هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

مقتل الجزائري أبو الهمام يعدّ أكبر ضربة موجعة تلقاها التنظيم الإرهابي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
TT

هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)

ينفق الفرنسيون 700 مليون يورو كل عام على محاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وينشرون هنالك 4500 جندي في إطار عملية «برخان» التي تعدّ أكبر عملية عسكرية تخوضها فرنسا خارج أراضيها، كل ذلك من أجل مواجهة خطر الجماعات المتطرفة المسلحة، التي تشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الفرنسية في هذه المنطقة من العالم التي كانت قبل 60 عاماً تحت الاستعمار الفرنسي، ولا تزال منطقة نفوذ ومصدر قوة ترفض فرنسا التخلي عنه.
وقد تحولت منطقة الساحل الأفريقي، وشمال مالي على وجه الخصوص، إلى ساحة لمواجهة مباشرة بين الجنود الفرنسيين ومقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، في حرب شرسة بدأت مطلع عام 2013 عندما حاول المسلحون المتطرفون الزحف على عاصمة مالي باماكو في الجنوب، بعد 6 أشهر من سيطرتهم على شمال البلاد، ولكن الفرنسيين منعوا ذلك عندما أطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية التي تحولت عام 2014 إلى عملية «برخان».
اليوم يحس الفرنسيون بطعم النصر، وإن بحذر كبير، عندما تمكنت قواتهم من قطف كثير من رؤوس «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الكبيرة، خصوصاً تلك الرؤوس التي كانت تشكل تهديداً مباشراً لمصالحهم في هذه المنطقة من العالم، وكان آخرها الجزائري جمال عكاشة، المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتلته قوات خاصة فرنسية مساء الخميس 21 فبراير (شباط) الحالي، في ضربة موجعة تلقاها تنظيم القاعدة؛ على حد وصف وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي.

الرؤوس الكبيرة
كانت خطة الفرنسيين لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي تقوم على استهداف القادة الكبار بدل الانشغال بمطاردة صغار المقاتلين والمتعاونين المحليين مع هذه التنظيمات التي استطاعت خلال نحو 10 سنوات التغلغل في المجتمع المحلي بشمال مالي، حيث تغيب الدولة المركزية وينتشر الظلم الاجتماعي والفقر والجهل والمرض.
وقد أثمرت خطة الفرنسيين بعد أيام قليلة من تدخلهم العسكري في شمال مالي في يناير (كانون الثاني) من عام 2013، حين تمكنت قواتهم بالتعاون مع القوات التشادية من قتل الجزائري محمد غدير، الملقب بـ«عبد الحميد أبو زيد»، أمير «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والذي اختطف عدداً كبيراً من الرعايا الفرنسيين وكان وراء مقتل الرهينة الفرنسي ميشال جورمانو عام 2011، ووصفه الفرنسيون بأنه عدوهم الأول في الساحل الأفريقي؛ إذ تمكن من الحصول على عشرات ملايين اليوروات من تجارة الرهائن الفرنسيين.
مقتل «أبو زيد» في مواجهات مسلحة داخل جبال الإيفوغاس في أقصى شمال شرقي دولة مالي، ألحق ضرراً كبيراً بـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»؛ إذ فقد واحداً من أبرز قادته، بينما أرغم آخرون على الفرار والاختباء، على غرار الجزائري مختار بلمختار المعروف بلقب «بلعوار»، الذي توجه إلى الجنوب الليبي تاركاً شمال مالي منذ أن دخله الفرنسيون، إلا إن الجزائري جمال عكاشة المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتل الخميس الماضي، أصر على البقاء برفقة عدد كبير من المقاتلين الموريتانيين والماليين، وتولى «أبو الهمام» إمارة «كتيبة الفرقان»، قبل أن يصبح قائداً لـ«إمارة الصحراء الكبرى» في إعادة هيكلة قام بها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» للتأقلم مع الوضع الجديد.
عندما تدخل الفرنسيون في منطقة الساحل الأفريقي قبل أكثر من 6 سنوات كان عدد مقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» يقدر بالمئات؛ حسب كثير من التقارير الاستخباراتية، موزعين على كتائب وفرق صغيرة وخفيفة الحركة، فيما تشير تقارير وزارة الدفاع الفرنسية إلى أنه في الفترة الممتدة من 2014 وحتى 2018؛ أي على مدى 4 سنوات فقط، تم القضاء على 450 مقاتلاً، من ضمنهم عشرات القيادات البارزة في التنظيم؛ بعضها قيادات عسكرية وأخرى قيادات دينية وقضائية.

