الإعلام الأفغاني ... حكاية بدايتها «شمس النهار» وحاضرها فوضى

مطبوعات نسوية رأت النور عام 1921 وتعددية أصوات «كتمها» حكم «طالبان»

مانيجا رسولي الصحافية الأفغانية الوحيدة في عام 2001... تحدت «طالبان» في ذلك الوقت وتابع تغطياتها مئات الألوف في البلاد (غيتي)
مانيجا رسولي الصحافية الأفغانية الوحيدة في عام 2001... تحدت «طالبان» في ذلك الوقت وتابع تغطياتها مئات الألوف في البلاد (غيتي)
TT

الإعلام الأفغاني ... حكاية بدايتها «شمس النهار» وحاضرها فوضى

مانيجا رسولي الصحافية الأفغانية الوحيدة في عام 2001... تحدت «طالبان» في ذلك الوقت وتابع تغطياتها مئات الألوف في البلاد (غيتي)
مانيجا رسولي الصحافية الأفغانية الوحيدة في عام 2001... تحدت «طالبان» في ذلك الوقت وتابع تغطياتها مئات الألوف في البلاد (غيتي)

كانت سبّاقة هي أفغانستان، هذه الدولة الواقعة في وسط آسيا، في وضع أولى لبنات ما يطلق عليه بالإعلام الحر والبناء في عصرنا الحاضر. حدث ذلك بدءاً من عام 1873 وفي أيام الأمير شير علي خان، الذي كان يحكم أفغانستان قبل الاستقلال الرسمي من بريطانيا. في هذه الفترة، سمح الأمير الشاب بتأسيس أول صحيفة ووسيلة إعلامية تشهدها البلاد، واسمها «شمس النهار». كانت تصدر بلغتين الباشتونية والفارسية، وهما اللغتان الرسميتان اللتان يتكلم بهما أغلب الأفغان.
جريدة «شمس النهار» كانت أول تجربة في هذا البلد، الذي يغلب عليه نسبة الأمية إلى درجة كبيرة، مقارنة مع جيرانه من الدول والشعوب، لكن الصحيفة في فترة وجيزة استطاعت ملامسة الواقع المغاير للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعب الأفغاني، حيث كان التركيز في الصحيفة على جوانب الحياة المتنوعة في البلاد، المكون أساساً من عرقيات مختلفة كالباشتون والطاجيك والأوزبيك والهزارة والتركمان والقزلباش، وكل هذه الإثنيات كانت تعيش قبل اندلاع الحرب الأهلية والمشكلات التي تعاني منها هذه الدولة في وفاق وانسجام.
لعبت صحيفة «شمس النهار»، التي استمرت في النشر والطباعة قرابة 3 سنوات، دوراً محورياً ومهماً في نشر الوعي والثقافة والصحوة الوطنية بين أبناء الشعب الأفغاني، الذي كان يكافح احتلال الهند البريطاني في تلك الحقبة. ومع تزايد الضغوط العسكرية والمعيشية على الأمير الأفغاني شير علي خان من قبل الاحتلال البريطاني، القادم من وراء الحدود، انتهت إمارته، ومعها أغلقت الصحيفة عام 1878. وكان حينها في كابل 3 مطابع حجرية تقوم بنشاط الطباعة والنحت لأغراض حكومية رسمية في العاصمة.
- «سراج الأخبار» وعراب الصحافة الأفغانية
اتسمت فترة حكم أمير حبيب الله خان، بالعنف والإقصاء وتهميش الآخر وعدم مراعاة التوازن العرقي والإثني في البلاد، وذلك عام 1906. ولكي يؤسس ويقوي دعائم حكمه، قام الأمير بتأسيس جريدة مطبوعة، أطلق عليها اسم «سراج الأخبار»، كانت تنشر وتطبع في العاصمة الإدارية للبلاد، في كابل. وفي واقع الأمر «سراج الأخبار» لم تكن محض صحيفة أو جريدة، بل كان ينظر إليها كمؤسسة إعلامية ومدرسة للتعليم والطباعة، وبسبب أن الصحيفة الوليدة في عهد الأمير حبيب الله خان، كانت تحض على نيل الاستقلال الكامل من بريطانيا وتشجع على النهضة والحرية، ضغطت حكومة الهند البريطانية، التي كانت تسيطر وتهيمن على شبه القارة الهندية، وكان لها تأثير مباشر على الإمارات والحكومات الإقليمية في أفغانستان، ما أدى إلى إغلاق الصحيفة بعد فترة وجيزة من انطلاقتها.
إلى أن ظهر في سماء الإعلام الأفغاني القديم نجم ساطع يتردد إلى يومنا هذا، ويعد مؤسس والأب الروحي للإعلام القديم، حتى الحديث، في أفغانستان. هذا الاسم هو محمود طرزي، الذي بسبب علاقته القوية والمتينة مع أمير البلاد حبيب الله خان استطاع بمهارة إعلامية عالية إقناعه بضرورة وجود صحف وجرائد تعكس الموقف الحكومي الرسمي، وتقوم بنشر الوعي والثقافة بين المواطنين، وألحّ عليه بضرورة استئناف العمل بالصحف والإعلام والسماح للمطابع بمعاودة النشاط.
- نضال عابر للحدود
