أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

بين نظام يسيطر على مقاليد السلطة... و«حكم افتراضي» عاجز بمفرده عن التغيير

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة
TT

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

منذ أكثر من ثلاث سنوات يتقاطر سكّان العاصمة الفنزويلية كاراكاس باكراً كل صباح للوقوف في طوابير طويلة أمام مراكز توزيع «أكياس الطعام» المنتشرة في أنحاء عاصمة البلاد التي تعوم فوق أكبر احتياطي للنفط في العالم ويعاني اقتصادها من شلل شبه تام تحت وطأة تضخّم يومي بنسبة 3% وانهيار شامل للخدمات الاجتماعية والصحية. أكثر من ثلاثة ملايين فنزويلي هاجروا خلال هذه الفترة من البلاد التي كانت لعقود عديدة مقصد المهاجرين من أوروبا والدول المجاورة. في غضون ذلك، كانت فنزويلا تشهد موجات متقطعة من الاحتجاجات الشعبية التي أوقعت مئات القتلى وآلاف الجرحى، وأدّت إلى اعتقال عدد كبير من القيادات السياسية المعارضة أو فرارها إلى الخارج. وفي الوقت ذاته، كان نظام الرئيس اليساري نيكولاس مادورو يُحكِم قبضته على المؤسسات التنفيذية وينجح في تشتيت الأحزاب والقوى المعارضة، إلى أن قررت واشنطن أن الساعة قد أزفت لإنهاء انكفائها الطويل عن التدخّل في الأزمة الفنزويلية ووضعت «كامل ترسانتها الدبلوماسية والاقتصادية»-على حد تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترمب- من غير أن تستبعد اللجوء إلى الخيار العسكري، لمنع ظهور «كوبا ثانية» على مرمى حجر من سواحلها.

يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي وقف شاب في السابعة والثلاثين من عمره يدعى خوان غوايدو أمام مئات الآلاف من مواطنيه الذين كانوا يتظاهرون في كاراكاس، عاصمة فنزويلا، مطالبين بتغيير النظام وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، ولم يلبث أن أعلن تولّيه «رئاسة الجمهورية بالوكالة»، داعياً الرئيس اليساري نيكولاس مادورو إلى التنحّي وإنهاء «اغتصاب السلطة».
قبل ذلك اليوم لم يكن العالم قد سمع بهذا السياسي الذي انتخب رئيساً للبرلمان الفنزويلي في الخامس من الشهر الماضي وكان مغموراً حتى داخل فنزويلا. ولم تنقضِ سوى ساعات قليلة على تلك الخطوة حتى كانت الإدارة الأميركية تعلن اعترافها بشرعية «الرئيس الجديد»، وتحثّ الدول الأخرى على تأييده، بعدما كانت دبلوماسية واشنطن قد نشطت لدى حلفائها لدفعهم إلى الاعتراف بالشرعية الجديدة وتعميق عزلة مادورو، الذي كانت دول عدة قد رفضت الاعتراف بشرعية ولايته الثانية كرئيس بعد انتخابات العام الماضي.
أوّل المعترفين بـ«الرئيس الجديد»، بعد الولايات المتحدة، كانت كندا وأستراليا ومعظم الدول الوازنة (التي يحكمها اليمين) في أميركا اللاتينية، باستثناء المكسيك التي أعلنت استعدادها لوساطة انتهت مفاعيلها قبل أن تبدأ في لقاء دعت إليه في أوروغواي وشاركت فيه حفنة من «الدول المحايدة».
وفي المقابل، أعلنت كل من روسيا والصين وتركيا دعمها لمادورو، بينما كان الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً من إسبانيا، الدولة الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي الفنزويلي، يتعثّر في اتخاذ موقف موحّد من الاعتراف بغوايدو بسبب من امتناع إيطاليا التي تصرّ حكومتها على «رفض التدخّل في الشؤون الداخلية والامتناع عن محاولات تصدير الديمقراطية». وهكذا، خلال أقل من أسبوع واحد، دخلت الأزمة الفنزويلية نفق التدويل والمواجهة المفتوحة بين نظام يسيطر على كل المؤسسات التنفيذية والعسكرية، و«حكومة افتراضية» لا تملك القدرة على تغيير الواقع السياسي داخل البلاد، ويخشى كثيرون أن تكون مجرّد «رأس حربة» أميركية لمغامرة عسكرية جديدة في المنطقة، التي كادت تشعل أول حرب نووية في العالم مطالع ستينات القرن الماضي.

