صراع «داعش» و«القاعدة» يُثمر تكتيكات جديدة

توقعات بتمدد في أفريقيا وإيران ونشاط باليمن

هجوم «داعش» على مقر وزارة الخارجية بليبيا في ديسمبر الماضي (الشرق الأوسط)
هجوم «داعش» على مقر وزارة الخارجية بليبيا في ديسمبر الماضي (الشرق الأوسط)
TT

صراع «داعش» و«القاعدة» يُثمر تكتيكات جديدة

هجوم «داعش» على مقر وزارة الخارجية بليبيا في ديسمبر الماضي (الشرق الأوسط)
هجوم «داعش» على مقر وزارة الخارجية بليبيا في ديسمبر الماضي (الشرق الأوسط)

شهد عام 2018 صراعات بين تنظيمات العنف، خصوصاً «داعش» و«القاعدة»، في أفريقيا ودول كثيرة، ومن المرجح أن يشهد 2019 تكتيكات حديثة، وبروز بؤر جديدة للإرهاب والصراع... ومع هذه الاحتمالات، تتجدد التساؤلات حول مستقبل التنظيمات الإرهابية في أفريقيا، وأفغانستان، وإيران، واليمن، وليبيا، وسوريا، والعراق، وأوروبا. الخبير الأمني العميد خالد عكاشة، عضو المجلس القومي لمكافحة الإرهاب في مصر، قال لـ«الشرق الأوسط» إن صراع «داعش» و«القاعدة» في أفريقيا صراع على الاستحواذ، لكن لم يشهد تقاتلاً بين التنظيمين، مضيفاً أن «داعش» سوف يتوجه في 2019 إلى المناطق النائية والتخوم الصحراوية في العراق، كنوع من التكتيكات الجديدة، وسوف يتوسع في إيران، ليفتح جبهات جديدة «لشحن بطاريات» عناصره.
وفي هذا الصدد، رصدت دراسة حديثة صادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أنه في 2019، ستظل مصادر التهديد الإرهابي مُركزة حول «داعش»، و«القاعدة» وفروعها، و«طالبان» بأفغانستان، و«بوكو حرام» في غرب أفريقيا... فلا يزال «داعش» يتصدر قائمة تنظيمات الإرهاب الأنشط، فمن الأول من يناير (كانون الثاني) حتى منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2018، نفذ «داعش» 450 عملية هجومية تسببت في قتل 2788، بينما احتلت «طالبان» المرتبة الثانية بـ207 عمليات، و1524 قتيلاً.

التمدد الأفريقي

وعن تمدد «داعش» و«القاعدة» وتنظيمات الإرهاب في أفريقيا، قال العميد عكاشة إن «ملامحه بدأت تظهر وفق مؤشرات قوية في نهاية 2018. وقد أشارت إلى احتلال (الشباب) الصومالية المرتبة الثانية في مؤشر الإرهاب العالمي الذي تصدره أستراليا، وهو الأبرز على مستوى العالم، ويعتمد على عدد العمليات التي قامت بها الحركة، والضحايا، ونقاط التمدد، وأوضحت وقوع أكثر من عملية في دولة مجاورة، فضلاً عن الحزام الأخضر جنوب الصحراء، وكل المناطق الشمالية أصبح بها قدر عالٍ جداً من التهديد، من (داعش) و(القاعدة)، و(بوكو حرام)، وخروج فصيل من الحركة بايع (داعش)، وآخر بايع (القاعدة)، بالإضافة إلى استعادة فرع (القاعدة) في بلاد المغرب العربي لسطوته ببعض الأماكن، حيث عاد للواجهة، مع احتمالات تمدده، ما لم يتم العمل على مجابهته».
وحول تمدد الإرهاب إلى الحدود المغربية - الأفريقية، وتصدر أفغانستان كبؤرة للإرهاب، قالت الدراسة إنه من المتوقع أن تبرز منطقة الحدود المشتركة بين المغرب والساحل الأفريقي، كنقطة ساخنة للنشاط الإرهابي في 2019، فضلاً عن أن هناك تحالفات وطيدة بين التنظيمات الإرهابية ومجتمعات الرعاة من الفولاني والبدو الطوارق، وربما يكون المقر الرئيسي لمجموعة دول الساحل الأفريقي الخمس في موريتانيا التي تكافح الإرهاب هدفاً جذاباً لنشاط التنظيم الأكبر هناك، وهو جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، كما ستظل مالي القاعدة التنظيمية للجماعة وإحدى أهم بؤر نشاطها.و«نصرة الإسلام والمسلمين» جماعة مسلحة تابعة لـ«القاعدة»، تأسست مطلع مارس (آذار) عام 2017، من خلال اندماج حركات «أنصار الدين»، و«كتيبة المرابطين»، و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى»، و«كتائب ماسينا».
أما أفغانستان، فكانت صاحبة العدد الأكبر من العمليات الإرهابية والضحايا في 2018، وهو اتجاه سيتعزز على الأرجح في 2019، خصوصاً أن أفغانستان تشكل حاضنة إرهابية، سواء لحركة «طالبان» الأكثر فتكاً في العامين الماضيين، أو «ولاية خرسان»، التي بلغ متوسط عدد ضحاياها في كل عملية نفذتها خلال عام 2018، نحو 51 ضحية (17 هجوماً أوقع 872 قتيلاً).
وأكدت الدراسة أنه من المتوقع أن تكون المنافسة بين «داعش» و«القاعدة» متواصلة، فلن يقف أي منهما على شفا الانكسار، وليس من المحتمل أن يقبل أحدهما بشرعية الطرف الآخر في السنوات المقبلة، وهو ما من شأنه أن يبقي الانقسام بينهما.
وأضاف عكاشة أن صراع «داعش» و«القاعدة» في أفريقيا له ملمح توافقي، مع تقاسم النفوذ الجغرافي، فهو صراع على الاستحواذ، ينطوي على قدر من الهدوء الذي يسمح لهما بالتمدد، ومنافسة بلا اقتتال، وهذا هو الأخطر، لأنه يمنح لهما مساحات للتمدد. وقد برز هذا المؤشر في واقعة الفصيل «الداعشي» الذي خرج من «بوكو حرام»، وتقاسم العمل مع «القاعدة» في نيجيريا، وهو انفصال هادئ، من دون اختناقات، ولم يرصد أي اقتتال، لافتاً إلى أن «هذا التنافس بين (داعش) و(القاعدة) لم يتسبب في ضعف أي من التنظيمين».