قَبِل الأمير هذا المقترح، وسمح للصحف بالعودة للعمل وإعادة تشغيل المطابع الحكومية حيث استؤنف العمل مجدداً عام 1911 بصحيفة «سراج الأخبار»، مع إضافة كلمة الأفغانية إليها، فأصبح اسم الصحيفة الجديد «سراج الأخبار الأفغانية»، وتولى الكاتب الإعلامي محمود طرزي رئاسة التحرير بالصحيفة.
ركّز طرزي على جانب نشر الوعي والتعليم وتشجيع المواطن على نيل حقوقه الأساسية، وكانت الصحيفة تدعو إلى تبني النهضة والرقي عبر التعليم، كما كانت تشجع على ضرورة كفاح ونضال الاحتلال.
الصحيفة لم تختصر رسالتها على جغرافيا أفغانستان، بل بدأ صداها يصل إلى دول أخرى في آسيا الوسطى التي كانت تقبع تحت الاحتلال البلشفي الروسي. يقول المؤرخ الطاجيكي صدر الدين عيني إن صحيفة «سراج الأخبار» كانت توزع على دول آسيا الوسطى، وكانت الشعوب في تلك الدول تستلهم الأفكار المناهضة للمحتل من تلك الصحيفة، التي قامت بلعب دور محوري في إنقاذ الشعوب وإيقاذ الهمم والتصميم لنيل الحرية والاستقلال، فكانت مدرسة تعليمية ومؤسسة إعلامية رائدة آنذاك. وفي عام 1918 قبل عام من نيل أفغانستان استقلالها التام من الهند البريطاني، أسست مؤسسة «سراج الأخبار» صحفاً أخرى تابعة لها، منها «سراج أطفال» الصحيفة التي كانت تعنى بشؤون الأطفال، وتعمل من أجل راحتهم، من خلال الأخبار القصيرة ونشر صور الكاريكاتير الخاصة بهم.
- العصر الذهبي
تعد الفترة الممتدة بين أعوام 1919 - 1929 العصر الذهبي والتاريخي بالنسبة للإعلام في أفغانستان. ففي هذه الفترة حصلت البلاد على استقلالها الكامل من بريطانيا، واعترفت بها الدول كياناً مستقلاً له حدود معترف بها دولياً. وكان أمير أمان الله خان، الحاكم الإصلاحي للبلاد، يسيطر على زمام الأمور في هذه الدولة الآسيوية؛ حيث شهدت الصحافة ثورة كبيرة في عهده، وتطور العمل بها وتوسعت مؤسسات إعلامية كانت تعمل بحرية معقولة.
في عام 1924 رأى أول دستور أفغاني في تاريخ البلاد النور، وضمن مبدأ حرية الصحافة والإعلام، وأطلق العنان لتأسيس وإصدار صحف وجرائد مستقلة، وبدأت حركة الصحف تنتشر وتتوسع إلى المحافظات الأفغانية الكبيرة مثل قندهار وهرات وجلال آباد، فضلاً عن العاصمة كابل التي شهدت رواجاً واضحاً في طباعة الصحف وانتشارها بنطاق أوسع.
كانت أهم الصحف التي ظهرت إلى الوجود ضمن مبدأ حرية الصحافة في العصر الذهبي، هي صحيفة «أفغان»، وصحيفة «بلاغ»، وصحيفة «حقيقيت»، وصحيفة «أمان» نسبة للأمير أمان الله خان حاكم البلاد، وصحيفة «غازي».
- «أنيس» و«نسيم سحر» المستقلتان
كانت أول صحيفة مستقلة، بما تعني الكلمة من معنى، خرجت للعلن في هذه الحقبة، هي صحيفة «أنيس» لمؤسسها غلام محيي الدين أنيس، الذي كان هو رئيس التحرير فيها أيضاً، تليها جريدة «نسيم سحر»، وهي صحيفة كانت تنتقد أداء الحكومة، وتقدم بدائل واضحة في الأداء لمؤسسات الدولة. في هذه الحقبة من تاريخ أفغانستان المتقلب والمتغير مع تغيير الأنظمة فيها، وجدت صحف وجرائد ومجلات، يمكن اعتبارها النواة الحقيقية لحرية الصحافة والإعلام، والتي تحولت فيما بعد إلى مؤسسات إعلامية رائدة تنتج الصحافيين، وتقدمهم للمجتمع الأفغاني المحافظ.
لأول مرة في تاريخ البلاد، وفي المجتمع القبلي «الذكوري»، تم تأسيس صحف ومجلات تعنى بشؤون المرأة، وتتحدث عن حقوقها «الطبيعية»، وهو ما أغضب رجالات الدين المتشددين، وكانت أول صحيفة وباكورة العمل الصحافي بخصوص المرأة، صحيفة «إرشاد النسوان» التي تأسست عام 1921، تلتها حركة النشر والطباعة لكثير من الصحف المخصصة للمرأة والأطفال. هذه الحركة الثورية في الصحف والإعلام لم تختصر بالعاصمة والمدن الكبيرة، فبدأت تنتقل إلى الولايات البعيدة، وبدأ الأفغان يدركون أهمية الإعلام وحرية الصحافة، وانتشرت مراكز الطبع في المحافظات، فكانت صحيفة «طلوع أفغان» أول صحيفة تطبع في قندهار عاصمة الجنوب الأفغاني، وصحيفة «اتحاد مشرق» في مدينة جلال آباد بالشرق الأفغاني، وصحيفة «اتفق إسلام» في ولاية هرات غربي البلاد.
- صحافة آخر ملوك أفغانستان
