سعيدة بنت خاطر: الفضاء النسوي في عمان أكثر رحابة من غيره

الشاعرة العمانية ترى أن الشعر الحالي أعاد «العربية» إلى نصاعتها

سعيدة بنت خاطر
سعيدة بنت خاطر
TT

سعيدة بنت خاطر: الفضاء النسوي في عمان أكثر رحابة من غيره

سعيدة بنت خاطر
سعيدة بنت خاطر

أصدرت الشاعرة العمانية الدكتورة سعيدة بنت خاطر إلى الآن ثماني مجموعات شعرية، منها: «مد في بحر الأعماق»، و«أغنيات للطفولة والخضرة»، و«إليها تحج الحروف»، و«موسومة تحت الجلد»، و«ما زلت أمشي على الماء»، بالإضافة إلى ثماني دراسات نقدية. وهي تحمل شهادة ماجستير عن دراستها «الشعر العماني في عصر النباهتة» ودكتوراه عن أطروحتها «الاغتراب في شعر المرأة الخليجية». هنا حوار معها عن تجربتها الشعرية، والمشهد الثقافي العماني عموما، أجري معها أثناء زيارتها للرياض أخيرا:
* أصدرت أكثر من ثمانية دواوين شعرية، غير أن ديوانك «ما زلت أمشي على الماء» مثل نقلة تحول في تجربتك.. هل تتفقين مع هذا الرأي؟
- ديوان «ما زلت أمشي على الماء»، يقترب من الكتابات الفلسفية قليلا، ويتضح ذلك من خلال اسمه؛ حيث بدأت التجربة بالفعل تأخذ منحى فكريا فلسفيا نوعا ما.
* يلاحظ حشدك صورا كثيفة في شعرك من أبرزها النخلة والجبل.. ما السر في ذلك؟
- أؤمن أنه لا بد أن تكون للمكان بصمته الواضحة في المنتج الإبداعي؛ حيث إنني أحتفي بالمكان، ذلك لأنني ولدت في مكان بحري، فلي عدة قصائد بعنوان «زرقاء»، وهي عبارة عن مدينة في صور. وبلدي عمان زاخر بصور التراث والتاريخ بشكل عام على مدى العصور، ولكن تجدني أحتفي أيضا بالنخلة والجبل بشكل أكثر، ذلك لأنها من السمات العمانية البارزة، فتجدها دائما متغلغلة في أشعاري خلسة من دون أن أدري.
* يبدو أن عودتك إلى صُور العمانية من الكويت بعد إقامة استغرقت 20 عاما فجرت شاعريتك..
- (مقاطعة).. لأن صور بجانب أنها مسقط رأسي، فهي أيضا أصل الحضارة الفينيقية. لقد ارتحل قسم من أهل صور العمانية منها وأسسوا مراكز مختلفة في الخليج، وانتقل قسم آخر إلى جنوب لبنان، وهناك شكلوا مدينة طبق الأصل من صور العمانية سميت «صور» أيضا، ومنها انتشرت الحضارة إلى المدن المجاورة. ومن مميزات هذه المدينة أن أهلها يحبون الترحال وبيئتها بحرية، فكانت ملتقى لتبادل الثقافات؛ مما جعل إنسان تلك البيئة واسع الأفق، كما أنها ذات شخصية طاغية، فحينما يهاجر أحد سكانها تهاجر معه المدينة بشخصيتها. وحينما هاجرنا إلى الكويت هاجرت معنا بلهجتها، وملابسها، واحتفالاتها، وفنونها، وعاداتها، وانتقلت معنا أعداد كبيرة من الصور، فكنا في المهجر وسط أهلنا حتى أطلق على المنطقة التي نسكن فيها «الصوارة»، وهذا شكل شخصيتي العمانية إلى جانب أن والدي غرس فينا الوطنية بشكل مكثف.
* يلاحظ أن المرأة العمانية تحاول البوح عن قضيتها الإنسانية بتحفظ، حالها حال المرأة العربية..
- لا، أبدا. المرأة في عمان لا تعاني من «العنصرة» و«الإسقاط» لا في الماضي ولا في الحاضر، ولا من أي سدود أو معوقات؛ إذ هي حاضرة منذ أمد بعيد، وحاليا نسبة المرأة في التعليم والتعليم العالي متساوية تقريبا مع نسبة الذكور، ونتيجة لذلك، أصبح الفضاء النسوي أكثر رحابة وتنوعا ونضجا.
* وإبداعيا؛ هل نستطيع أن نتحدث عن أدب «نسوي» وآخر «ذكوري»؟
- تظل النسوية موجودة بوصفها خصيصة وسمة من سمات النص الأنثوي، ولكن ليس هناك فاصل بين الأدب النسائي والذكوري؛ إذ ليس الغرض هو التقسيم إلا بمقدار ما يحمل من الخصيصة الأنثوية، ويحمل روح الذكورة في الجانب الآخر.
* بعض الشعراء لجأ إلى كتابة الرواية والقصة.. هل تفكرين في ذلك؟
- أبقى دائما على رأيي أن موقع الشعر يظل راسخا من بين المنتجات الأخرى من الإبداع، ولكن أعتقد أن الرواية تتصدر قائمة الإبداع، ربما من حيث القراءات، أما من حيث الاستماع، فإن الشعر يبقى فاكهة الإبداع القولي، فمثلا على المستوى الشخصي عندما أقرأ رواية أجلس منفردة، ولكن عندما أستمع أو أقرأ شعرا، أحس، بل أجد حقيقة أن هناك روحا جماعية في الشعر فيها نوع من التجاذب والتخاطب بين الشاعر والجمهور، وهي مؤشر بوصلة الشاعر.
* كيف تقيمين المشهد الشعري في عمان؟
