بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي

كيف صار الجنرال المتقاعد مصدر أول تهديد جدّي لنتنياهو؟

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي
TT

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي


على الرغم من أن الكثيرين ممن يريدون التخلص من حكم بنيامين نتنياهو في إسرائيل باتوا محبطين ولا يرون بارقة الأمل في تحقيق أهدافهم، فإن بيني غانتس يعيد الآمال إلى الشارع الإسرائيلي، بعدما بات مصدر أول تهديد حقيقي لإسقاط رئيس الوزراء والحلول مكانه. الاستطلاعات التي كانت تظهر تنامياً ملحوظاً في قوته، تعطيه اليوم - بعد اتحاده مع حزب «يوجد مستقبل» وضم الجنرال غابي أشكنازي - صارت تعطيه أكثرية واضحة. في ضوء ذلك، ما عاد نتنياهو يخفي غضبه وعصبيته، فألغى زيارته إلى موسكو ولقاءه مع الرئيس فلاديمير بوتين، بطريقة متسرعة أثارت غضباً بالغاً عند الروس... وهرع إلى أحزاب اليمين المتطرف يدعوها إلى التكتل في قائمة انتخابية واحدة، بما في ذلك ورثة تنظيم مئير كهانا الإرهابي، وأعلن أنه سيكرّس كل وقته الآن لتوحيد معسكر اليمين المتشدد كي لا يضيع أي صوت عليه.

من هو الجنرال بيني غانتس... الذي يهدّد اليوم رئاسة بنيامين نتنياهو المتطاولة حكومة إسرائيل؟ وهل هو صاحب القوة والكاريزما التي يفتش عنها الناخب الإسرائيلي؟ وكيف استطاع أن يفرض نفسه منافساً قوياً لنتنياهو وتمنحه الاستطلاعات 20 مقعداً قبل أن يتفوّه بكلمة؟
منذ البداية، تنبغي الإشارة إلى أن غانتس، ولو أنه جاء إلى الساحة الانتخابية باسمه وشخصه ودرجته العسكرية الرفيعة، فإن المراقبين والمتابعين يلمسون أن وراءه مؤسّسة ضخمة في إسرائيل و«ماكينات عمل» قوية ومجربة. وعندما خاض غانتس مفاوضات مع أحزاب عدة، أبرم الاتفاق الأول مع موشيه يعلون، وهو مثل غانتس رئيس سابق لأركان الجيش، كما أنه شغل منصب وزير للدفاع. ثم انجلى للجمهور أنه يدير محادثات مع رئيس أركان ثالث للجيش هو غابي أشكنازي، المدير العام الأسبق لوزارة الدفاع. وبالتالي، صار راسخاً أن «حزب غانتس» هو «حزب جنرالات»، ليس شكلاً فحسب، بل بالمضمون أيضاً.
إنه حزب يعبر عن مصالح «المؤسسة العسكرية الأمنية» الإسرائيلية ورؤيتها، وهي التي شهدت خلافات كبيرة مع نتنياهو خلال فترة حكمه في العقد الأخير. واختيار غانتس، بالذات، لقيادة هذا الحزب، كانت لكونه الأكثر تجربة في الصدام والخلاف مع نتنياهو. وتاريخه العسكري ما زال «طازجاً» في ذاكرة الناس. إذ خلع البزة العسكرية فقط قبل أربع سنوات.
وعلى الرغم من تاريخ غانتس الحافل في الجيش، حيث أمضى فيه 38 سنة، فإنه «قائد المصادفة»؛ لأن المصادفات لعبت دوراً بارزاً في حياته. فعندما كان نائباً لوحدة عسكرية للمظليين مشاركاً في هجوم على خلية لـ«حزب الله» قرب جسر القاسمية، بجنوب لبنان، عام 1982. ويومذاك أصيب قائده فتولى غانتس قيادة الوحدة واحتل طريق بيروت الغربية. وعندما عاد حصل على ترقية وصار قائداً لها.
وعام 1999، تولى قيادة وحدة الارتباط المحتلة لبنان، بعدما قتل قائدها العقيد ليرز غيرشتاين. وعام 2006، كان غانتس أحد المرشحين لخلافة دان حالوتس في رئاسة الأركان. لكن وزير الدفاع يومها، عَمير بيرتس، فضّل عليه غابي أشكنازي، الذي كان قد خلع بزته العسكرية. فتقبل القرار بصبر لأن أشكنازي كان صديقه الشخصي.
وعام 2010، كان غانتس أحد المرشحين لخلافة أشكنازي في رئاسة الأركان، لكن وزير الدفاع آنذاك، فضل عليه يوآف غالانت، فقرّر أن يترك الجيش. وبالفعل اتجه نحو الحياة المدنية. وراح يفتش عن حظه في عالم الأعمال. غير أن الحكومة اضطرت إلى إلغاء قرارها والتخلي عن غالانت، بسبب قضية فساد مرتبطة به. وهكذا عاد غانتس إلى الجيش وعيّن رئيساً للأركان. وهذه المصادفة هي التي قادته ليكون مرشحاً اليوم لرئاسة الحكومة.

