أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

بين نظام يسيطر على مقاليد السلطة... و«حكم افتراضي» عاجز بمفرده عن التغيير

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة
TT

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

أزمة فنزويلا في نفق التدويل والمواجهة المفتوحة

منذ أكثر من ثلاث سنوات يتقاطر سكّان العاصمة الفنزويلية كاراكاس باكراً كل صباح للوقوف في طوابير طويلة أمام مراكز توزيع «أكياس الطعام» المنتشرة في أنحاء عاصمة البلاد التي تعوم فوق أكبر احتياطي للنفط في العالم ويعاني اقتصادها من شلل شبه تام تحت وطأة تضخّم يومي بنسبة 3% وانهيار شامل للخدمات الاجتماعية والصحية. أكثر من ثلاثة ملايين فنزويلي هاجروا خلال هذه الفترة من البلاد التي كانت لعقود عديدة مقصد المهاجرين من أوروبا والدول المجاورة. في غضون ذلك، كانت فنزويلا تشهد موجات متقطعة من الاحتجاجات الشعبية التي أوقعت مئات القتلى وآلاف الجرحى، وأدّت إلى اعتقال عدد كبير من القيادات السياسية المعارضة أو فرارها إلى الخارج. وفي الوقت ذاته، كان نظام الرئيس اليساري نيكولاس مادورو يُحكِم قبضته على المؤسسات التنفيذية وينجح في تشتيت الأحزاب والقوى المعارضة، إلى أن قررت واشنطن أن الساعة قد أزفت لإنهاء انكفائها الطويل عن التدخّل في الأزمة الفنزويلية ووضعت «كامل ترسانتها الدبلوماسية والاقتصادية»-على حد تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترمب- من غير أن تستبعد اللجوء إلى الخيار العسكري، لمنع ظهور «كوبا ثانية» على مرمى حجر من سواحلها.

يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي وقف شاب في السابعة والثلاثين من عمره يدعى خوان غوايدو أمام مئات الآلاف من مواطنيه الذين كانوا يتظاهرون في كاراكاس، عاصمة فنزويلا، مطالبين بتغيير النظام وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، ولم يلبث أن أعلن تولّيه «رئاسة الجمهورية بالوكالة»، داعياً الرئيس اليساري نيكولاس مادورو إلى التنحّي وإنهاء «اغتصاب السلطة».
قبل ذلك اليوم لم يكن العالم قد سمع بهذا السياسي الذي انتخب رئيساً للبرلمان الفنزويلي في الخامس من الشهر الماضي وكان مغموراً حتى داخل فنزويلا. ولم تنقضِ سوى ساعات قليلة على تلك الخطوة حتى كانت الإدارة الأميركية تعلن اعترافها بشرعية «الرئيس الجديد»، وتحثّ الدول الأخرى على تأييده، بعدما كانت دبلوماسية واشنطن قد نشطت لدى حلفائها لدفعهم إلى الاعتراف بالشرعية الجديدة وتعميق عزلة مادورو، الذي كانت دول عدة قد رفضت الاعتراف بشرعية ولايته الثانية كرئيس بعد انتخابات العام الماضي.
أوّل المعترفين بـ«الرئيس الجديد»، بعد الولايات المتحدة، كانت كندا وأستراليا ومعظم الدول الوازنة (التي يحكمها اليمين) في أميركا اللاتينية، باستثناء المكسيك التي أعلنت استعدادها لوساطة انتهت مفاعيلها قبل أن تبدأ في لقاء دعت إليه في أوروغواي وشاركت فيه حفنة من «الدول المحايدة».
وفي المقابل، أعلنت كل من روسيا والصين وتركيا دعمها لمادورو، بينما كان الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً من إسبانيا، الدولة الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي الفنزويلي، يتعثّر في اتخاذ موقف موحّد من الاعتراف بغوايدو بسبب من امتناع إيطاليا التي تصرّ حكومتها على «رفض التدخّل في الشؤون الداخلية والامتناع عن محاولات تصدير الديمقراطية». وهكذا، خلال أقل من أسبوع واحد، دخلت الأزمة الفنزويلية نفق التدويل والمواجهة المفتوحة بين نظام يسيطر على كل المؤسسات التنفيذية والعسكرية، و«حكومة افتراضية» لا تملك القدرة على تغيير الواقع السياسي داخل البلاد، ويخشى كثيرون أن تكون مجرّد «رأس حربة» أميركية لمغامرة عسكرية جديدة في المنطقة، التي كادت تشعل أول حرب نووية في العالم مطالع ستينات القرن الماضي.

