بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي

كيف صار الجنرال المتقاعد مصدر أول تهديد جدّي لنتنياهو؟

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي
TT

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي

بيني غانتس.. «قائد المصادفات» وحامل مشعل الجيش الإسرائيلي


على الرغم من أن الكثيرين ممن يريدون التخلص من حكم بنيامين نتنياهو في إسرائيل باتوا محبطين ولا يرون بارقة الأمل في تحقيق أهدافهم، فإن بيني غانتس يعيد الآمال إلى الشارع الإسرائيلي، بعدما بات مصدر أول تهديد حقيقي لإسقاط رئيس الوزراء والحلول مكانه. الاستطلاعات التي كانت تظهر تنامياً ملحوظاً في قوته، تعطيه اليوم - بعد اتحاده مع حزب «يوجد مستقبل» وضم الجنرال غابي أشكنازي - صارت تعطيه أكثرية واضحة. في ضوء ذلك، ما عاد نتنياهو يخفي غضبه وعصبيته، فألغى زيارته إلى موسكو ولقاءه مع الرئيس فلاديمير بوتين، بطريقة متسرعة أثارت غضباً بالغاً عند الروس... وهرع إلى أحزاب اليمين المتطرف يدعوها إلى التكتل في قائمة انتخابية واحدة، بما في ذلك ورثة تنظيم مئير كهانا الإرهابي، وأعلن أنه سيكرّس كل وقته الآن لتوحيد معسكر اليمين المتشدد كي لا يضيع أي صوت عليه.

من هو الجنرال بيني غانتس... الذي يهدّد اليوم رئاسة بنيامين نتنياهو المتطاولة حكومة إسرائيل؟ وهل هو صاحب القوة والكاريزما التي يفتش عنها الناخب الإسرائيلي؟ وكيف استطاع أن يفرض نفسه منافساً قوياً لنتنياهو وتمنحه الاستطلاعات 20 مقعداً قبل أن يتفوّه بكلمة؟
منذ البداية، تنبغي الإشارة إلى أن غانتس، ولو أنه جاء إلى الساحة الانتخابية باسمه وشخصه ودرجته العسكرية الرفيعة، فإن المراقبين والمتابعين يلمسون أن وراءه مؤسّسة ضخمة في إسرائيل و«ماكينات عمل» قوية ومجربة. وعندما خاض غانتس مفاوضات مع أحزاب عدة، أبرم الاتفاق الأول مع موشيه يعلون، وهو مثل غانتس رئيس سابق لأركان الجيش، كما أنه شغل منصب وزير للدفاع. ثم انجلى للجمهور أنه يدير محادثات مع رئيس أركان ثالث للجيش هو غابي أشكنازي، المدير العام الأسبق لوزارة الدفاع. وبالتالي، صار راسخاً أن «حزب غانتس» هو «حزب جنرالات»، ليس شكلاً فحسب، بل بالمضمون أيضاً.
إنه حزب يعبر عن مصالح «المؤسسة العسكرية الأمنية» الإسرائيلية ورؤيتها، وهي التي شهدت خلافات كبيرة مع نتنياهو خلال فترة حكمه في العقد الأخير. واختيار غانتس، بالذات، لقيادة هذا الحزب، كانت لكونه الأكثر تجربة في الصدام والخلاف مع نتنياهو. وتاريخه العسكري ما زال «طازجاً» في ذاكرة الناس. إذ خلع البزة العسكرية فقط قبل أربع سنوات.
وعلى الرغم من تاريخ غانتس الحافل في الجيش، حيث أمضى فيه 38 سنة، فإنه «قائد المصادفة»؛ لأن المصادفات لعبت دوراً بارزاً في حياته. فعندما كان نائباً لوحدة عسكرية للمظليين مشاركاً في هجوم على خلية لـ«حزب الله» قرب جسر القاسمية، بجنوب لبنان، عام 1982. ويومذاك أصيب قائده فتولى غانتس قيادة الوحدة واحتل طريق بيروت الغربية. وعندما عاد حصل على ترقية وصار قائداً لها.
وعام 1999، تولى قيادة وحدة الارتباط المحتلة لبنان، بعدما قتل قائدها العقيد ليرز غيرشتاين. وعام 2006، كان غانتس أحد المرشحين لخلافة دان حالوتس في رئاسة الأركان. لكن وزير الدفاع يومها، عَمير بيرتس، فضّل عليه غابي أشكنازي، الذي كان قد خلع بزته العسكرية. فتقبل القرار بصبر لأن أشكنازي كان صديقه الشخصي.
وعام 2010، كان غانتس أحد المرشحين لخلافة أشكنازي في رئاسة الأركان، لكن وزير الدفاع آنذاك، فضل عليه يوآف غالانت، فقرّر أن يترك الجيش. وبالفعل اتجه نحو الحياة المدنية. وراح يفتش عن حظه في عالم الأعمال. غير أن الحكومة اضطرت إلى إلغاء قرارها والتخلي عن غالانت، بسبب قضية فساد مرتبطة به. وهكذا عاد غانتس إلى الجيش وعيّن رئيساً للأركان. وهذه المصادفة هي التي قادته ليكون مرشحاً اليوم لرئاسة الحكومة.

- النشأة والسجل العسكري
ولد بنيامين «بيني» غانتس في إسرائيل لوالدين أوروبيين أشكنازيين، يوم 7 يوليو (تموز) 1957. أمه مالكا فايس، ولدت في جنوب شرقي المجر، وهي من الناجين من «المحرقة النازية» (الهولوكوست) لليهود، ووالده ناحوم غانتس ابن لأحد الضحايا الذين قتلوا بأيدي النازيين. الوالدان هاجرا إلى فلسطين في زمن الانتداب البريطاني على متن سفينة «حاييم الوزروف»، التي رفض البريطانيون أن ترسو في ميناء حيفا، فتوجهت إلى قبرص، ومن هناك دخلا أرض فلسطين بالتهريب. وكان والده ناشطاً في الحركة الصهيونية، وعيّن في منصب نائب رئيس الوكالة اليهودية.
تعلم بيني في مدرسة صهيونية - دينية، يديرها التيار الذي يسيطر في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية اليوم. وانضم إلى الجيش عام 1977، واختار سلاح المظليين. ولذلك شارك في شبابه في الكثير من الحروب والعمليات، بدءاً من غزوة الليطاني إلى حرب لبنان. ثم شارك في قمع «الانتفاضة الثانية» وحتى الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014. وتولى خلال خدمته العسكرية مناصب عدة، منها: قائد فصيلة، ثم قائد سرية في لواء المظليين. وبعد دورة تعليمية في الولايات المتحدة عُيّن قائد وحدة «شالداغ»، كوماندو المظليين التابعة لسلاح الجو. ثم عام 1987 عُيّن قائد كتيبة 890 في لواء المظليين، وشارك في أربعة اشتباكات مع «حزب الله» في جنوب لبنان، وشاركت وحدة «شالداغ» تحت قيادته بعملية «شلومو» عام 1991 التي أحضروا بها نحو 15 ألف مهاجر من إثيوبيا. ثم عُيّن عام 1992 قائداً للواء المظليين في قوات الاحتياط. وعام 1995 عُيّن قائداً للواء المظليين، وبعد سنتين ذهب للدراسة الأكاديمية في الولايات المتحدة، وفي 1999 عُيّن قائداً لوحدة الارتباط مع جنوب لبنان.

- قائد عسكري في الضفة
في عام 2000، عُيّن غانتس قائداً لقوات الجيش العاملة في الضفة الغربية المحتلة، وقاد عملياً بداية الاجتياح الشرس عام 2002، لكنه نقل من هناك وعيّن في السنة نفسها قائداً للمنطقة الشمالية برتبة لواء. ثم تولّى عام 2005 قيادة مجمع القوات البرّية، وفي تلك الفترة اندلعت حرب لبنان الثانية.
خلال الفترة ما بين 2007 و2009 عمل غانتس ملحقاً عسكرياً لدى الولايات المتحدة، وعاد ليصبح نائباً لرئيس الأركان العامة. وبقي في هذا المنصب حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، عندما ترك الجيش لرفض الحكومة تعيينه رئيساً للأركان، لكنه أعيد إلى الجيش وعيّن رئيساً للأركان بعد ثلاثة شهور. وإبّان خدمته رئيس أركان نفّذ عمليات حربية كثيرة، أبرزها القصف في سوريا و«حرب 2014» على قطاع غزة، التي قتل فيها 2202 فلسطيني، بينهم أكثر من 500 طفل فلسطيني، منهم 180 رضيعاً، ونحو 250 امرأة، وأكثر من 100 مُسنٍّ، وتشرد بسببها مئات الآلاف الذين اضطروا إلى ترك منازلهم.
في مقابلة صحافية معه لمجلة الجيش «بمحنيه» يوم 28 يناير (كانون الثاني) 2005، اعترف غانتس بأنه لم يكن يرغب في الالتحاق بالجيش النظامي، وأراد الانتقال للحياة المدنية بعد إنهاء خدمته العسكرية الإجبارية. لكن والده أقنعه بتغيير رأيه. ويُذكر أنه خلال خدمته العسكرية، وإلى جانب الدورات التعليمية التابعة للجيش، مثل كلية القيادة والأركان وكلية الأمن القومي، درس غانتس التاريخ في جامعة تل أبيب وحصل على اللقب الأول، ثم حصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة حيفا ودرجة ماجستير أخرى من جامعة الدفاع الوطني الأميركية (NDU) في الإدارة والموارد الوطنية.