- النشأة والسجل العسكري
ولد بنيامين «بيني» غانتس في إسرائيل لوالدين أوروبيين أشكنازيين، يوم 7 يوليو (تموز) 1957. أمه مالكا فايس، ولدت في جنوب شرقي المجر، وهي من الناجين من «المحرقة النازية» (الهولوكوست) لليهود، ووالده ناحوم غانتس ابن لأحد الضحايا الذين قتلوا بأيدي النازيين. الوالدان هاجرا إلى فلسطين في زمن الانتداب البريطاني على متن سفينة «حاييم الوزروف»، التي رفض البريطانيون أن ترسو في ميناء حيفا، فتوجهت إلى قبرص، ومن هناك دخلا أرض فلسطين بالتهريب. وكان والده ناشطاً في الحركة الصهيونية، وعيّن في منصب نائب رئيس الوكالة اليهودية.
تعلم بيني في مدرسة صهيونية - دينية، يديرها التيار الذي يسيطر في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية اليوم. وانضم إلى الجيش عام 1977، واختار سلاح المظليين. ولذلك شارك في شبابه في الكثير من الحروب والعمليات، بدءاً من غزوة الليطاني إلى حرب لبنان. ثم شارك في قمع «الانتفاضة الثانية» وحتى الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014. وتولى خلال خدمته العسكرية مناصب عدة، منها: قائد فصيلة، ثم قائد سرية في لواء المظليين. وبعد دورة تعليمية في الولايات المتحدة عُيّن قائد وحدة «شالداغ»، كوماندو المظليين التابعة لسلاح الجو. ثم عام 1987 عُيّن قائد كتيبة 890 في لواء المظليين، وشارك في أربعة اشتباكات مع «حزب الله» في جنوب لبنان، وشاركت وحدة «شالداغ» تحت قيادته بعملية «شلومو» عام 1991 التي أحضروا بها نحو 15 ألف مهاجر من إثيوبيا. ثم عُيّن عام 1992 قائداً للواء المظليين في قوات الاحتياط. وعام 1995 عُيّن قائداً للواء المظليين، وبعد سنتين ذهب للدراسة الأكاديمية في الولايات المتحدة، وفي 1999 عُيّن قائداً لوحدة الارتباط مع جنوب لبنان.

- قائد عسكري في الضفة
في عام 2000، عُيّن غانتس قائداً لقوات الجيش العاملة في الضفة الغربية المحتلة، وقاد عملياً بداية الاجتياح الشرس عام 2002، لكنه نقل من هناك وعيّن في السنة نفسها قائداً للمنطقة الشمالية برتبة لواء. ثم تولّى عام 2005 قيادة مجمع القوات البرّية، وفي تلك الفترة اندلعت حرب لبنان الثانية.
خلال الفترة ما بين 2007 و2009 عمل غانتس ملحقاً عسكرياً لدى الولايات المتحدة، وعاد ليصبح نائباً لرئيس الأركان العامة. وبقي في هذا المنصب حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، عندما ترك الجيش لرفض الحكومة تعيينه رئيساً للأركان، لكنه أعيد إلى الجيش وعيّن رئيساً للأركان بعد ثلاثة شهور. وإبّان خدمته رئيس أركان نفّذ عمليات حربية كثيرة، أبرزها القصف في سوريا و«حرب 2014» على قطاع غزة، التي قتل فيها 2202 فلسطيني، بينهم أكثر من 500 طفل فلسطيني، منهم 180 رضيعاً، ونحو 250 امرأة، وأكثر من 100 مُسنٍّ، وتشرد بسببها مئات الآلاف الذين اضطروا إلى ترك منازلهم.
في مقابلة صحافية معه لمجلة الجيش «بمحنيه» يوم 28 يناير (كانون الثاني) 2005، اعترف غانتس بأنه لم يكن يرغب في الالتحاق بالجيش النظامي، وأراد الانتقال للحياة المدنية بعد إنهاء خدمته العسكرية الإجبارية. لكن والده أقنعه بتغيير رأيه. ويُذكر أنه خلال خدمته العسكرية، وإلى جانب الدورات التعليمية التابعة للجيش، مثل كلية القيادة والأركان وكلية الأمن القومي، درس غانتس التاريخ في جامعة تل أبيب وحصل على اللقب الأول، ثم حصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة حيفا ودرجة ماجستير أخرى من جامعة الدفاع الوطني الأميركية (NDU) في الإدارة والموارد الوطنية.

