لعلها لازمة لا بد منها لكل الذين تحكمهم أقدارهم بالعيش في أزمنة مظلمة - عندما يموت قديمهم ولا يولد جديدهم، فتنطلق الوحوش والتنانين من أعقالها - أن يشهدوا تفلتاً في توظيف المصطلحات الحاكمة للمعاني، وفوضى تامة في العلاقات بين الدال والمدلول على نحو يجعل من اللغة والإعلام الذي يحملها أدوات لخلق وتكريس سوء التفاهم، وأيضاً إعادة تدوير النفايات الفكرية المتداولة أكثر منها جسوراً للتواصل بين مجموع البشر، وفضاءات للتفكير السليم والعقلاني والتقدمي. وهكذا بالفعل، غرق كوكبنا الصغير وبشكل مكثف منذ ثلاثة أعوام – وقتما نظم محافظو بريطانيا استفتاء «بريكست» الشهير – في لجج تعابير مستلة من كتب التاريخ لوصف وقائع معاصرة: فهذا سياسي «فاشي» وذاك تيار «شعبوي»، كما شعارات ملتبسة المضمون يقلبها كل قوم كما شاء سادتهم «فلنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» – ترمب في الولايات المتحدة مدعياً أن أميركا قبله ليست دولة عظمى وكأنه المخلص والمنقذ - أو «استعادة الاستقلال» – مؤيدو «بريكست» البريطاني الذين لا يعرف أغلبهم ما هو الاتحاد الأوروبي تحديداً -، ناهيك عن أفكار شديدة العمومية توظّف الدوال في استخدامات بغير مكانها ومقاصدها الأصلية، كـ«النظام الديمقراطي الليبرالي» و«أزمة اللاجئين في الشرق الأوسط» و«المجتمع الدولي» ومثيلاتها التي قد تصف ظواهر موجودة بشكل أو بآخر، لكنها تخفي حقائق عن تلك الظواهر أكثر مما تظهر، ولا تقدم الكثير من المعنى الذي قد يساعد على حدوث تواصل حقيقي بشأنها بين الأطراف المختلفة.
لا يفتقد العالم إلى الأفكار الواضحة، ولا إلى المفكرين الخلاقين، بل ربما أن أزمنتنا المعاصرة بفضل التقدم التقني المطرد والمتراكم، تستضيف عدداً من العلماء والفلاسفة والمثقفين الأحياء يفوق بمراحل أعداد أمثالهم الذين عاشوا وماتوا في كل مراحل التاريخ البشري المدون. لكن هذه الأزمنة تحديداً تولتها نخب اقتصادية وسياسية تخدمها وتكرس هيمنتها ضبابية المفاهيم وتسطح الأفكار، فسلطت على الشعوب منظوماتها الإعلامية المكتنزة بأورام من مدعي الثقافة، وأنصاف المتعلمين وتجار الجهل ممن احترف صناعة «الأخبار الكاذبة» و«الحقائق المزورة» و«البلاهة الجمعية»، فأنتجوا هذه الغابة من المفاهيم المشوشة، والفوضى الشاملة في استخدام الكلمات والمصطلحات، فأخذوا يرددون السياسيون الديماغوجيون دون أدنى حس نقدي أو حتى قليل من الاحترام لعقل القراء المشغولين بمطاردة أسباب العيش. وللحقيقة، هؤلاء الآخرون ساهموا في تفشي هذا الفساد الفكري من خلال تقبلهم السلبي الكسول لنفايات الكلِم التي تُلقى عليهم دون عناء البحث والتنقيب، مكتفين بتوزيع الإعجابات المجانية على مقالات لا يقرأونها، أو تبني شعارات لا يدركون أبعادها، أو التصفيق لمن يدعي سعيه لتخليصهم من جور المنظومة الليبرالية التي أخذتهم إلى عصر تقشف اقتصادي وأزمة مالية عالمية لا تزال توابع زلازلها تتردد حتى الراهن من الوقت.
وصف «الفاشية» مثلاً صار مكوناً رئيسياً من جل مقالات السياسة عن مآلات الأحداث في الغرب وصعود فئة السياسيين الديماغوجيين أمثال بوريس جونسون ونايجل فاراج. لكن إطلاق تلك الصفة تحديداً على السياسيين الجدد في الغرب يجعل الفاشية وكأنها مجرد مرض فردي قد يصاب به أحدهم فيشفى منه أو يقضي به، بينما هي في واقعها ظاهرة كلية جامعة نتجت من عقود تتابعت على تشويه نفسيات الغربيين من خلال تقبل وتنفيذ حروبهم الاستعمارية والمذابح والإبادات التي تعرضت لها شعوب العالم. ولذا؛ فإن الفاشية حالة مجتمعية متعددة الأبعاد لا يمكن إسقاطها على شخص فرد مهما تلاعب بهموم الناس العاديين لتحقيق أغراضه السياسية، وهي تحديداً في الحالة الأميركية لا تخدم أغراض مصالح غالبية المواطنين؛ لأنها تُلقي تهمة شائنة على تيار نخبوي من قبل تيار نخبوي مضاد يريد تصوير عهود الديمقراطيين السابقة (أوباما، كلينتون...) نقيضاً لظلام الفاشيات، وكل غايته استعادة السلطة من الفريق الآخر دون أدنى اعتناء بحال المواطنين المهمشين.