تخوم صحراوية

أما عن استمرار «داعش» في العراق، وعودته لسوريا من جديد، فقال العميد عكاشة إن 2019 لن يشهد ملامح انحسار لـ«داعش»، قدر ما هو تغيير في الشكل عبر سيطرته على الأرض، بعد خسائره؛ لكن وفق تكتيكات جديدة، حيث يتوجه إلى المناطق النائية والتخوم الصحراوية، خصوصاً أن المكون العراقي والسوري يساعد التنظيم على ذلك، لأن عناصر «داعش» تعرف هذه المناطق جيداً للتحرك فيها، وسوف يغير تكتيكاته من سيطرة، إلى عمليات إغارة، وعمليات خاطفة سوف تستمر، فضلاً عن أن «داعش» سوف يستمر في لملمة قدراته، فمؤشرات تراجع عملياته ربما تكون خادعة لا تدل على هزيمة للتنظيم، فالتنظيم لديه فترات صعود وهبوط.
دراسة المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أكدت أن «داعش» لا يزال يزعم قيامه بمعظم أنشطته في سوريا والعراق، فمن أصل الهجمات الـ467 التي زعم التنظيم مسؤوليته عنها بجميع أنحاء العالم في سبتمبر (أيلول) 2018، تم تنفيذ 228 من هذه الهجمات في العراق، كما أن ثمة مؤشرات على زيادة نشاط «داعش» حول ديالي وكركوك. أما عن عودة نشاطه في سوريا، فقالت الدراسة إنه من المحتمل أن يعود النشاط الداعشي في شمال وشرق سوريا لعاملين أساسيين: الأول، أنه ما زال هناك 15 ألف مقاتل «داعشي» في سوريا، وفقاً للبنتاغون، والثاني أن الانسحاب الأميركي قد يشتت جهود قوات سوريا الديمقراطية (وهي طليعة قوات مكافحة «داعش» هناك) في معركتين: إحداهما عسكرية ضد تركيا، والأخرى سياسية بالأساس ضد النظام السوري.
وحول وجود «داعش» في إيران، قالت الدراسة إنه من المتوقع أن يشهد عام 2019 مزيداً من الهجمات الإرهابية بإيران، وذلك لعدد من الأسباب، منها أن استهداف إيران بات جزءاً من استراتيجية «داعش» الحالية لاحتضان وتطوير بنيته التحتية المسلحة، فضلاً عن أن توجيه «داعش» ضربات مؤثرة ضد إيران، بالتوازي مع انحسار سيطرته في العراق وسوريا، قد يكون بمثابة تحول دعائي قد يُعزز من موقف «داعش» في مواجهة غريمه «القاعدة».
ويؤكد العميد عكاشة أن التنظيم يبحث عن جبهات جديدة يفتحها تعوضه عن الجبهات القديمة التي خسر فيها الأرض، ويسعى إلى «شحن بطاريات» أعضائه وعناصره، خصوصاً أن التنظيم لم ينفذ داخل إيران أي عمليات إرهابية، وسوف يلعب على نغمة الشيعي والسني في إيران، ويقدم نفسه من جديد، وهو انقلاب على إيران، يتوازى مع حالة الاستنفار العام في المنطقة ضدها.