وككل حقبة وفترة سياسية، لم تدم حقبة العصر الذهبي بالنسبة للحياة الإعلامية في أفغانستان، حيث ثار رجال دين ضد المشروعات الإصلاحية للأمير أمان الله خان، وكانت النتيجة طرده من البلاد، وقد فضل المنفى الاختياري له، إلى أن مات في إيطاليا؛ حيث خلفه الأمير نادر خان، الذي انقلب على كل المشروعات الإصلاحية، ولا سيما مجال الصحافة والإعلام، وقام بإغلاق جميع الصحف والجرائد المستقلة، ومنع العمل بها، وحوّل صحيفة «أنيس» كبرى الصحف المستقلة وأكثرها انتشاراً إلى صحيفة حكومية، واعتقل مؤسسها محيي الدين أنيس، الذي قتل في المعتقل بعد فترة من الاحتجاز من قبل السلطات، وبذلك وضع نهاية للعصر الذهبي، الذي كانت تتمتع بها الصحف الأفغانية.
الملك الأفغاني الراحل محمد ظاهر شاه حكم البلاد لمدة 40 سنة، وباستثناء السنوات القليلة الأولى من حكمه، التي اتسمت بالديكتاتورية والإقصاء للخصوم السياسيين، عادت حرية الصحافة والإعلام إلى المشهد من جديد بعد إطلاق مشروع إصلاحي كبير طال جميع مؤسسات الدولة، وبدأت حركة النشر والطباعة تعود إلى المشهد من جديد، وتنفس الصحافيون والإعلاميون الصعداء، وبدأت أسواق الطباعة تنتعش من جديد، إلى أن جاءت حقبة الشيوعيين وفترة الانقلابات السياسية في سبعينات القرن الماضي، بدعم من الاتحاد السوفياتي السابق، فتحول الإعلام الشاب إلى إعلام تابع للنظام، يطبل ويذمر للأنظمة والحكام.
- «طالبان» و{صوت الشريعة}
في بدايات تسعينات القرن الماضي، سيطرت حركة طالبان المتشددة على مقاليد الحكم في كابل، ومنعت الصحف، وأغلقت المطابع ودور النشر، وحولت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الحكومي إلى مؤسسة ناطقة باسم أفكار الجماعة، وغيرت اسمها، فسمتها «صوت الشريعة». معظم برامج الإذاعة ركزت على فتاوى دينية، لا تتجاوز الأوامر والنواهي، وكانت الإذاعة تحذر وتبشر مستمعيها بما تراه مناسباً لهم عبر مجموعة من رجال الدين نصبوا أنفسهم أهل علم وحكمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
كانت جميع الصحف قد أغلقت، وتصدر فقط صحيفة «الشريعة» الناطقة باسم جماعة طالبان، التي حرمت المواطنين من التعددية الفكرية والسياسية وكانت تسمح وتجبر الأفغان على سماع أخبار «صوت الشريعة» من الإذاعة الوحيدة اليتيمة في كابل والولايات التي تسيطر عليها «طالبان». كما منعت وعاقبت من كان يستمع حينها إلى الإذاعات الدولية الناطقة باللغات الأفغانية مثل إذاعة «بي بي سي»، الباشتو والفارسية، أو إذاعة «صوت أميركا» و«أوروبا الحرة».
- حرية... وفوضى
القناة والإذاعة الحكومية أقدم وسيلتين إعلاميتين غير مكتوبتين عرفهما الأفغان، لكنهما تعرضتا لعدة مطبات، حيث تعرض مبنى الإذاعة والتلفزيون للحرق والنهب أيام سيطرة المتطرفين على كابل في عام 1992، ثم تعرض المبنى نفسه الواقع في منطقة وزير أكبر خان للنهب والحرب وتدمير أجزاء منه أيام سيطرة «طالبان» على كابل، وأغلقت القناة التلفزيونية أثناء الحرب بسبب عدم وجود كوادر فنية، ومعارضة قادة «طالبان» بالإعلام المرئي.
منذ رحيل «طالبان»، حاولت السلطات الجديدة إعادة بثّ الروح إلى القناة الحكومية، فتم تأسيس مبانٍ جديدة لها وتجهيزها بأحداث المعدات، غير أنها فشلت في استقطاب عدد كافٍ من المشاهدين والمشاهدات بسبب عدم الكفاءة وعدم قدرة الموظفين على مواكبة التطورات السريعة والمتلاحقة في قطاع الإعلام الحديث.
إلى جانب القنوات الحكومية الرسمية، هناك عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعات اليوم، تتبع الأحزاب السياسية وقادة المتطرفين السابقين الذين يحاولون الوصول إلى أنصارهم من خلال هذه المحطات التي تبث خطابات وكلمات القادة السياسيين في مختلف المناسبات والمجالات، وهي تعمل جاهدة في تثبيت دعائم هؤلاء الساسة في المجتمع الأفغاني المنقسم عرقياً وطائفياً. بعض هذه القنوات متهمة بالتحريض على القتل والعنف وإثارة النعرات الطائفية والقبلية، كما أن السلطات متهمة أيضاً باتخاذ سياسات التضرع وعدم الجدية في التعامل مع الملفات التي توسع الشرخ في المجتمع الأفغاني. أهم هذه القنوات والمحطات هي الناطقة باسم الأحزاب وقادة المتطرفين وأمراء الحرب.


