هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

مقتل الجزائري أبو الهمام يعدّ أكبر ضربة موجعة تلقاها التنظيم الإرهابي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
TT

هكذا تصطاد فرنسا رؤوس «القاعدة» في الساحل الأفريقي

رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي يستعرضان قوات بلدهما في قاعدة «براكين» العسكرية الفرنسية بمالي نهاية فبراير في جزء من زيارة استغرقت يومين (أ.ف.ب)

ينفق الفرنسيون 700 مليون يورو كل عام على محاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وينشرون هنالك 4500 جندي في إطار عملية «برخان» التي تعدّ أكبر عملية عسكرية تخوضها فرنسا خارج أراضيها، كل ذلك من أجل مواجهة خطر الجماعات المتطرفة المسلحة، التي تشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الفرنسية في هذه المنطقة من العالم التي كانت قبل 60 عاماً تحت الاستعمار الفرنسي، ولا تزال منطقة نفوذ ومصدر قوة ترفض فرنسا التخلي عنه.
وقد تحولت منطقة الساحل الأفريقي، وشمال مالي على وجه الخصوص، إلى ساحة لمواجهة مباشرة بين الجنود الفرنسيين ومقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، في حرب شرسة بدأت مطلع عام 2013 عندما حاول المسلحون المتطرفون الزحف على عاصمة مالي باماكو في الجنوب، بعد 6 أشهر من سيطرتهم على شمال البلاد، ولكن الفرنسيين منعوا ذلك عندما أطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية التي تحولت عام 2014 إلى عملية «برخان».
اليوم يحس الفرنسيون بطعم النصر، وإن بحذر كبير، عندما تمكنت قواتهم من قطف كثير من رؤوس «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الكبيرة، خصوصاً تلك الرؤوس التي كانت تشكل تهديداً مباشراً لمصالحهم في هذه المنطقة من العالم، وكان آخرها الجزائري جمال عكاشة، المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتلته قوات خاصة فرنسية مساء الخميس 21 فبراير (شباط) الحالي، في ضربة موجعة تلقاها تنظيم القاعدة؛ على حد وصف وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي.

الرؤوس الكبيرة
كانت خطة الفرنسيين لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي تقوم على استهداف القادة الكبار بدل الانشغال بمطاردة صغار المقاتلين والمتعاونين المحليين مع هذه التنظيمات التي استطاعت خلال نحو 10 سنوات التغلغل في المجتمع المحلي بشمال مالي، حيث تغيب الدولة المركزية وينتشر الظلم الاجتماعي والفقر والجهل والمرض.
وقد أثمرت خطة الفرنسيين بعد أيام قليلة من تدخلهم العسكري في شمال مالي في يناير (كانون الثاني) من عام 2013، حين تمكنت قواتهم بالتعاون مع القوات التشادية من قتل الجزائري محمد غدير، الملقب بـ«عبد الحميد أبو زيد»، أمير «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والذي اختطف عدداً كبيراً من الرعايا الفرنسيين وكان وراء مقتل الرهينة الفرنسي ميشال جورمانو عام 2011، ووصفه الفرنسيون بأنه عدوهم الأول في الساحل الأفريقي؛ إذ تمكن من الحصول على عشرات ملايين اليوروات من تجارة الرهائن الفرنسيين.
مقتل «أبو زيد» في مواجهات مسلحة داخل جبال الإيفوغاس في أقصى شمال شرقي دولة مالي، ألحق ضرراً كبيراً بـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»؛ إذ فقد واحداً من أبرز قادته، بينما أرغم آخرون على الفرار والاختباء، على غرار الجزائري مختار بلمختار المعروف بلقب «بلعوار»، الذي توجه إلى الجنوب الليبي تاركاً شمال مالي منذ أن دخله الفرنسيون، إلا إن الجزائري جمال عكاشة المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتل الخميس الماضي، أصر على البقاء برفقة عدد كبير من المقاتلين الموريتانيين والماليين، وتولى «أبو الهمام» إمارة «كتيبة الفرقان»، قبل أن يصبح قائداً لـ«إمارة الصحراء الكبرى» في إعادة هيكلة قام بها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» للتأقلم مع الوضع الجديد.
عندما تدخل الفرنسيون في منطقة الساحل الأفريقي قبل أكثر من 6 سنوات كان عدد مقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» يقدر بالمئات؛ حسب كثير من التقارير الاستخباراتية، موزعين على كتائب وفرق صغيرة وخفيفة الحركة، فيما تشير تقارير وزارة الدفاع الفرنسية إلى أنه في الفترة الممتدة من 2014 وحتى 2018؛ أي على مدى 4 سنوات فقط، تم القضاء على 450 مقاتلاً، من ضمنهم عشرات القيادات البارزة في التنظيم؛ بعضها قيادات عسكرية وأخرى قيادات دينية وقضائية.