قائمة رمادية
الحصيلة الفرنسية تشير إلى أنه بعد عام واحد من إطلاق عملية «برخان»؛ أي في عام 2015، قتل «حمادة أغ حمه»، المعروف بلقب «عبد الكريم الطارقي»، وهو مالي الجنسية وكان يتولى قيادة «كتيبة الأنصار» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قُتل أيضاً إبراهيم أغ إيناولين، المعروف بلقب «بانا»، وهو الذي كان يوصف بأنه الرجل الثاني في جماعة «أنصار الدين» التي يقودها الزعيم الطارقي السلفي إياد أغ غالي، وفي نهاية العام نفسه قتل الفرنسيون عيسى أغ واراكولي، وهو قيادي بارز في جماعة «أنصار الدين»، وعسكري سابق في الجيش المالي... إنها ضربات موجعة تلقتها أبرز مجموعة متحالفة مع «القاعدة» ومكنته من الاندماج والتغلغل في المجتمع المحلي.
في العام الموالي (2016) شن الفرنسيون عملية عسكرية عند بئر تقليدية للمياه تقع إلى الشمال من مدينة تمبكتو التاريخية، قتل فيها «أبو النور الأندلسي» وهو مواطن إسباني يتولى مهام عسكرية قيادية في «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قتل أيضاً «مروان المصري»، وهو مواطن مصري ينشط في صفوف «القاعدة»، ويعتقد أنه يتولى التكوين والتأطير العسكري والآيديولوجي.
واصل الفرنسيون تحركهم الهادئ لقطف الرؤوس الكبيرة في التنظيم؛ ففي عام 2017 قتلوا 120 من عناصر «القاعدة»، وألقوا القبض على 150 آخرين، تم التحقيق معهم لفترات متفاوتة قبل تسليمهم إلى المصالح الأمنية في دولة مالي، كما صادرت القوات الفرنسية في العام نفسه أكثر من 22 طناً من الأسلحة والمعدات العسكرية كانت بحوزة مقاتلي التنظيم، وبعضها تم إخفاؤه في كهوف وسط الصحراء، وتشير التقارير إلى أن أغلب هذه الأسلحة يعود إلى نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وبعضها تم الحصول عليه من طرف شبكات تهريب السلاح المنتشرة في المنطقة.
في العام نفسه توسعت عمليات القوات الفرنسية لتشمل بالإضافة إلى شمال مالي، شمال بوركينافاسو وغرب النيجر، وقد نجحت قوات «برخان» بالتعاون مع القوات المالية والبوركينابية في قتل إبراهيم مالام ديكو، وهو داعية وإمام مسجد في بوركينافاسو لديه علاقات مشبوهة مع دولة قطر، وتشير تقارير إلى أن صلاته بالدوحة مكّنته من تأسيس مجموعة مسلحة تحمل اسم «أنصار الإسلام» وتنشط في شمال بوركينافاسو، وسبق أن بايعت تنظيم «داعش»، وتولى قيادة المجموعة بعد مقتله نجله الشاب الذي وصف بأنه أكثر دموية؛ إذ يقف وراء كثير من الهجمات التي تنفذ في شمال وشرق بوركينافاسو والتي يقدر ضحاياها بالعشرات.