ويأخذنا مصطلح «الفاشية» هذا إلى مصطلح آخر ملأ بدوره مقالات الصحافيين التي تدعي تسجيل أو تحليل تقلبات أهواء الناخبين في الغرب الغاضبين على أداء السلطات الليبرالية الحاكمة منذ السبعينات والمائلين في كثرتهم إلى العداء للأجانب والوطنيات المحلية الضيقة أي «الشعبوية». لكن أي مطلع على تاريخ الجمهورية الرومانية يعلم تماماً أن جذور «الشعبوية» تأتي من الضغوط السياسية والثورات المتفرقة التي انتهت غالبية الطبقات المسحوقة من الفلاحين والعبيد وأسرى الحروب الاستعمارية إلى الاندماج فيها لمواجهة تسلط نظام روما الجمهوري النخبوي، وسعياً لتحقيق نوع من تمثيل متوازن وشراكة حقيقية في إدارة حياة سكان فضاء الإمبراطورية الرومانية، ذلك في وقت سبق الليبرالية كما نعرفها اليوم بمئات السنوات. وللحقيقة، فإن المصادر التاريخية الرومانية من تلك الفترة تشير إلى أن نبلاء روما كانوا يستخدمون ذلك المصطلح تحديداً كنوع من الإهانة لكل سياسي يحاول أن يرفع صوت الأغلبية المقهورة في مجالس النخب. شعبوية اليوم ليست أساساً بشأن حقوق أفضل للمواطنين، بقدر ما هي كتل شعبية تثيرها مؤسسات النخبة الغربية وفق منهجية مدروسة لتضعها في مواجهة عمياء ضد اللاجئين والأجانب الفقراء - الذين خرجوا من بلادهم أصلاً بفضل الحروب والنهب الغربي الممنهج لأوطانهم التي تديرها النخبة ذاتها - كي لا تلتفت تلك الكتل إلى التفاوتات الاجتماعية الهائلة، وتردي مستويات المعيشة بمرور الأيام، والتفريغ التام لكل القيم النظرية للديمقراطية الغربية الموهومة.
ولا يبدو مصطلح «النظام الديمقراطي الليبرالي» الذي تراه مبثوثاً هنا وهناك لوصف حالة العالم قبل صعود موجة الديماغوجية الأخيرة بعيداً بدوره عن فساد الاستخدام، فهو ليس نظاماً، ولا ديمقراطياً، ولا حتى ليبرالياً، ولم يكن يوما كذلك، بل مجرد صيغة أخرى متفاوتة الألوان من حكم النخب الغربية التي أرادت العالم قرية صغيرة ليكون سوقاً مفتوحة لها فوق السيادات، وسعياً لاكتساب شرعية في عيون شعوبها إبان مواجهتها للاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة، قبل أن تتغير الظروف لاحقاً وتبدأ دول الجنوب في شنّ هجمة تصديرية مضادة شاملة عبر الخطوط ذاتها التي فتحها الغرب.
عربياً، وعند المثقفين، الذين يعيش قسم منهم عالة على نتاجات الآخرين، رواج عجيب لهذه المصطلحات، ورغبة فائرة لتدويرها وإعادة استعمالها دونما ولو قليل تمعن، وهي عادة قديمة لنا كثقافة تابعة تغرف من الثقافات السائدة غرفاً دون عميق تمحيص، فلا تساعد الجمهور العربي على فهم حقيقة أحداث العالم حوله، بل وكثيراً ما استخدمت ضده تحديداً مثل «المجتمع الدولي» – حيث تتخلى الحكومات عن مسؤولياتها لمصلحة كيان وهمي هُلامي -، و«عملية السلام في الشرق الأوسط» – حيث إنهاء الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يضمن بالضرورة سلاماً في الشرق الأوسط - و«الشرعية الدولية» – تُقاس بحسب تعريف الجهة المتحدثة حصراً - و«أزمة اللاجئين في الشرق الأوسط» – التي يتم استخدامها للتغطية على سياسات تهجير ممنهج قامت بها السلطات الإسرائيلية بدعمٍ مباشرٍ من الحلفاء الغربيين – و«الحرب على الإرهاب» - حيث من لا يوافق أجندات الغرب يتعرض للإبادة بأحدث أدوات الصدمة والرعب.
هذه الفوضى المصطلحية الشاملة والتساهل والميوعة في إطلاق التسميات على عواهنها تشكل أخطاراً داهمة قد تمس بجمهور المتلقين قبل غيرهم، الذين وهم يتناقلون تلك التسميات والشعارات تنتهي بعض جماعاتهم ضحايا مباشرين لها. لكن الأمر الأهم من ذلك كله أن التكرار العبثي لصوتيات مفرغة أو منحرفة المعاني بديلاً عن الأفكار الواضحة تتسبب حتماً بسوء التفاهم وضبابية الفهم وتكريس القطبية وكراهية الآخر وتمنع التواصل بشأن القضايا الحقيقية المؤثرة على مصائر البشر. إذا كان ثمة من «حربٍ على» ظاهرة كلية، فلتكن حرباً على التجهيل، تبدأ تحديداً من جهة ضبط المصطلحات.
عن فوضى المصطلحات وغابة المفاهيم المشوشة
عن فوضى المصطلحات وغابة المفاهيم المشوشة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة