الكشف عن علاقة مخيفة بين البدانة والسرطان لدى الأجيال الشابة

زيادة معدلات البدانة تهدد غالبية سكان العالم (أ.ف.ب)
زيادة معدلات البدانة تهدد غالبية سكان العالم (أ.ف.ب)
TT

الكشف عن علاقة مخيفة بين البدانة والسرطان لدى الأجيال الشابة

زيادة معدلات البدانة تهدد غالبية سكان العالم (أ.ف.ب)
زيادة معدلات البدانة تهدد غالبية سكان العالم (أ.ف.ب)

تجمع أغلب الاستطلاعات والدراسات على أن ما يعرف بـال«ـMillennials» أو «جيل الألفية»، الذي ولد خلال الفترة ما بين عقد الثمانينات وبداية الألفية الجديدة، يعد من الأقل حظاً، وذلك رغم كل ما تتوفر له من أدوات تكنولوجية وفرص مختلفة لم تتوفر للأجيال السابقة عليه. فوفقاً لدراسة جديدة كشفت عنها «الجمعية الأميركية للأمراض السرطانية»، فقد تم رصد ارتفاع واضح في معدلات الإصابة بالسرطان المرتبط بالبدانة في أوساط الأجيال الأصغر سنا.
وركزت الدراسة التي أفرد لها تقرير نشره موقع «سي إن إن» الإخباري الأميركي، على مراجعة المعلومات المتوفرة حول 12 مرضا سرطانيا لها علاقة مباشرة بالبدانة، بالإضافة إلى 18 مرضا سرطانيا أخرى لا علاقة تربطها بزيادة الوزن. وانتهت الدراسة إلى أن هناك زيادة واضحة في معدلات الإصابة بالسرطان بين الفئات العمرية التي تتراوح بين 24 و49.
وفي تعليقه، أوضح أحمدين جمال، أحد المشاركين في وضع الدراسة ونائب رئيس «برنامج أبحاث الرقابة والخدمات الصحية»، التابع لـ«المعهد الأميركي للسرطان»، أن احتمالية الإصابة بالسرطان المرتبط بالبدانة باتت مرتفعة في أوساط الشباب البالغ. ولكنه حذر من ارتفاع أوضح في معدلات الإصابة بين الأجيال الأصغر سنا.
ووفقا لجمال: «تعد الدراسة تحذيرا حول العبء المزداد والمتمثل في أمراض السرطان المرتبطة بالبدانة، وذلك بالنسبة لمن سيتم تصنيفهم على أنهم شباب بالغ خلال السنوات القليلة المقبلة». وتزداد المسألة خطورة وفقا لتحذير جمال من «التوقف أو التراجع المحتمل للتقدم الذي تم إحرازه فيما يتعلق بخفض معدلات الوفاة المرتبطة بالسرطان على مدار العقود الأخيرة».
وتبدو التحذيرات منطقية بالاطلاع على مزيد من تفاصيل الدراسة التي تؤكد زيادة واضحة في معدلات الإصابة بستة أمراض سرطانية ذات علاقة بالبدانة، وذلك في أوساط الأجيال الأصغر سنا. وتعدد الدراسة هذه الأمراض بسرطان القولون، وسرطان بطانة الرحم، وسرطان المرارة، وسرطان الكلى، وسرطان البنكرياس، وأورام النخاع المتعددة، وسرطان النخاع العظمي.
في العادة، كانت هذه الأمراض السرطانية تظهر بين أصحاب الأعمار المتقدمة، وتحديدا الذين تتراوح أعمارهم بين الستينات والسبعينات من العمر، ولكن الدراسة الجديدة كشفت عن زيادة في الإصابة بهذه الأمراض في أوساط الأجيال الأصغر وتحديدا من مواليد الألفية. فسرطان البنكرياس، على سبيل المثال، تتجاوز أعمار مرضاه في العادة سن الـ65 عاما، ولكن الدراسة الجديدة، كشفت عن متوسط للزيادة السنوية في الإصابات به وسط أصحاب الأعمار التي تتراوح بين 25 و29 عاما، وذلك بمعدل بلغ 4.34 في المائة. أما متوسط الزيادة السنوية للإصابة به في أوساط المتراوحة أعمارهم بين 30 و34، فقد بلغ 2.47 في المائة. ويتراجع متوسط الزيادة السنوي إلى 1.31 في المائة لمن تتراوح أعمارهم بين 35 و39 عاما. ويتراجع أكثر فأكثر إلى 0.72 في المائة بالنسبة لمن تتراوح أعمارهم بين 40 و44 عاما.
وبشكل إجمالي، فإن الدراسة أكدت أن معدل خطر الإصابة بسرطانات القولون، وبطانة الرحم، والبنكرياس، والمرارة، تضاعفت في أوساط أبناء الألفية على معدلاته بين الشباب من الجيل المولود بين عامي 1946 و1964. لكن الدراسة نفسها تحمل بعض الأخبار الجيدة، فبالمقابل، تراجعت، أو على الأقل استقرت، معدلات الإصابة بين الأجيال الأصغر بالسرطانات التي ليست لها علاقة بالبدانة، وتحديدا الإصابات السرطانية المتعلقة بالتدخين، والإصابات السرطانية المتعلقة بأنواع عدوى بعينها. أما أنواع السرطان التي لا علاقة لها بالبدانة، ولكنها شهدت زيادة في أوساط أبناء جيل الألفية، فهي سرطان الجهاز الهضمي، وسرطان الدم أو «اللوكيميا».
ولكن في تعليقه، حذر دكتور جورج تشانج، من «مركز آندرسون الطبي للسرطان»، من التعامل مع نتائج الدراسة بأسلوب التعميم. وأوضح أن هناك عوامل كثيرة ترتبط بكل من البدانة والسرطان، مثل العزوف عن التدريبات الرياضية، أو اتباع نظام غذائي غير مناسب، قبل أن يؤكد: «من غير الواضح مدى إسهام أي من هذه العوامل في الإصابة بالسرطان».
بخلاف المخاوف المرتبطة برفع معدلات الإصابة بالسرطان، فإن الواقع الذي تدعمه التقديرات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، يؤكد أن معدلات الإصابة بـ«البدانة» قد بلغت مستويات «وبائية» على مستوى العالم. وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من مليار شخص بالغ على مستوى العالم يعانون من زيادة الوزن، وأن 300 مليون من بينهم مصنفون طبياً «مرضى بدانة». أما جيل الألفية الجديدة تحديدا، ففي سبيلهم ليصبحوا أحد أكثر الأجيال بدانة تاريخيا.
لكن الأزمة الكبرى هي غياب الإدراك، وذلك وفقا لطبيب الأورام ناثان بيرجير، بجامعة «كيث ويسترن ريسيرف»، الذي أكد في تعليقه على دراسة «الجمعية الأميركية للأمراض السرطانية»: «لا أعتقد أن الرأي العام إجمالا يدرك العلاقة بين البدانة والإصابة بالسرطان».
لكن ما طبيعة العلاقة بين البدانة والإصابة بالسرطان؟ تقوم الخلايا الدهنية بما هو أكثر من تخزين السعرات الحرارية الزائدة بالجسم؛ فهي تقوم أيضا بإفراز هرمونات مثل الحامض الدهني والبروتينات التي تؤثر على عملية التمثيل الغذائي ووزن الجسم والوظائف التناسلية. ويعكف العلم حاليا على اكتشاف كيف تساهم هذه الهرمونات في الإصابة بأنواع محددة من السرطان.
فوفقا لدكتور بيرجير، الذي يدير معملا طبيا يدرس البدانة والسرطان، فإن إحدى النظريات ترجح أن يكون هناك توافق بين بعض هذه الهرمونات التي تنبعث من الخلايا الدهنية، والمستقبلات في أنواع معينة من السرطان دون غيرها، وبالتالي يتم تحفيز الورم على النمو وذلك بالنسبة لأنواع السرطان المتوافقة. وبعيدا عن طبيعة الرابط وطريقة نشوئه، فإن العلم يؤكد أن الصلة فعلية.