- «خريطة طريق» غوايدو
لا شك في أن الخطوة التي أقدم عليها خوان غوايدو شكّلت نقلة نوعية مهمة في المسار الطويل للأزمة الفنزويلية. وهو يطعن في شرعيّة الولاية الثانية لنيكولاس مادورو، استناداً إلى كون الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في مايو (أيار) الماضي لم تستوفِ الشروط القانونية اللازمة ومُنِع معظم أحزاب المعارضة من المشاركة فيها، ولأن مادورو لم يقسم يمين الولاء أمام الجمعية الوطنية-كما ينصّ الدستور- بل أمام جمعيّة تأسيسية شُكّلت أخيراً من مؤيدي النظام ومن غير مشاركة المعارضة. واستند غوايدو في خطوته إلى المادة 233 من الدستور التي تلحظ «تولّي رئيس البرلمان رئاسة الجمهورية في حال شغور المنصب»، مقترحاً «خريطة طريق» من ثلاث مراحل للخروج من الأزمة: إنهاء اغتصاب السلطة، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات عامة ورئاسية حرة ونزيهة بإشراف دولي.
لكن «خريطة الطريق» هذه، وبخاصة المرحلة الأخيرة منها، دونها عقبات كثيرة، وتبدو سباقاً طويلاً أمامه حواجز كبيرة قبل بلوغ الهدف النهائي. غوايدو شخصياً يعترف بأن خطته تحتاج إلى سنة كاملة في الأقل لتنفيذها، ناهيك باستحالة توفير الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة تؤمِّن انتقال السلطة على أسس ثابتة ومستقرّة في الظروف الراهنة. وهو يدرك أنه لا يسيطر على أيٍّ من مؤسسات السلطة التنفيذية أو القضائية، وبالأخص، المجلس الوطني لمراقبة الانتخابات والمحكمة العليا التي تدين بالولاء الكامل للنظام. ثم إن الانتخابات الحرة تقتضي وجود حكومة جديدة محايدة تشرف عليها، وهذه تستدعي تنحّي مادورو عن الرئاسة، الأمر الذي يبدو مستحيلاً ما دام يتمتّع بدعم المؤسسة العسكرية، التي ردّت أخيراً على تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب إذا استمرّت بدعمها للنظام، بقولها «إذا أرادوا عزل مادورو بالقوة، فلن يكون ذلك إلّا فوق جثثنا».
ويُذكر أن المعارضة، إدراكاً منها للدور الحاسم الذي يلعبه الجيش في دعم النظام وبقائه، تسعى منذ فترة لاستمالة القيادات العسكرية وإغرائها بالتخلّي عن مادورو وتأييد الشرعية الجديدة، لكن من دون أن تحقق أي نتيجة حتى الآن. ولقد أعلن غوايدو عن «خطة» للعفو الجنائي والإداري والمسلكي تشمل كل الضبّاط الذين يعلنون ولاءهم للشرعية الجديدة، وشنت المعارضة حملة واسعة في أوساط القوات المسلحة والثكنات العسكرية لشرح «خطة العفو»، من غير أن تثمر جهودها عن أي نتيجة. أيضاً، راهنت، لاختبار ولاء المؤسسة العسكرية، على المساعدات الإنسانية لتوزيعها على المواطنين الذين يعانون من نقصٍ حادٍ في الأدوية والمواد الغذائية الأساسية. إلا أنه حتى الساعة ما زالت هذه المساعدات تتكدّس على الحدود الكولومبية التي تحوّلت إلى «جبهة» مواجهة بين النظام-الذي أوفد إليها القوات الخاصة التي يضمن ولاءها كي تمنع دخول المساعدات بالقوة- والمعارضة... التي تحشد مئات الآلاف من المواطنين لتوزيعها رغم رفض النظام.