- «خريطة طريق» غوايدو
لا شك في أن الخطوة التي أقدم عليها خوان غوايدو شكّلت نقلة نوعية مهمة في المسار الطويل للأزمة الفنزويلية. وهو يطعن في شرعيّة الولاية الثانية لنيكولاس مادورو، استناداً إلى كون الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في مايو (أيار) الماضي لم تستوفِ الشروط القانونية اللازمة ومُنِع معظم أحزاب المعارضة من المشاركة فيها، ولأن مادورو لم يقسم يمين الولاء أمام الجمعية الوطنية-كما ينصّ الدستور- بل أمام جمعيّة تأسيسية شُكّلت أخيراً من مؤيدي النظام ومن غير مشاركة المعارضة. واستند غوايدو في خطوته إلى المادة 233 من الدستور التي تلحظ «تولّي رئيس البرلمان رئاسة الجمهورية في حال شغور المنصب»، مقترحاً «خريطة طريق» من ثلاث مراحل للخروج من الأزمة: إنهاء اغتصاب السلطة، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات عامة ورئاسية حرة ونزيهة بإشراف دولي.
لكن «خريطة الطريق» هذه، وبخاصة المرحلة الأخيرة منها، دونها عقبات كثيرة، وتبدو سباقاً طويلاً أمامه حواجز كبيرة قبل بلوغ الهدف النهائي. غوايدو شخصياً يعترف بأن خطته تحتاج إلى سنة كاملة في الأقل لتنفيذها، ناهيك باستحالة توفير الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة تؤمِّن انتقال السلطة على أسس ثابتة ومستقرّة في الظروف الراهنة. وهو يدرك أنه لا يسيطر على أيٍّ من مؤسسات السلطة التنفيذية أو القضائية، وبالأخص، المجلس الوطني لمراقبة الانتخابات والمحكمة العليا التي تدين بالولاء الكامل للنظام. ثم إن الانتخابات الحرة تقتضي وجود حكومة جديدة محايدة تشرف عليها، وهذه تستدعي تنحّي مادورو عن الرئاسة، الأمر الذي يبدو مستحيلاً ما دام يتمتّع بدعم المؤسسة العسكرية، التي ردّت أخيراً على تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب إذا استمرّت بدعمها للنظام، بقولها «إذا أرادوا عزل مادورو بالقوة، فلن يكون ذلك إلّا فوق جثثنا».
ويُذكر أن المعارضة، إدراكاً منها للدور الحاسم الذي يلعبه الجيش في دعم النظام وبقائه، تسعى منذ فترة لاستمالة القيادات العسكرية وإغرائها بالتخلّي عن مادورو وتأييد الشرعية الجديدة، لكن من دون أن تحقق أي نتيجة حتى الآن. ولقد أعلن غوايدو عن «خطة» للعفو الجنائي والإداري والمسلكي تشمل كل الضبّاط الذين يعلنون ولاءهم للشرعية الجديدة، وشنت المعارضة حملة واسعة في أوساط القوات المسلحة والثكنات العسكرية لشرح «خطة العفو»، من غير أن تثمر جهودها عن أي نتيجة. أيضاً، راهنت، لاختبار ولاء المؤسسة العسكرية، على المساعدات الإنسانية لتوزيعها على المواطنين الذين يعانون من نقصٍ حادٍ في الأدوية والمواد الغذائية الأساسية. إلا أنه حتى الساعة ما زالت هذه المساعدات تتكدّس على الحدود الكولومبية التي تحوّلت إلى «جبهة» مواجهة بين النظام-الذي أوفد إليها القوات الخاصة التي يضمن ولاءها كي تمنع دخول المساعدات بالقوة- والمعارضة... التي تحشد مئات الآلاف من المواطنين لتوزيعها رغم رفض النظام.

