرك أوتار الموسيقى
لأموت وأحيا فيك



مجسّمان جنائزيان من مقبرة «سار» الأثرية

مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT

مجسّمان جنائزيان من مقبرة «سار» الأثرية

مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقبرة «سار» الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من القطع الفنية النحتية تعود إلى الحقبة التي عُرفت فيها الجزيرة باسم تايلوس، بين القرن الأول قبل الميلاد، والقرن الثاني للميلاد تحديداً. تشهد هذه المجموعة لثراء هذا الموقع الاستثنائي في ميدان الفنون الجنائزية، وتتميّز بتعددية الطُّرُز الفنية المتّبَعَة في النقش والنحت، كما يتّضح عند دراسة نماذجها المختلفة. وفيما يتبنّى جزء كبير من هذه القطع قوالب جامعة، يتفرّد بعض القطع في المقابل بأساليب تبدو غير شائعة، ومنها قطعة عُرضت في باريس ضمن معرض مخصّص للبحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في صيف 1999.

عُثر على هذه القطعة خلال أعمال التنقيب التي أجرتها بعثة محلية بين عامي 1995 و1996 في مساحة محدّدة من مقبرة «سار» التي تقع في المحافظة الشمالية، وتبعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة. وكُشف عن هذا الأثر الفني للمرة الأولى في المعرض الذي أُقيم في العاصمة الفرنسية على مدى 4 أشهر، وهو على شكل مجسّم آدمي صُنع من الحجر الجيري، يبلغ طوله 27 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسُمْكه 7 سنتيمترات. نُحت هذا النصب الصغير في كتلة واحدة تتكون من مساحة مستطيلة تعلوها مساحة دائرية. تمثّل المساحة المستطيلة بدن هذا المجسّم الآدمي، وتمثّل المساحة الدائرية رأس هذا البدن.

تحاكي بنية هذا التكوين بشكل عام طرازاً معروفاً باسم «نفيش»، وهو تعبير آرامي مرادف لتعبير «نفس» في العربية. وهذا الطراز معروف في البحرين، كما تشهد مجموعة من القطع خرجت من مقابر أثرية تقع في المحافظة الشمالية، منها مقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر، ومقبرة أبو صيبع. كما أنه معروف خارج البحرين، كما تشهد قطع مماثلة عُثر عليها في جزيرة تاروت، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. يتميّز هذا الطراز بأسلوبه التجريدي الصرف، إذ تخلو مساحته المسطّحة من أي ملامح آدمية، وتمثّل القطع التي تتبنى هذا الطراز شواهد قبور تُغرز في الأرض، وذلك لتحديد موقع الدفن، وتخليد ذكرى من دُفن فيه.

يحاكي المجسّم الذي خرج من مقبرة «سار» هذا الطراز في الظاهر، غير أنه لا يتبنّاه كما يبدو. تتكوّن مساحة هذا المجسّم من كتلة عمودية أسطوانية، وتتميّز بحضور الملامح الآدمية بشكل جليٍّ. الوجه بيضاوي يغلب عليه الشكل الدائري، وملامحه مختزلة غير أنها واضحة، وتتمثل بعينين لوزيّتين صغيرتين نُقشتا بشكل غائر، يتوسّطهما أنف مستطيل طويل نُقش بشكل ناتئ. يحضر الثغر بشكل بسيط، ويتمثّل في كتلة بيضاوية ناتئة بشكل طفيف، يخرقها في الوسط شق غائر يفصل بين الشفتين المجرّدتين. وتحضر الأذنان بشكل مشابه، وتتمثّل كل منهما بكتلة نصف دائرية تستقرّ عند حدود العين.

تحمل مساحة البدن شبكة من النقوش المتوازية تشير إلى ثنايا رداء يتلفع به صاحب المجسّم، ومن طرف هذا الرداء المنسدل، تخرج راحة كف اليد اليمنى المنبسطة، مع خمسة خطوط متوازية غائرة ترسم حدود أصابعها الخمس. كذلك، تظهر اليد اليسرى في الطرف المقابل، وتأخذ شكل كتلة بيضاوية مجرّدة تحتجب تحت ثنية الرداء التي تُمسك بها كما يبدو. يصعب تحديد وظيفة هذا المجسّم، والأرجح أنه صُنع ليرافق المتوفى الراقد في القبر كما يرى أهل الاختصاص. يشابه هذا المجسّم شواهد القبور التي تصنّف تحت خانة «نفيش»، ويختلف عنها بكتلته الأسطوانية وبملامحه الواضحة. في المقابل، تشير كف اليد اليمنى المنبسطة عند أعلى الصدر إلى نسق فني شائع، يحضر بشكل واسع في شواهد القبور التي تتبنى نسقاً تصويرياً يخرج بشكل كامل عن هذا النسق التجريدي. ويشير هذا العنصر تحديداً إلى وضعية المبتهل التي تكوّنت في العالم الإيراني القديم، في ظل الإمبراطورية الفرثية، وبلغت نواحي عديدة من الشرق القديم، واتّخذت في هذه البقاع أشكالاً متفرّعة جديدة.

تتميّز هذه القطعة بهذا الأسلوب المبتكر، غير أنها لا تتفرّد به، إذ نقع على قطعة مماثلة خرجت كذلك من مقبرة «سار»، وحضرت ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أُقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012 وحمل عنوان «تايلوس... رحلة ما بعد الحياة»، وضمّ مجموعة مختارة من القطع الأثرية الجنائزية، تختزل «شعائر وطقوس الدفن في البحرين» بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثالث للميلاد. تماثل هذه القطعة في تكوينها كما في حجمها القطعة التي عُرضت في معهد العالم العربي، مع اختلاف بسيط في بعض التفاصيل. ملامح الوجه واحدة، غير أنها تبدو أقل رهافة، كما يظهر بشكل خاص في نقش العينين اللوزيتين. الأنف الناتئ مهشّم للأسف، والأذنان المنمنمتان تحدان مساحة الوجه عند حدود العينين، والثغر شبه ذائب في الكتلة الحجرية.

تغيب ثنايا الرداء عن هذه الكتلة كلياً، وتحضر اليد اليسرى في المقابل، وتظهر أصابعها الخمس بشكل كامل. يتكرّر حضور راحة اليد اليمنى المنبسطة في وضعية الابتهال التقليدية، وتشير إلى ظهور نسق اختمر واكتمل في مرحلة لاحقة، كما تشهد عشرات شواهد القبور التي خرجت من عدة مقابر أثرية في العقود الأخيرة.

في الخلاصة، تمثّل هاتان القطعتان الفريدتان اللتان خرجتا من مقبرة «سار» طرازاً وسيطاً يحمل السمات الأولى لأسلوبٍ محليٍّ يجمع بين أساليب متعدّدة خرجت من العالمين اليوناني والإيراني، وذلك فقاً لمسار حضاري طبع مواقع متعدّدة في الشرق القديم، أشهرها عربياً تدمر في سوريا، والبتراء في الأردن، والحضر في العراق.