مقالات ذات صلة

صحتك الجلوس لأكثر من 10 ساعات يومياً قد يزيد خطر الإصابة بقصور القلب (رويترز)

الجلوس لفترة طويلة يضر بالقلب حتى مع ممارسة الرياضة

حذرت دراسة جديدة من أن الجلوس لأكثر من 10 ساعات يومياً قد يزيد من خطر الإصابة بقصور القلب حتى بين أولئك الذين يمارسون الرياضة بانتظام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك استخدام الذكاء الاصطناعي للقيام بالكشف الأولي على المريض يمكن أن يؤدي للكشف عن كسور بالعظام قد يغفل عنها الإنسان (أ.ف.ب)

4 طرق لتحسين الرعاية الصحية بواسطة الذكاء الاصطناعي

يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة على تحقيق ثورة في الرعاية الصحية العالمية، خصوصاً مع وجود 4.5 مليار شخص لا يستطيعون الحصول على خدمات الرعاية الصحية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك شعار برنامج الدردشة الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي «شات جي بي تي» (رويترز)

دراسة: «شات جي بي تي» يتفوق على الأطباء في تشخيص الأمراض

كشفت دراسة علمية جديدة، عن أن روبوت الدردشة الذكي الشهير «شات جي بي تي» يتفوق على الأطباء في تشخيص الأمراض؛ الأمر الذي وصفه فريق الدراسة بأنه «صادم».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك رحلة إنقاص الوزن ليست سهلة وتحتاج المزيد من الصبر والمثابرة (أرشيفية - رويترز)

أيهما أفضل لفقدان الوزن... تناول وجبات قليلة أم الصيام المتقطع؟

هناك عدة طرق يتبعها من يريد إنقاص وزنه. فأي الطرق أكثر فاعلية؟


فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخه

فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)
فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)
TT

فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخه

فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)
فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)

تحوّل الاحتفال بعيد ميلاد فيروز منذ سنوات إلى تقليد راسخ يتجدّد يوم 21 نوفمبر (تشرين الثاني)، حيث تنشغل وسائل الإعلام في مختلف فروعها بهذه المناسبة، بالتزامن مع انشغال وسائل التواصل الاجتماعي بها في حال من الهوس الجماعي. تشهد هذه الاحتفالية المتجدّدة لتعاظم حضور فيروز في لبنان كما في سائر أنحاء العالم العربي، وتؤكد تحوّل اسمها إلى ظاهرة حية عابرة للأجيال وللأعمار، رغم احتجابها بشكل شبه كامل عن الأنظار. من جهة أخرى، يثير هذا الاحتفال السنوي أكثر من سؤال، ويعكس الغموض الذي يلف سيرة فيروز في وجهيها الشخصي والفني، منذ مرحلة البدايات الأولى إلى يومنا هذا.

«ولدت في يومٍ لا تذكر تاريخه»