- شكوك أوروبية
جدير بالذكر أنه بعد فشل وساطة المكسيك وارتفاع حدة المواقف التصعيدية من واشنطن والنظام الفنزويلي، ازداد القلق في عدد من العواصم الأوروبية من الجنوح إلى الحل العسكري «بعدما باتت هذه الأزمة إحدى الأوراق المفضّلة لدى الرئيس الأميركي للتخفيف من الضغوط التي يتعرّض لها على الجبهة الداخلية»، كما جاء على لسان مسؤول أوروبي رفيع، وبعدما بدأت المعارضة الفنزويلية تفقد الأمل في تصديع الجبهة العسكرية الداعمة للنظام.
وفي الأيام الأخيرة اتجهت أنظار المتخوّفين من نشوب حرب أهلية مفتوحة، أو مواجهة عسكرية جديدة في أميركا اللاتينية، إلى الفاتيكان بعدما كان مادورو قد وجّه رسالة إلى البابا فرنسيس يطلب منه التوسط لحل الأزمة. والمعروف أن البابا، وهو يسوعي أرجنتيني قريب من حركة «لاهوت التحرّر» (الميّالة إلى اليسار) التي نشطت في أميركا اللاتينية إبّان ثمانينات القرن الماضي، يتعاطف مع المبادئ الأساسية التي قام عليها النظام الاجتماعي للحركة «التشافيزية»، وله يعود الفضل الكبير في المصالحة التاريخية بين كوبا والولايات المتحدة واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما في أواخر الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ويذكر أن الوزير الحالي لخارجية الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، سبق له أن كان قاصداً رسوليّاً في كاراكاس، وهو مطّلع عن كثب على تطورات الأزمة الفنزويلية.
إلا أن التسريبات الأخيرة لمضمون الرسالة التي ردّ بها البابا فرنسيس على مادورو، ونشرتها إحدى الصحف الإيطالية القريبة من الفاتيكان، قضت على آمال الوساطة التي كان البعض يعوّل على الكنيسة الكاثوليكية كي تقوم بها، ولا سيما بعد تعرّض موقف الفاتيكان لانتقادات كثيرة لرفضه الاعتراف بـ«شرعيّة» غوايدو. وتضمنت الرسالة انتقادات للنظام الفنزويلي لعدم وفائه بالالتزامات والاتفاقات التي سبق التوصّل إليها في المفاوضات التي رعاها الفاتيكان في الجمهورية الدومينيكية بين الطرفين عام 2016.