قائمة رمادية
الحصيلة الفرنسية تشير إلى أنه بعد عام واحد من إطلاق عملية «برخان»؛ أي في عام 2015، قتل «حمادة أغ حمه»، المعروف بلقب «عبد الكريم الطارقي»، وهو مالي الجنسية وكان يتولى قيادة «كتيبة الأنصار» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قُتل أيضاً إبراهيم أغ إيناولين، المعروف بلقب «بانا»، وهو الذي كان يوصف بأنه الرجل الثاني في جماعة «أنصار الدين» التي يقودها الزعيم الطارقي السلفي إياد أغ غالي، وفي نهاية العام نفسه قتل الفرنسيون عيسى أغ واراكولي، وهو قيادي بارز في جماعة «أنصار الدين»، وعسكري سابق في الجيش المالي... إنها ضربات موجعة تلقتها أبرز مجموعة متحالفة مع «القاعدة» ومكنته من الاندماج والتغلغل في المجتمع المحلي.
في العام الموالي (2016) شن الفرنسيون عملية عسكرية عند بئر تقليدية للمياه تقع إلى الشمال من مدينة تمبكتو التاريخية، قتل فيها «أبو النور الأندلسي» وهو مواطن إسباني يتولى مهام عسكرية قيادية في «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قتل أيضاً «مروان المصري»، وهو مواطن مصري ينشط في صفوف «القاعدة»، ويعتقد أنه يتولى التكوين والتأطير العسكري والآيديولوجي.
واصل الفرنسيون تحركهم الهادئ لقطف الرؤوس الكبيرة في التنظيم؛ ففي عام 2017 قتلوا 120 من عناصر «القاعدة»، وألقوا القبض على 150 آخرين، تم التحقيق معهم لفترات متفاوتة قبل تسليمهم إلى المصالح الأمنية في دولة مالي، كما صادرت القوات الفرنسية في العام نفسه أكثر من 22 طناً من الأسلحة والمعدات العسكرية كانت بحوزة مقاتلي التنظيم، وبعضها تم إخفاؤه في كهوف وسط الصحراء، وتشير التقارير إلى أن أغلب هذه الأسلحة يعود إلى نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وبعضها تم الحصول عليه من طرف شبكات تهريب السلاح المنتشرة في المنطقة.
في العام نفسه توسعت عمليات القوات الفرنسية لتشمل بالإضافة إلى شمال مالي، شمال بوركينافاسو وغرب النيجر، وقد نجحت قوات «برخان» بالتعاون مع القوات المالية والبوركينابية في قتل إبراهيم مالام ديكو، وهو داعية وإمام مسجد في بوركينافاسو لديه علاقات مشبوهة مع دولة قطر، وتشير تقارير إلى أن صلاته بالدوحة مكّنته من تأسيس مجموعة مسلحة تحمل اسم «أنصار الإسلام» وتنشط في شمال بوركينافاسو، وسبق أن بايعت تنظيم «داعش»، وتولى قيادة المجموعة بعد مقتله نجله الشاب الذي وصف بأنه أكثر دموية؛ إذ يقف وراء كثير من الهجمات التي تنفذ في شمال وشرق بوركينافاسو والتي يقدر ضحاياها بالعشرات.

