كلما امتد العمر بالشعراء اختلفت نظرتهم للحياة وللموت معا، فالزمن هو العامل الأكثر أثراً على الشعراء، والأشد وطأة على نصوصهم، إذ كلما اختُطف عامٌ من أعوامهم بدوا برثائه، وكلما انهدرت لحظاتٌ من بين أصابعهم بكوها بكاءً حاراً، فالشعراء هم الكائنات الأكثر تحسساً من الزمن، والأشد خوفاً من التوغل في العمر، فكلما توغلت سنوات الشاعر نحو الشيخوخة توغلت رؤيته نحو زمن يراوح ما بين الموت والحياة.
إنّ مسألة الموت قاهر الشعراء وقاهر الكائنات جميعا شكّلت ثيمة أساسية في نصوص معظم الشعراء، فالموت هاجسهم الذي يطاردونه، وصديقهم الذي لا يحبونه، فيراوغونه بالكتابة وهذا ما دعا درويش أنْ يقول (هزمتك يا موتُ الفنون جميعها، هزمتك يا موت النقوش على حجارة معبد....)، بهذه المراوغة التي يبتكرها الشعراء، تعددت نظرتهم له، فما بين الوحش الذي ينشب أظفاره إلى كائن وديع يصاحب الموتى في رحلة يسيرة، ما بين هذا وذاك نجد تمظهرات متنوعة للموت أطلقها الشعراء، صرخات احتجاج وخوف مرات، ولحظات تصالح واستسلام مرات أخرى.
فالشاعر «أبو ذؤيب الهذلي» قديما قال عن الموت وأصبح بيته من أشهر ما قيل فيه:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
وبهذه النظرة هيمنت فكرة الوحش على مجمل الخطابات الشعرية، فقد بقي الوحش ذو الأظافر الدامية يهيمن زمناً طويلاً على الشعراء الذين يتعاملون مع الموت، فالجواهري يكاد يكرر تلك الصورة النمطية التي تساوق عليها الشعراء حيث يقول:
ذئبٌ ترصدني وفوق نيوبه
دم إخوتي وأقاربي وصحابي
وهو بهذه النظرة يتطابق تمام التطابق مع النظرة التقليدية للموت حيث يشبهه بالوحش ذي النيوب المدماة، وأنه ينقضُّ على فريسته كأي حيوان مفترس.
لقد بقيت النظرة التقليدية للموت مهيمنة على أغلب من تناول هذه الموضوعة بوصف الموت وحشا كاسرا، علما بأن الجذور الدينية والميثولوجية لم تتحدث عن الموت بوصفه وحشا، وربما تحتاج هذه الفكرة إلى مزيد من البحث والدراسة.
بقيت النظرة للموت حتى مع التحول الحداثي في القصيدة العربية، فقد تحولت معه موضوعات متعددة، ومنها موضوعة الموت، التي بقيت تتناوبها نظرتان: الأولى مختلفة عن السياق، فيما الثانية منقادة للسياق المعروف، وإنْ اختلف الأداء واللغة، فالسياب أحد أهم شعرائنا الذين شكل الموت هاجساً مقلقاً له، فتناوله بنصوص كثيرة مصرحاً وملمحاً له، إلَا أنه لدى «السياب» مختلف عن (الموت الوحش) المعتاد لدى الآخرين، فهو عالم غامض ومختلف ولكنه بلا ملامح.
حيث يقول:
فالموت عالم غريب يفتن الصغار
وبابه الخفي كان فيك يا بويب
بينما خصص محمود درويش عملا كاملا يتحدث فيه عن الموت، وما بعده، وهو (الجدارية) وأزعم أن هذا العمل شكل تحولاً مهماً في شعرية درويش، وأصبح يؤشر عليه ما قبل الجدارية وما بعدها، وعلى الرغم من اللغة الهائلة في الجدارية والحوار اللذيذ الذي اجترحه «درويش» مع الموت فإنه ما زال ينظر إليه نظرة الصياد، أي إن النظرة إلى الموت ما زالت نفس النظرة التقليدية على الرغم من تحول اللغة ودهشة الصور والبناء الدرامي الساحر في الجدارية فهو يقول:
(ويا موت انتظر يا موت / حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي / لتكون صيادا شريفا لا يصيد الظبي قرب النبع / ولتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة.... / لم يمت أحد تماما / تلك أرواح تبدل شكلها ومقامها)، وهنا يدخل درويش بحوار دافئ وشيق مع الموت لغة وبناء وجدالا، ولكن في النتيجة التي نستخلصها من هذا المقطع فإن درويش لم يغادر النظرة التقليدية للموت، فما زال ينظر إليه بوصفه صياداً لا أكثر (لتكون صياداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع) والإنسان عبارة عن ظبي يترصده الصياد في أي لحظة. ويؤكد «درويش» على فكرة الصياد في مقاطع أخرى من الجدارية (اجلس على الكرسي / ضع أدوات صيدك تحت نافذتي/ وعلق فوق باب البيت سلسلة المفاتيح الثقيلة / لا تحدق يا قوي إلى شراييني/ لترصد حالة الضعف الأخيرة / أنت أقوى من نظام الطب/ أقوى من جهاز تنفسي / أقوى من العسل القوي / ولستَ محتاجاً / لتقتلني / إلى مرضي/ فكن أسمى من الحشرات...)، وعلى الرغم من دهشة البناء واجتراح الصور المدهشة فإن الفكرة العامة هي فكرة الصياد التي تتعاضد مع فكرة الوحش.