تقول السيرة الأكثر شيوعاً إن فيروز وُلدت يوم 21 نوفمبر 1935، غير أن الأوراق الثبوتية تقول بشكل لا لبس فيه إن نهاد وديع حداد وُلدت في 20 نوفمبر 1934. في حديث إذاعي أجرته الإذاعة المصرية يعود إلى شتاء 1955، تقول النجمة الشابة إنها في العشرين من عمرها، مما يوحي بأنها من مواليد 1935. وفي تقرير أعدّه محمد سيد شوشه عام 1956، نشر في كتيّب من سلسلة «أنغام من الشرق»، حمل عنوان «فيروز المطربة الخجول»، نقرأ في المقدّمة: «اسمها فيروز، وإنما هي نهاد وديع حداد. لا تتجاوز من العمر الحادية والعشرين، فقد وُلدت في بيروت في يوم لا تذكر تاريخه من عام 1935». في المقابل، نقع على حديث مع فيروز نُشر في مجلة «العروسة» في مايو (أيار) 1957، مع مقدمة تقول: «مولودة في بيروت عام 1934، بس مش عارفة في أي يوم»، مما يوحي بأنها وُلدت في يوم ما من عام 1934، وبأن ولادتها سُجّلت رسمياً في يوم 20 نوفمبر.

فيروز في صورة غير مؤرّخة من أيام الصبا (أرشيف محمود الزيباوي)

فيروز سبقت نهاد

من المفارقات الغريبة، أن اسم فيروز ظهر للمرة الأولى في فبراير (شباط) 1950، فيما لم يظهر اسم نهاد حداد إلا في مطلع عام 1952، كما تكشف المراجعة المتأنية للصحافة التي رافقت دخول فيروز إلى عالم الفن وخطواتها الأولى في هذا المجال. يعكس هذا الظهور المتأخر للاسم الحقيقي، احتجاب صاحبته منذ البدء وراء الاسم الفني الذي عُرفت به. ظهر اسم فيروز للمرة الأولى تحديداً في خبر قصير من بضعة أسطر نُشر في 19 فبراير 1950 تحت عنوان «صوت جديد» في مجلة «الإذاعة»، وهي مجلة خاصة كان يديرها صحافي يُدعى فايق خوري. جاء في هذا الخبر: «قال لنا الأستاذ حليم الرومي إنه اكتشف صوتاً جديداً، يُعتبر من أعذب الأصوات الغنائية التي سمعها في لبنان، وقد أطلق على صاحبته اسم فيروز، وسيقدّمها في برامج محطة الإذاعة اللبنانية بعد أن سهر على تربية حنجرتها وتهذيبها وتهيئة ألحان خاصة بها». جاء حليم الرومي من قبرص إلى لبنان في مطلع 1950، حيث شغل منصب مدير القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية، وأعلن عند انطلاقه في هذا العمل، اكتشافه صوتاً جديداً أطلق على صاحبته اسم فيروز، وقدّم اكتشافه في أغنية باللهجة المصرية من كلمات منير عوض عنوانها «تركت قلبي وطاوعت حبك»، بُثّت في 24 فبراير 1950، كما تشير إلى ذلك جداول برامج الإذاعة المنشورة في المجلات التي تعود إلى تلك الحقبة.

أولى الأغاني

شكّلت «تركت قلبي» بداية لمسيرة فيروز بوصفها مطربة «سولو»، أي منفردة، في فبراير 1950. في الشهر التالي، أدّت أغاني من النوع الذي يوصف بـ«الأغاني الراقصة» ضمن «ركن الشباب»، وكانت من تلحين جورج فرح، وهو موسيقي لبناني عمل طويلاً في الإذاعة، إلى جانب عمله في المعهد الموسيقي الوطني. وفي مايو، أدت «يا حمام يا مروح بلدك» من كلمات فتحي قورة وتلحين حليم الرومي، وهي أغنية من اللون المصري، نعرفها بسبب صدورها على أسطوانة بعد عامين. تواصلت هذه الرحلة، وأثمرت أغاني عدة، منها «رومبا عطشان» في يوليو (تموز)، ثم «رومبا عيون» في أغسطس (آب)، ضمن «ركن الشباب» مع جورج فرح.