- شكوك أوروبية
جدير بالذكر أنه بعد فشل وساطة المكسيك وارتفاع حدة المواقف التصعيدية من واشنطن والنظام الفنزويلي، ازداد القلق في عدد من العواصم الأوروبية من الجنوح إلى الحل العسكري «بعدما باتت هذه الأزمة إحدى الأوراق المفضّلة لدى الرئيس الأميركي للتخفيف من الضغوط التي يتعرّض لها على الجبهة الداخلية»، كما جاء على لسان مسؤول أوروبي رفيع، وبعدما بدأت المعارضة الفنزويلية تفقد الأمل في تصديع الجبهة العسكرية الداعمة للنظام.
وفي الأيام الأخيرة اتجهت أنظار المتخوّفين من نشوب حرب أهلية مفتوحة، أو مواجهة عسكرية جديدة في أميركا اللاتينية، إلى الفاتيكان بعدما كان مادورو قد وجّه رسالة إلى البابا فرنسيس يطلب منه التوسط لحل الأزمة. والمعروف أن البابا، وهو يسوعي أرجنتيني قريب من حركة «لاهوت التحرّر» (الميّالة إلى اليسار) التي نشطت في أميركا اللاتينية إبّان ثمانينات القرن الماضي، يتعاطف مع المبادئ الأساسية التي قام عليها النظام الاجتماعي للحركة «التشافيزية»، وله يعود الفضل الكبير في المصالحة التاريخية بين كوبا والولايات المتحدة واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما في أواخر الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ويذكر أن الوزير الحالي لخارجية الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، سبق له أن كان قاصداً رسوليّاً في كاراكاس، وهو مطّلع عن كثب على تطورات الأزمة الفنزويلية.
إلا أن التسريبات الأخيرة لمضمون الرسالة التي ردّ بها البابا فرنسيس على مادورو، ونشرتها إحدى الصحف الإيطالية القريبة من الفاتيكان، قضت على آمال الوساطة التي كان البعض يعوّل على الكنيسة الكاثوليكية كي تقوم بها، ولا سيما بعد تعرّض موقف الفاتيكان لانتقادات كثيرة لرفضه الاعتراف بـ«شرعيّة» غوايدو. وتضمنت الرسالة انتقادات للنظام الفنزويلي لعدم وفائه بالالتزامات والاتفاقات التي سبق التوصّل إليها في المفاوضات التي رعاها الفاتيكان في الجمهورية الدومينيكية بين الطرفين عام 2016.