- الشعر في عمان متوهج، ومتنوع، ومكثف، وكما يقال: خلف كل صخرة ستجد شاعرا، فعمان بالفطرة شاعرة، وشعراؤها كثر، ومن ليس بشاعر فهو مستمع جيد، ويحمل جينات الشاعرية بداخله، ويتذوقه بنهم. والميزة في المشهد الشعري العماني أنه شديد الثراء والبذخ؛ حيث تجد كل التيارات متواكبة ومتواصلة بعضها مع بعض؛ إذ هناك المدرسة الكلاسيكية، والمدرسة الحداثية، وقصيدة النثر، والقصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، وهناك تجارب جديدة ما بعد الحداثة، وبالتالي، فإن كل التجارب موجودة ومتجانسة.
* تجارب جديدة ما بعد الحداثة؟
- أعتقد أن الميدان الإبداعي يتسع لكل التجليات. وعلى المستوى الشخصي، كتبت القصيدة العمودية، وكتبت قصيدة التفعيلة، وكتبت قصيدة النثر؛ مما يعني أن المجال مفتوح لكل التجارب، والسؤال الذي يطرح نفسه: لما لا نجرب كل هذه المذاهب الشعرية؟ هذا يعني أنه لا يمكن إمالة كفة الغلبة لأي منها؛ إذ قد يوجد الشعر في قصيدة النثر كما هي الحال في القصيدة العمودية الفخمة، فأينما وجدت روح الشعر في أي نفس إبداعي، فإن هناك شعرا، وأينما اختفت الشاعرية، فليس هناك شعر في قالب أيا كان، حيث لا ميزة للأشكال.
* و«الشعر الشبابي» في عمان؟
- الأجيال يرفد بعضها بعضا على الدوام، ولذلك أعتقد أن الشاعر الشاب في عمان محظوظ، فقد استطاع أن يرتكز على أسس متينة سارت عليها الأجيال التي سبقته وأضافت إليها ما يناسب زمانها، ثم أخذ من المحدثين ومن مختلف التيارات الأخرى، مستفيدا من وسائل التواصل الاجتماعي، التي أتاحت له هي الأخرى مجالا كبيرا لتنمية تجربته الشعرية مبكرا، وبالتالي فالإنتاج الشعري الشبابي بخير.
* حضرت عددا من المهرجانات الثقافية العربية.. هل تضيف مثل هذه المهرجانات شيئا للمبدع؟
- كل المهرجانات العربية بلا استثناء تعد فرصة مهمة، فهي تجمع مبدعين من مختلف البلاد العربية؛ الذي من شأنه أن يخلق نوعا مهما من الاحتكاك والتلاقح الفكري والثقافي والإبداعي المطلوب، خصوصا ونحن أمة واحدة تتبادل التجارب الإبداعية والإنسانية. وما يجري على هامش الملتقيات من حوارات وهموم هو برأيي أهم من البرامج المعدة لفعاليات المهرجانات نفسها، ولذلك أكون سعيدة جدا عندما تجمعنا مناسبة مثل مهرجان «الجنادرية» في الرياض، وهو من أهم المهرجانات العربية، أو «أصيلة» في المغرب أو «جرش» بالأردن، وغيرها من المهرجانات العربية الثقافية والفنية.
* ما مشروعك المقبل؟
- حاليا أعد كتابا مهمّا في مسيرتي يتحدث عن الشعر في العصر النبهاني، الذي يعد العصر الذهبي للشعر والفن والعمارة في عمان، وأهمية هذا الكتاب تأتي من أن ذلك العصر لم يجد حظه من الانتشار والمعرفة لدى كثير من العمانيين، لأسباب ربما سياسية أو ربما مذهبية. ويتحدث الكتاب عن أبرز خمسة شعراء في ذلك العصر، ومنهم سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني، وهو ملك شجاع، يقترب في شعره وحياته من تجربة الشاعر الأندلسي الصاحب بن عباد. وكذلك أبو بكر أحمد بن سعيد الخروصي الستالي من بداية شعراء العصر النبهاني، الذي عن طريق شعره أخذنا الكثير من سمات العصر في ظل غياب التاريخ والأدلة والشواهد. وأيضا الشاعر موسى بن حسين بن شوال الذي يلقب بـ«الكيزاوي»، لعذوبة شعره، الذي يشبه رائحة الكيزاوي (زهرة فواحة لنبات عطري)، بالإضافة إلى الشاعر اللواح الخروصي، الذي يمتاز شعره بقيمة تاريخية، وهو لم يكن شاعرا فحسب، بل كان لغويا، وفقيها، وعارفا أيضا، وتتجلى لنا مشاعره في عذوبة ألفاظه الرائعة البليغة التي تبرز شخصيته المرهفة.
* كيف وجدت الفرق بين ذلك العصر والعصر الحاضر شعريا؟
- لعل ما يميز شعر هذا العصر، أنه استطاع الإفلات من ظاهرة الضعف اللغوي التي كانت سائدة آنذاك في الشعر العربي. كتابي يغطي الفترة من القرن الخامس الهجري وحتى القرن الحادي عشر الهجري، على مدى ستة قرون هجرية، وفي هذه الفترة ساد في البلاد والعواصم العربية والحواضر المهمة، مثل: بغداد، والقاهرة، ودمشق، نوع من التلاعب اللفظي والمحسنات والزخارف، فضاعت القيمة الفنية للشعر. وميزة هذا العصر أنه بث الروح في اللغة العربية، وعاد بها إلى متانتها وقوتها ونصاعتها التي كانت عليها في العصر الجاهلي.



حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب
TT

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

سافرت عام 2012 ورجعت إلى دمشق، وكانت المظاهرات والاحتجاجات تعم المدن السورية والقرى وأنا أعيش في دمشق أحاول أن أساعد بجهد شخصي أبناء الريف المتضرر والمحاصر، فهناك الكثير من المهنيين والمعارف الذين تضرروا وبحاجة لكثير من الطعام والمستلزمات. كنت أحملها بسيارتي وأحمل معها روحي وأمضي وفي رأسي سيناريوهات العالم كلها. أحضر أجوبة على كل احتمالات الحواجز والشبيحة وعناصر الأمن، عما كنت أكتب بحس ساخر على فيس بوك وأناهض الفساد والقتل. أنا امرأة متمردة بطبعي على الظلم وأمشي عكس التيار، أعشق الحرية والسفر لأعود إلى بلدي بشوق أكثر. هناك تحديات كثيرة كانت أمامنا في بلد كل زاوية فيها حاجز أمني وشبيحة. كانت رعاية ملائكية تنقذني دوماً من رش للرصاص على سيارتي في حاجز حرستا ووضع عبوة ناسفة قرب سيارتي أمام بيتي بعد أن نزلت منها، وتصويب البندقية عليَّ في تأبين باسل شحادة. هربت بأعجوبة. هذه ليست بطولات أرويها ولكن كان حماساً وواجباً علي. ويوماً كنت على حدود لبنان للسفر إلى المغرب لإقامة معرض. أخذوني من الحدود وبدأت التحقيقات معي عن كتاباتي على صفحتي بفيسبوك. وانتهى التحقيق بالتوقيع على ورقة بعدم كتابة أي شيء. وفي اليوم التالي أُلغي منع السفر. وعندما عدت استدعوني مرة أخرى. قلت للمحقق ضاحكة لم أكتب شي مثل ماوعدتكم، فقال لي: رسمتِ. لقد شاهد لوحة فيها قطعة ممزقة من كلمة الثورة التي على الجريدة، فأجبته باستغباء: هذه الجريدة الوطنية ليش ممنوع نحطها، فقال لي: أعرف ما تريدين أن تقولي مع هذه الشخبرة. يصف لوحاتي بـ«الشخابير».