- مواقفه ومآخذه
بالنسبة للمواقف، كان غانتس قد أشاد بالانفصال عن قطاع غزة، لكنه قال إنه يحبذ أن تتم انسحابات كهذه في المستقبل بالاتفاق مع الفلسطينيين... لا بتجاهلهم كما فعل شارون. وأطلق تصريحات تبين مدى ألمه من التدهور الخلقي في السياسة، ومن الهوة الآخذة في الاتساع بين طبقات المجتمع وشرائحه المختلفة.
ثم هاجم نتنياهو معتبراً أنه يمثل «قيادة تتمحور حول نفسها». ثم قال: «ستضم حكومتي رجال دولة وليس أباطرة»، و«لا تسامح مع الفساد». وركّز على حرصه على أخلاقيات أسلوب الحكم التي ينوي اعتمادها، مقارناً القيادة الحالية بـ«بيت إمبراطوري فرنسي» في عهد لويس الرابع عشر. قائلاً: «لا إمبراطور بين القياديين الإسرائيليين. الدولة ليست أنا. الدولة هي أنتم، هي نحن جميعاً». وتابع في تلميح مباشر إلى خصمه «حكومة أخلاقية هي المثال لنا، ولأطفالنا. قلت الحقيقة طيلة حياتي وحافظت على نظافة يدي».
ورداً على اتهام نتنياهو له بأنه يسار تقليدي، أكد غانتس أنه ليس يمينياً ولا يسارياً، بل وسطياً. وفي خطاب الترشح، وجه غانتس تحذيرات قوية إلى كل من إيران و«حزب الله» اللبناني وحركة حماس، قائلاً إنه يرى في «القدس عاصمة موحّدة لإسرائيل»، كما أكد أنه لا انسحاب من هضبة الجولان السورية.
لكن، في المقابل، أعلن غانتس أيضاً أن حكومته – في حال فوزه - «ستبذل كل ما في وسعها من أجل السلام» في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه حذر وهدد «لن نسمح لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون من الجهة الأخرى لجدار الفصل من تهديد أمننا وهويتنا كدولة يهودية».
وفي أول فيديوهات ترويجية لحزبه، تباهى غانتس بـ«إنجازاته» العسكرية في غزة، كما تباهى في تسجيلات مصوّرة بعدد المسلحين الفلسطينيين الذين قتلوا والأهداف التي نجح في تدميرها تحت قيادته في حرب عام 2014 التي خاضتها إسرائيل ضد حركة حماس وقطاع غزة، قائلاً إنه «تم قتل 1364 إرهابياً» في القطاع الذي «أعيد إلى العصر الحجري». وتابع: «صوّتوا لي: أنا أكثر شراسة من نتانياهو، لكنني نظيف».
وفي الوقت الحاضر، مع زخم النزول إلى المعترك السياسي والزخم الأكبر المتمثل في تشكيل «تحالف الجنرالات» مع حزب الوسط بقيادة يائير لبيد - الذي نجح في استقطاب أصوات غير قليلة من اليمين المعتدل - يبرز بيني غانتس مرشحاً قوياً يمتلك قدرات جدية لاستبدال نتنياهو. غير أن الأمر يتوقف على استمرار المعركة و«الذخيرة» والكمائن التي يعدها كل طرف لضرب الآخر. فإذا ما قُدّمت لائحة اتهام ضد نتنياهو بقضايا الفساد، ستتخذ المعركة منحى آخر. وإذا ما وقع غانتس في زلة لسان أو أخطأ في تصريح، وأوجد له خصومه السياسيون في تاريخه «لطخة» ما، ستتخذ المعركة منحى معاكساً.

- «الوجه الأميركي» للانتخابات
هنا ينبغي التذكر أنه إلى جانب كل من نتنياهو وغانتس يوجد خبراء استراتيجيون أميركيون، حضروا إلى إسرائيل للعمل بأجور باهظة، كلٌّ لإنجاح مرشحه. وهؤلاء لا يعرفون شيئاً اسمه الرحمة.
إنهم يستخدمون كل أسلحة القتال الفتاكة. ويحددون موضوعات النقاش، ويُبرزون قضايا، ويطمسون قضايا أخرى، ويقرِّرون الأجندة في الساحة السياسية. ثم إنهم يكتبون الخطابات، ويجرون التدريبات للمرشحين حول كيفية الظهور في الإعلام واختيار الجمل الحادة التي تتغلغل فورا إلى ذهنية الناخبين. وأخيراً، لا آخراً، يجرون استطلاعات الرأي التي ترفع معنويات المرشح وجمهوره أو تخفضها بجانب تقرير «الأجندة الانتخابية» للمجتمع الإسرائيلي برمته.
هؤلاء الخبراء يعتبرون الناخب الحقيقي.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.