ارتفاع الوتيرة
في العام الماضي (2018) غير الفرنسيون من استراتيجيتهم، محاولين بذلك التغلب على أكبر نقطة ضعف عندهم؛ وهي أن «تحركاتهم متوقعة»، وأنهم ثقيلو الحركة بالمقارنة مع الجماعات الإرهابية السريعة والخفيفة، كما توجه الفرنسيون إلى إطلاق عمليات عسكرية معقدة وطويلة الأمد؛ إذ قد تمتد العملية العسكرية الواحدة لأكثر من شهر، وفق تعبير قيادة أركان الجيش الفرنسي.
لقد غير الفرنسيون خطتهم تماشياً مع التحالفات التي عقدتها المجموعات الإسلامية المسلحة لتشكيل جماعة جديدة حملت اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتولى قيادتها الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، وقد وضع الفرنسيون أسماء قادة هذا التنظيم الجديد على رأس قائمة المطلوبين لديها، وبدأت الخطة لقطف رؤوس التنظيم الجديد.
وفي منتصف العام الماضي قتل الفرنسيون أبو محمد أغ سيدي مولى، وهو داعية وقيادي في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقتل أيضاً منصور أغ القاسم وهو قيادي بارز في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، كما قتل خلال عملية عسكرية معقدة نفذها الفرنسيون في أقصى الشرق المالي محمد أغ المنير، وهو قيادي بارز في «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
في نهاية العام الماضي كانت الضربة الكبرى التي نفذها الفرنسيون حين تمكنوا من قتل المالي أمادو كوفا، زعيم «كتيبة ماسينا»، وهو أحد القادة الأربعة المؤسسين لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقد قتل في عملية تم خلالها القضاء على أكثر من 30 إرهابياً؛ منهم عدد من القيادات العسكرية للكتيبة التي تنشط في وسط مالي.
الفرنسيون يتحدثون عن انتصارات أخرى كثيرة على المستوى «التكتيكي» و«الاستراتيجي»، من أهمها تعزيز مستوى التنسيق والتعاون مع الجيوش المحلية لبلدان الساحل الخمسة (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو)، ويقول الفرنسيون إن هذا التنسيق مكنهم في عام واحد من القضاء على قادة 3 كتائب رئيسية نشطة في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتعلق الأمر بقادة: «كتيبة ماسينا»، و«الكتيبة الثالثة»، وجماعة «المرابطون»، كما تم القضاء على كثير من القادة والمنخرطين في صفوف «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».

نجاح بتحفظ
إحساس الفرنسيين بالنصر يبقى ناقصاً في ظل غياب خطة للانسحاب وإعلان النصر نهائياً، فالجماعات المسلحة لديها قدرة كبيرة على تجديد الدماء والتأقلم مع الأوضاع الصعبة، ويراهن الفرنسيون لمواجهة هذه الجماعات الإرهابية في المستقبلين المتوسط والبعيد، على الجيوش المحلية لأخذ المبادرة، وذلك من خلال تشكيل «قوة عسكرية مشتركة»، ولكنها قوة لا تزال تعاني من مشكلات في التمويل والتدريب والتأطير.
ويشير تقرير صادر عن وزارة الدفاع الفرنسية إلى أن العمليات التي نفذتها القوات الفرنسية في الساحل «لم تمكّن فقط من خلق حالة من التشتت العميق في صفوف الجماعات المسلحة الإرهابية، وإنما أيضاً شجعت الماليين والنيجريين على مضاعفة جهودهم في مواجهة هذه الجماعات الإرهابية، ومكنتهم من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من أراضيهم».
ويبدو واضحاً أن الفرنسيين غير متحمسين للاستمرار في دفع فاتورة الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، فالتقارير الرسمية الفرنسية تشير إلى أنه في العام الماضي وحده شن الفرنسيون أكثر من 120 عملية عسكرية، وحركت في هذه العمليات إمكانات لوجيستية هائلة بسبب المسافات الشاسعة في منطقة الساحل الأفريقي، وقد شاركت فيها طائرات حربية متنوعة، بالإضافة إلى مروحيات كثيرة من طرز «تايغر» و«بوما» و«غزال»، مع استخدام تجهيزات استخباراتية متطورة... إنها فاتورة كبيرة يبحث الفرنسيون عن شريك في دفعها من خلال تمويل دولي للقوة العسكرية المشتركة التي شكلتها دول الساحل الخمس (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو).


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.