صراعات مفتوحة

اليمن، ومصر، وليبيا، كانت محاور مهمة خلال الدراسة التي أكدت أن «داعش» و«القاعدة» دخلا في صراع مفتوح باليمن، بعد انتهاء حالة التعايش بينهما منذ يوليو (تموز) الماضي. فخلال الفترة من يوليو حتى نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وقع أكثر من مائة قتيل إثر الصراع بينهما، ومن المرجح أن يشهد الصراع حسماً لصالح «القاعدة»، ليهيمن على المشهد مرة أخرى، وينزوي «داعش» هناك. وفي مصر، حالت التكتيكات المتبعة من قبل السلطات في حملتها لمواجهة الإرهاب دون أن تتحول سيناء إلى الوجهة المفضلة للمقاتلين الأجانب العائدين من سوريا والعراق، إلا أن ذلك لا ينفي أن خطر تنظيم «ولاية سيناء» الموالي لـ«داعش» ما زال قائماً، حيث من المتوقع أن يظل التنظيم نشطاً قادراً على تنفيذ هجمات خلال 2019، مع احتمالات تنفيذه عمليات في الداخل، وبما يتجاوز مناطق نفوذه التقليدية في سيناء. وأوضحت الدراسة أنه مع استمرار حالة الفوضى في ليبيا، سوف تظل الحدود الغربية مع مصر مُعرضة للاختراق، وتسلل بعض العناصر الإرهابية التي قد تتعاون مع بعض «الخلايا النائمة» في صعيد مصر لتنفيذ عمليات في وادي النيل.
وتشن قوات الجيش والشرطة المصرية عملية أمنية كبيرة في شمال ووسط سيناء منذ 9 فبراير (شباط) 2018، لتطهير تلك المنطقة من عناصر متطرفة موالية لـ«داعش»، وتعرف العملية باسم «سيناء 2018».
وعن ليبيا، أشارت الدراسة إلى أن الجنوب الليبي تتقاطر عليه تنظيمات قاعدية و«داعشية» متناحرة، لكن يصعب على «داعش» التوسع، خصوصاً في الجنوب، لاعتبارات قبلية، ونشوء ترابطات قاعدية مع الجريمة المنظمة بالمنطقة، وإن كان ذلك لا ينفي أن تظل ليبيا منصة لوجيستية للإرهاب لإطلاق هجمات تستهدف دول الجوار العربي أو الأفريقي أو أوروبا، خصوصاً مع احتفاظ «داعش» بكيانات من قبيل «لواء الصحراء».
وفيما يتعلق بزيادة لجوء «داعش» إلى التطبيقات التكنولوجية المشفرة مرة أخرى، واتساع استخدام الطائرات المسيرة، قال العميد خالد عكاشة، وهو مدير عام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، الذي أعد الدراسة: «هذه بعض الحلول التي يحاول التنظيم من خلالها تطوير إمكانياته، وهي تعكس حيوية التنظيم، وأنه لا يستسلم للهزيمة، ويحاول أن يستحدث أنماطاً وأسلحة جديدة، ولدى صفوفه قدرات للتطوير، وهو يتفوق فيها على (القاعدة)».
وأكدت الدراسة أنه من المتوقع توسع «داعش» في تعزيز ترسانته من الطائرات المسيرة في 2019، لا سيما أن التنظيم بدأ توظيف هذه الطائرات في الهجمات الإرهابية لأول مرة في عام 2016، بقاعدة الطبقة في سوريا، ومن المحتمل أن تحاول جماعات إرهابية تطوير التقنيات والأساليب التي تستخدمها المنظمات العابرة للحدود، وذلك عن طريق شراء هذه التقنيات من شركات غربية متخصصة.
وأشارت الدراسة إلى أنه رغم الاحتياطات الأمنية التي خفضت عدد العمليات الإرهابية وضحاياها في أوروبا (17 قتيلاً في 2018، مقابل 168.81 قتيل في عامي 2017 و2016)، فإنها تواجه مخاطر في 2019، من جهتي ليبيا والنساء العائدات من مناطق الصراع في سوريا والعراق، نظراً لاحتمال توظيفهن في عمليات إرهابية، في الوقت الذي يصعب فيه على الرجال تنفيذها، أو قيامهن بتجنيد آخريات في بلدانهن الأصلية، أو كحلقة وصل لوجيستية مع «إرهابيين» في العراق وسوريا.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.