ولكنْ هناك شعراء استطاعوا أنْ ينحرفوا بموضوعة الموت، ويبتكروا لها معالجة مختلفة غير معتادة، فعبد الرزاق عبد الواحد يكتب عن الموت في واحدة من أهم نصوصه - كما أرى - وهو نفسه كان يقول لنا - في جلسات خاصة نهاية التسعينات وبداية الألفين - بعد موتي، والحديث لعبد الرزاق عبد الواحد، لن يتبقى من شعري إلا القليل، ستبقى مسرحية «الحر الرياحي»، والحديث ما زال له، وستبقى «الزائر الأخير» وبعض النصوص الأخرى، وسيذهب «ثلثا شعري» أدراج الرياح، هكذا كان يقول. و«الزائر الأخير» أحد أكثر النصوص تعاملاً مع الموت، ولكنه تعامل مختلف، يبدأ من العنوان، فالموت ليس وحشاً، إنّما هو زائر سيطرق الباب، ويجلس، بحيث أضفى عبد الرزاق كل صفات الإنسان إلى الموت من حديث، وحركة، وتعامل لطيف. يقول: (من دون ميعادِ/ من دون أنْ تقلق أولادي / اطرقْ علي الباب / أكونُ في مكتبتي في معظم الأحيان/ إجلسْ قليلاً مثل أي زائرٍ / وسوف لا أسأل لا ماذا ولا من أينْ / وعندما تبصرني مغرورق العينين / خذ من يدي الكتاب / أعده لو سمحت دون ضجة للرف حيث كان / وعندما نخرج لا توقظ ببيتي أحدا / لأنَّ من أفجع ما يمكن أنْ تبصره العيون / وجوه أولادي حين يعلمون). فيما نظر «أمل دنقل» نظرة أخرى للموت، وشكل اللون أحد أهم مفاتيح الحوار مع الموت، ولكنه تعامل اليائس والمنقاد له، ولكامل تفاصيله، فديوانه «الغرفة رقم 8» هو اشتغال واسع لفكرة الموت أججتها أمراض «أمل دنقل» ورقاده الطويل في المستشفى، وفي الغرفة رقم 8 التي أصبحت فيما بعد عنواناً لمجموعته الأخيرة، وهي من أهم أعماله؛ حيث يقول في هذا النص:
(في غرف العمليات / كان نقاب الأطباء أبيض / لون المعاطف أبيض / تاج الحكيمات أبيض / أردية الراهبات / الملاءات / لون الأسرة / أربطة الشاش والقطن / قرص المنوم / أنبوبة المصل / كوب اللبن / كل هذا البياض يشيع بقلبي الوهن / كل هذا البياض يذكرني بالكفن / فلماذا إذا متُّ / يأتي المعزَّون متشحين بشارات لون الحداد/ هل لأن السواد / لون التميمة ضد الزمن / ضد من / ومتى القلب في الخفقان اطمأن).
إنَّ الحديث عن تعامل الشعراء ونظرتهم للموت، حديثٌ طويل ومتشعب، ونابع بالأساس من ثقافة الشعراء، واعتكافهم على مشروعاتهم الشعرية، وتغلغل الحياة والموت بذواتهم الشاعرة، وهذا ما دعا شاعراً مثل «محمد علي شمس الدين» أنْ يخاطبه بروح صوفية دافئة حيث يقول:
وأنا لستُ قويا كيما تنهرني بالموت
يكفي أن ترسل في طلبي
نسمة صيف فأوافيك
وتحرك أوتار الموسيقى
لأموت وأحيا فيك