مقالات ذات صلة

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

يوميات الشرق «SRMG Labs» أكثر الوكالات تتويجاً في مهرجان «أثر» للإبداع بالرياض (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

حصدت «SRMG Labs»، ذراع الابتكار في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 6 جوائز مرموقة عن جميع الفئات التي رُشّحت لها في مهرجان «أثر» للإبداع.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
العالم سيارة عليها كلمة «صحافة» بالإنجليزية بعد تعرض فندق يقيم فيه صحافيون في حاصبيا بجنوب لبنان لغارة إسرائيلية في 25 أكتوبر (رويترز)

اليونيسكو: مقتل 162 صحافياً خلال تأديتهم عملهم في 2022 و2023

«في العامين 2022 و2023، قُتل صحافي كل أربعة أيام لمجرد تأديته عمله الأساسي في البحث عن الحقيقة».

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي صحافيون من مختلف وسائل إعلام يتشاركون موقعاً لتغطية الغارات الإسرائيلية على مدينة صور (أ.ب)

حرب لبنان تشعل معركة إعلامية داخلية واتهامات بـ«التخوين»

أشعلت التغطية الإعلامية للحرب بلبنان سجالات طالت وسائل الإعلام وتطورت إلى انتقادات للإعلام واتهامات لا تخلو من التخوين، نالت فيها قناة «إم تي في» الحصة الأكبر.

حنان مرهج (بيروت)
يوميات الشرق الملتقى يُعدُّ أكبر تجمع في السعودية للمؤثرين والخبراء وصناع المحتوى الرقمي (واس)

السعودية تطلق أول ملتقى لـ«صناع التأثير» في العالم

أعلن وزير الإعلام السعودي سلمان الدوسري إطلاق الملتقى الأول لصناع التأثير (ImpaQ)، الذي تستضيفه العاصمة الرياض يومي 18 و19 ديسمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.