ثم قال لي: نريدك أن ترسمي لنا صورة المعلم، فقلت له: أنا أرسم مناظر وزهوراً لا أرسم حيوانات ولا بشراً واسأل عني مرة باسل الأسد فقد طلب مني ومن مجموعة من الفنانين رسم أحصنته فرفضت لأني لا أعرف، فأجابني: لا أنت فنانة قديرة رح ترسميها فقلت له سأحاول سأطلب من أحد يجيد رسم البورتريه، فقال لي: لا أنت يجب أن ترسميها وتوقعي عليها اسمك.

بقيت أشهراً أماطل ويسألني دائماً على الهاتف: ما خلصتِ، ألاقي الأعذار كل مرة بالكهرباء والتدفئة وعدم جفاف الألوان بالبرد. كنت أنام وأصحو في رعب وسخرية أيضاً. أحياناً أفكر أن أرسم حماراً وفوقه أرسم صورته بألوان تزال بالماء وأرسلها بعد أن أخرج من البلد مع رسالة «امسح الصورة تجد المعلم». المهم كان هذا مسلياً لي في أوقات القلق والتوتر إلى أن قدمت استقالتي من عملي وطلبت من الأمن موافقة أمنية للسفر لمرة واحدة قبل انتهاء الفيزا، وحصلت عليها.

قبل يومين من تحرير حلب كنت في حالة شوق مكبوت لسوريا، وأتمنى بشدةٍ العودة. وكنت أحاول أن أقنع نفسي بأن وضعي في أميركا جيد وصرت مواطنة أميركية وعندي جواز سفر مثل جناحين أطير به بين البلدان بكل سلاسة. وأقنعت نفسي من أول يوم أتيت إلى شيكاغو أنني سأبدأ حياة جديدة وتناسيت بيتي بالشام ومرسمي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي الذين لم يبق منهم إلا القليل في دمشق. أخوتي قاطعتهم لاختلافي معهم في المبدأ فقد كانوا يقفون مع النظام.

وزاد فقداني لابني الذي قُتل عام 2014 كرهاً لتلك البلاد التي لفظتنا ولم تقدم لنا إلا العنف والنبذ والقتل والتهميش. أنا قدمت الكثير لسوريا، وكنت أقوم بأعمال تطوعية مع الأطفال والشباب لتأجيج روح الفن والحب والحياة والحرية. كنت أعيش مع أجيال متتابعة في عملي معلمة فنون في مدارس سوريا ومعاهدها وجامعاتها.

تحرير حلب كان فرحاً مشوباً بالخوف... أتابع ليل نهار كل وسائل التواصل. لم أعد أنام. عاد الأدرنالين للصعود مثل بدايات الثورة عام 2011 والترقب والحماس، وكنت أقول لنفسي إن لم يصلوا إلى دمشق لن أفرح. كنت ذلك اليوم أبكي، ولم أخرج إلى الشارع لأن دموعي كانت لا تتوقف.

فجأة الحلم عاد، واليأس اختفى، وصار عنا مستقبل مختلف. صار عندي وطن أعود إليه مع أبنائي وأحفادي. صار عندي أمل أعود لأعرف أين قتل ابني وأين رفاته، أعود لأقبل بناته حفيداتي اللاتي لم أرهن منذ سافرت.

* فنانة تشكيلية