- الدور المحتمل لـ«يسار» المعارضة
في هذه الأثناء، تنشط الدبلوماسية الأوروبية بعيداً عن الأضواء، بالتنسيق مع الدائرة السياسية في الأمم المتحدة، لتقليص المسافة الفاصلة بين المعارضة اليسارية الفنزويلية التي ترفض تبنّي «خريطة الطريق» الأميركية للخروج من الأزمة، والمعارضة اليمينية التقليدية التي تتحرك ووفق توجيهات واشنطن. ونقطة الانطلاق التوافق على أن حل الأزمة سياسياً يمرّ عبر تفاهم هذين الجانبين على «خريطة طريق» مشتركة لانتقال السلطة ومنع الانجرار إلى مواجهة عسكرية بدأت طبولها تُقرع بقوة أخيراً.
وفي هذا الصدد نذكر أن عدداً من الوزراء وكبار المسؤولين السياسيين السابقين، الذين كانوا مقرّبين من الرئيس الفنزويلي السابق الراحل هوغو تشافيز، ورافقوا خلفه مادورو في مستهلّ ولايته الأولى، فتحوا أخيراً ثغرة للحوار مع رئيس البرلمان لعرض تصورّهم لمرحلة انتقال السلطة السياسية. وأكدوا تأييدهم لإنهاء حكم مادورو مقابل رفضهم الدور الأميركي الذي يوجّه مسار التطورات في الظرف الراهن. وتضمّ هذه المجموعة، المنضوية تحت اسم «منصّة الدفاع عن الدستور»، وزراء سابقين للتربية والتعليم الجامعي والمال والتجارة والخارجية والاقتصاد، إلى جانب عدد من السفراء السابقين وأعضاء مجلس قيادة الحزب الاشتراكي.
هؤلاء ما زالوا يرفضون الاعتراف بـ«شرعية» غوايدو، مع قبولهم به «طرفاً محاوراً شرعيّاً ورئيساً للبرلمان». ويعتبرون أن «مادورو وأد المشروع السياسي الذي وضعه هوغو تشافيز»-على حد قول غوستافو ماركيز، الذي كان مستشاراً سياسياً مقرّباً من تشافيز لسنوات. ويقول ماركيز: «غوايدو يتمتّع بشرعيّة أكثر من مادورو، لكن الاعتراف السياسي بهذه الشرعية لا بد أن يكون عبر صناديق الاقتراع. مادورو يحكم البلاد خارج نطاق الدستور منذ عام 2016، ونحن نسعى منذ سنوات لعزله... ولكن ليس بأي شكل أو ثمن. لذا نرفض كليّاً التدخّل الخارجي. والطريق الذي رسمته الإدارة الأميركية للمعارضة التقليدية ليس مقبولاً بالنسبة إلينا».
من هنا، لم يعد خافياً على المتابعين عن كثب للأزمة الفنزويلية أن دور واشنطن، الذي كان حيويّاً في إخراجها من الركود الذي كانت تعاني منه طوال سنوات، بات مصدر إحراج بالنسبة إلى المعارضة التي تجهد لتنظيم صفوفها وتحركاتها الشعبية منذ فترة طويلة، وصار عائقاً في وجه انفتاحها على الجناح التشافيزي المنشقّ عن مادورو، والذي يعتبر كثيرون أن التعاون والاتفاق معه على خطة مشتركة هو بداية النهاية لنظام مادورو.

- تساؤلات تواكب الانهيار الاجتماعي الكبير
بينما تغرق فنزويلا في حال غير مسبوق من الانهيار الاجتماعي، تؤكد المنظمات الدولية أن ربع مليون شخص مهدّدون بالموت لنقص الأدوية اللازمة لعلاجهم أو تعذّر حصولهم على المواد الغذائية الأساسية. ويضرب المحللون أخماساً بأسداس للإجابة عن التساؤلات التي تدور حولها المخارج المحتملة لهذه الأزمة:
- هل سيصمد ولاء القيادات العسكرية أمام إغراءات المعارضة وتهديدات الولايات المتحدة؟
- ما احتمالات نجاح التمرّد العسكري في صفوف الضبّاط الصغار الذي ما زالت تراهن عليه المعارضة سرّاً؟
- هل بإمكان الجيش، والرئيس نيكولاس مادورو، الصمود طويلاً في وجه الاحتجاجات الشعبية المتواصلة... تحت وطـأة العقوبات الاقتصادية الأخيرة التي تنذر بتجفيف المنابع النقدية للنظام؟
- هل أو متى، سيقرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ومعه فريق «الصقور» الذي يمسك بمفاتيح السياسية الخارجية في واشنطن، ركوب مغامرة عسكرية جديدة في الحديقة الخلفية لواشنطن؟
- هل أو متى، سيقف خوان غوايدو أمام مواطنيه ليقول هذه المرة: استنفدنا كل السبل لحل الأزمة بالطرق السلمية... ولم يعد أمامنا سوى الخيار العسكري؟



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.