- الدور المحتمل لـ«يسار» المعارضة
في هذه الأثناء، تنشط الدبلوماسية الأوروبية بعيداً عن الأضواء، بالتنسيق مع الدائرة السياسية في الأمم المتحدة، لتقليص المسافة الفاصلة بين المعارضة اليسارية الفنزويلية التي ترفض تبنّي «خريطة الطريق» الأميركية للخروج من الأزمة، والمعارضة اليمينية التقليدية التي تتحرك ووفق توجيهات واشنطن. ونقطة الانطلاق التوافق على أن حل الأزمة سياسياً يمرّ عبر تفاهم هذين الجانبين على «خريطة طريق» مشتركة لانتقال السلطة ومنع الانجرار إلى مواجهة عسكرية بدأت طبولها تُقرع بقوة أخيراً.
وفي هذا الصدد نذكر أن عدداً من الوزراء وكبار المسؤولين السياسيين السابقين، الذين كانوا مقرّبين من الرئيس الفنزويلي السابق الراحل هوغو تشافيز، ورافقوا خلفه مادورو في مستهلّ ولايته الأولى، فتحوا أخيراً ثغرة للحوار مع رئيس البرلمان لعرض تصورّهم لمرحلة انتقال السلطة السياسية. وأكدوا تأييدهم لإنهاء حكم مادورو مقابل رفضهم الدور الأميركي الذي يوجّه مسار التطورات في الظرف الراهن. وتضمّ هذه المجموعة، المنضوية تحت اسم «منصّة الدفاع عن الدستور»، وزراء سابقين للتربية والتعليم الجامعي والمال والتجارة والخارجية والاقتصاد، إلى جانب عدد من السفراء السابقين وأعضاء مجلس قيادة الحزب الاشتراكي.
هؤلاء ما زالوا يرفضون الاعتراف بـ«شرعية» غوايدو، مع قبولهم به «طرفاً محاوراً شرعيّاً ورئيساً للبرلمان». ويعتبرون أن «مادورو وأد المشروع السياسي الذي وضعه هوغو تشافيز»-على حد قول غوستافو ماركيز، الذي كان مستشاراً سياسياً مقرّباً من تشافيز لسنوات. ويقول ماركيز: «غوايدو يتمتّع بشرعيّة أكثر من مادورو، لكن الاعتراف السياسي بهذه الشرعية لا بد أن يكون عبر صناديق الاقتراع. مادورو يحكم البلاد خارج نطاق الدستور منذ عام 2016، ونحن نسعى منذ سنوات لعزله... ولكن ليس بأي شكل أو ثمن. لذا نرفض كليّاً التدخّل الخارجي. والطريق الذي رسمته الإدارة الأميركية للمعارضة التقليدية ليس مقبولاً بالنسبة إلينا».
من هنا، لم يعد خافياً على المتابعين عن كثب للأزمة الفنزويلية أن دور واشنطن، الذي كان حيويّاً في إخراجها من الركود الذي كانت تعاني منه طوال سنوات، بات مصدر إحراج بالنسبة إلى المعارضة التي تجهد لتنظيم صفوفها وتحركاتها الشعبية منذ فترة طويلة، وصار عائقاً في وجه انفتاحها على الجناح التشافيزي المنشقّ عن مادورو، والذي يعتبر كثيرون أن التعاون والاتفاق معه على خطة مشتركة هو بداية النهاية لنظام مادورو.

- تساؤلات تواكب الانهيار الاجتماعي الكبير
بينما تغرق فنزويلا في حال غير مسبوق من الانهيار الاجتماعي، تؤكد المنظمات الدولية أن ربع مليون شخص مهدّدون بالموت لنقص الأدوية اللازمة لعلاجهم أو تعذّر حصولهم على المواد الغذائية الأساسية. ويضرب المحللون أخماساً بأسداس للإجابة عن التساؤلات التي تدور حولها المخارج المحتملة لهذه الأزمة:
- هل سيصمد ولاء القيادات العسكرية أمام إغراءات المعارضة وتهديدات الولايات المتحدة؟
- ما احتمالات نجاح التمرّد العسكري في صفوف الضبّاط الصغار الذي ما زالت تراهن عليه المعارضة سرّاً؟
- هل بإمكان الجيش، والرئيس نيكولاس مادورو، الصمود طويلاً في وجه الاحتجاجات الشعبية المتواصلة... تحت وطـأة العقوبات الاقتصادية الأخيرة التي تنذر بتجفيف المنابع النقدية للنظام؟
- هل أو متى، سيقرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ومعه فريق «الصقور» الذي يمسك بمفاتيح السياسية الخارجية في واشنطن، ركوب مغامرة عسكرية جديدة في الحديقة الخلفية لواشنطن؟
- هل أو متى، سيقف خوان غوايدو أمام مواطنيه ليقول هذه المرة: استنفدنا كل السبل لحل الأزمة بالطرق السلمية... ولم يعد أمامنا سوى الخيار العسكري؟



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.