- مواقفه ومآخذه
بالنسبة للمواقف، كان غانتس قد أشاد بالانفصال عن قطاع غزة، لكنه قال إنه يحبذ أن تتم انسحابات كهذه في المستقبل بالاتفاق مع الفلسطينيين... لا بتجاهلهم كما فعل شارون. وأطلق تصريحات تبين مدى ألمه من التدهور الخلقي في السياسة، ومن الهوة الآخذة في الاتساع بين طبقات المجتمع وشرائحه المختلفة.
ثم هاجم نتنياهو معتبراً أنه يمثل «قيادة تتمحور حول نفسها». ثم قال: «ستضم حكومتي رجال دولة وليس أباطرة»، و«لا تسامح مع الفساد». وركّز على حرصه على أخلاقيات أسلوب الحكم التي ينوي اعتمادها، مقارناً القيادة الحالية بـ«بيت إمبراطوري فرنسي» في عهد لويس الرابع عشر. قائلاً: «لا إمبراطور بين القياديين الإسرائيليين. الدولة ليست أنا. الدولة هي أنتم، هي نحن جميعاً». وتابع في تلميح مباشر إلى خصمه «حكومة أخلاقية هي المثال لنا، ولأطفالنا. قلت الحقيقة طيلة حياتي وحافظت على نظافة يدي».
ورداً على اتهام نتنياهو له بأنه يسار تقليدي، أكد غانتس أنه ليس يمينياً ولا يسارياً، بل وسطياً. وفي خطاب الترشح، وجه غانتس تحذيرات قوية إلى كل من إيران و«حزب الله» اللبناني وحركة حماس، قائلاً إنه يرى في «القدس عاصمة موحّدة لإسرائيل»، كما أكد أنه لا انسحاب من هضبة الجولان السورية.
لكن، في المقابل، أعلن غانتس أيضاً أن حكومته – في حال فوزه - «ستبذل كل ما في وسعها من أجل السلام» في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه حذر وهدد «لن نسمح لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون من الجهة الأخرى لجدار الفصل من تهديد أمننا وهويتنا كدولة يهودية».
وفي أول فيديوهات ترويجية لحزبه، تباهى غانتس بـ«إنجازاته» العسكرية في غزة، كما تباهى في تسجيلات مصوّرة بعدد المسلحين الفلسطينيين الذين قتلوا والأهداف التي نجح في تدميرها تحت قيادته في حرب عام 2014 التي خاضتها إسرائيل ضد حركة حماس وقطاع غزة، قائلاً إنه «تم قتل 1364 إرهابياً» في القطاع الذي «أعيد إلى العصر الحجري». وتابع: «صوّتوا لي: أنا أكثر شراسة من نتانياهو، لكنني نظيف».
وفي الوقت الحاضر، مع زخم النزول إلى المعترك السياسي والزخم الأكبر المتمثل في تشكيل «تحالف الجنرالات» مع حزب الوسط بقيادة يائير لبيد - الذي نجح في استقطاب أصوات غير قليلة من اليمين المعتدل - يبرز بيني غانتس مرشحاً قوياً يمتلك قدرات جدية لاستبدال نتنياهو. غير أن الأمر يتوقف على استمرار المعركة و«الذخيرة» والكمائن التي يعدها كل طرف لضرب الآخر. فإذا ما قُدّمت لائحة اتهام ضد نتنياهو بقضايا الفساد، ستتخذ المعركة منحى آخر. وإذا ما وقع غانتس في زلة لسان أو أخطأ في تصريح، وأوجد له خصومه السياسيون في تاريخه «لطخة» ما، ستتخذ المعركة منحى معاكساً.

- «الوجه الأميركي» للانتخابات
هنا ينبغي التذكر أنه إلى جانب كل من نتنياهو وغانتس يوجد خبراء استراتيجيون أميركيون، حضروا إلى إسرائيل للعمل بأجور باهظة، كلٌّ لإنجاح مرشحه. وهؤلاء لا يعرفون شيئاً اسمه الرحمة.
إنهم يستخدمون كل أسلحة القتال الفتاكة. ويحددون موضوعات النقاش، ويُبرزون قضايا، ويطمسون قضايا أخرى، ويقرِّرون الأجندة في الساحة السياسية. ثم إنهم يكتبون الخطابات، ويجرون التدريبات للمرشحين حول كيفية الظهور في الإعلام واختيار الجمل الحادة التي تتغلغل فورا إلى ذهنية الناخبين. وأخيراً، لا آخراً، يجرون استطلاعات الرأي التي ترفع معنويات المرشح وجمهوره أو تخفضها بجانب تقرير «الأجندة الانتخابية» للمجتمع الإسرائيلي برمته.
هؤلاء الخبراء يعتبرون الناخب الحقيقي.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.