ارتفاع الوتيرة
في العام الماضي (2018) غير الفرنسيون من استراتيجيتهم، محاولين بذلك التغلب على أكبر نقطة ضعف عندهم؛ وهي أن «تحركاتهم متوقعة»، وأنهم ثقيلو الحركة بالمقارنة مع الجماعات الإرهابية السريعة والخفيفة، كما توجه الفرنسيون إلى إطلاق عمليات عسكرية معقدة وطويلة الأمد؛ إذ قد تمتد العملية العسكرية الواحدة لأكثر من شهر، وفق تعبير قيادة أركان الجيش الفرنسي.
لقد غير الفرنسيون خطتهم تماشياً مع التحالفات التي عقدتها المجموعات الإسلامية المسلحة لتشكيل جماعة جديدة حملت اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتولى قيادتها الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، وقد وضع الفرنسيون أسماء قادة هذا التنظيم الجديد على رأس قائمة المطلوبين لديها، وبدأت الخطة لقطف رؤوس التنظيم الجديد.
وفي منتصف العام الماضي قتل الفرنسيون أبو محمد أغ سيدي مولى، وهو داعية وقيادي في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقتل أيضاً منصور أغ القاسم وهو قيادي بارز في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، كما قتل خلال عملية عسكرية معقدة نفذها الفرنسيون في أقصى الشرق المالي محمد أغ المنير، وهو قيادي بارز في «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
في نهاية العام الماضي كانت الضربة الكبرى التي نفذها الفرنسيون حين تمكنوا من قتل المالي أمادو كوفا، زعيم «كتيبة ماسينا»، وهو أحد القادة الأربعة المؤسسين لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقد قتل في عملية تم خلالها القضاء على أكثر من 30 إرهابياً؛ منهم عدد من القيادات العسكرية للكتيبة التي تنشط في وسط مالي.
الفرنسيون يتحدثون عن انتصارات أخرى كثيرة على المستوى «التكتيكي» و«الاستراتيجي»، من أهمها تعزيز مستوى التنسيق والتعاون مع الجيوش المحلية لبلدان الساحل الخمسة (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو)، ويقول الفرنسيون إن هذا التنسيق مكنهم في عام واحد من القضاء على قادة 3 كتائب رئيسية نشطة في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتعلق الأمر بقادة: «كتيبة ماسينا»، و«الكتيبة الثالثة»، وجماعة «المرابطون»، كما تم القضاء على كثير من القادة والمنخرطين في صفوف «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».

نجاح بتحفظ
إحساس الفرنسيين بالنصر يبقى ناقصاً في ظل غياب خطة للانسحاب وإعلان النصر نهائياً، فالجماعات المسلحة لديها قدرة كبيرة على تجديد الدماء والتأقلم مع الأوضاع الصعبة، ويراهن الفرنسيون لمواجهة هذه الجماعات الإرهابية في المستقبلين المتوسط والبعيد، على الجيوش المحلية لأخذ المبادرة، وذلك من خلال تشكيل «قوة عسكرية مشتركة»، ولكنها قوة لا تزال تعاني من مشكلات في التمويل والتدريب والتأطير.
ويشير تقرير صادر عن وزارة الدفاع الفرنسية إلى أن العمليات التي نفذتها القوات الفرنسية في الساحل «لم تمكّن فقط من خلق حالة من التشتت العميق في صفوف الجماعات المسلحة الإرهابية، وإنما أيضاً شجعت الماليين والنيجريين على مضاعفة جهودهم في مواجهة هذه الجماعات الإرهابية، ومكنتهم من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من أراضيهم».
ويبدو واضحاً أن الفرنسيين غير متحمسين للاستمرار في دفع فاتورة الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، فالتقارير الرسمية الفرنسية تشير إلى أنه في العام الماضي وحده شن الفرنسيون أكثر من 120 عملية عسكرية، وحركت في هذه العمليات إمكانات لوجيستية هائلة بسبب المسافات الشاسعة في منطقة الساحل الأفريقي، وقد شاركت فيها طائرات حربية متنوعة، بالإضافة إلى مروحيات كثيرة من طرز «تايغر» و«بوما» و«غزال»، مع استخدام تجهيزات استخباراتية متطورة... إنها فاتورة كبيرة يبحث الفرنسيون عن شريك في دفعها من خلال تمويل دولي للقوة العسكرية المشتركة التي شكلتها دول الساحل الخمس (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو).


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