في أغسطس نفسه، غنت فيروز «نشيد المهاجرين» من تلحين جورج ضاهر، وهو ملحن لم يستمر طويلاً في العمل الإذاعي كما يبدو، وأدّت معه محاورة. تحدثت مجلة «الإذاعة» عن هذا العمل، وامتدحت غناء فيروز، وقالت إنه «كان جميلاً، وفيه قوة وروعة»، وانتقدت أداء جورج ضاهر، «لأن صوته ضعيف»، ورأت «أن اشتراك فيروز في إنشاد هذا اللحن كان عاملاً أساسياً لنجاحه». ردّ الملحّن على هذا النقد، وقال إن التنويه بغناء فيروز «اعتراف واضح بأن الألحان قد نجحت»، فهو من «وجّه الآنسة فيروز على هذا الضبط في الغناء والأداء، ولم يكن أحد ليلمس أو يسمع مثل ذلك من الآنسة فيروز نفسها قبل هذا التدريب والتوجيه»، «ولو لم يرَ صلاحية الآنسة فيروز لمثل هذه الألحان لما انتخبها من الكورس الذي في الإذاعة».

قدّمت فيروز في نهاية أغسطس من تلحين جورج ضاهر، أغنية من مقام البياتي، مطلعها «يا قلب حاج تنوح»، وأغنية من مقام العجم، مطلعها «نحن البنات اللبنانيات»، ورأى ناقد مجلة «الإذاعة» أن فيروز لم تنجح في أداء اللحن الأول، لأن صوتها غريب عن هذا اللون في الغناء، غير أنها أجادت في الأغنية الثانية، «لأن اللحن وافق صوتها اللامع، فقادته حتى النهاية بجهد مشكور». واصلت فيروز العمل مع جورج فرح وجورج ضاهر ضمن «ركن الشباب»، وقدمت حوارية غنائية عنوانها «أين أنت» مع مغنٍّ يُدعى كلوفيس الحاج، وحوارية عنوانها «سامبا الكروم» مع مغنٍّ آخر يُدعى جورج عازار. ولا نجد في محفوظات الإذاعة اليوم أي أثر لهذا النتاج الفيروزي المبكر.

«حنجرة بعيدة المدى»

في مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، نشرت «الإذاعة» تعليقاً حمل عنوان «كورس الإذاعة مدرسة حديثة للمواهب»، وقالت إن هذا الكورس «يضمّ أربع آنسات هنّ ليلى صعيدي، وكروان، وفيروز، وآمال»، وأضافت: «ومن هذا الكورس تخرجت مطربات وبرز مطربون. ومن بين المطربات اللواتي يُرشّحن الآن للتخرج في الكورس، المطربة الناشئة فيروز، التي تملك حنجرة بعيدة المدى، وهي تؤدّي جميع الألوان الغنائية ببراعة، فتراها تؤدي التانغو والفالس بالسهولة نفسها التي تنشد بها الموشحات الأندلسية». ويتّضح من هذا الكلام أن فيروز دخلت الإذاعة كـ «مردّدة» في كورس نسائي مؤلف من أربعة أصوات، وانطلقت سريعاً بصفتها مغنية «سولو» إلى جانب هذا العمل.

تكرّر هذا التنويه بالمغنية الناشئة في نهاية أكتوبر حين نشرت المجلة مقالاً تحت عنوان «فنانات الغد»، تحدّث فيه محمد بديع سربيه عن عدد من المغنيات، وختم بالقول: «أما صوت فيروز الشجي المطرب الذي نسمعه دوماً في حفلات الإذاعة فهو صوت سوف يأخذ مكانته في القريب العاجل بين أحسن الأصوات الغنائية في لبنان».

فيروز مع حليم الرومي وسط عدد من العاملين في القسم الموسيقي الخاص بالإذاعة اللبنانية مطلع الخمسينات (أرشيف محمود الزيباوي)

شراكة تدريجيّة مع عاصي ومنصور

عملت فيروز في الإذاعة ضمن الكورس ومغنية منفردة، وجمعها هذا العمل بالأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذَين سبقاها في الدخول إلى هذا الحقل. وُظّف عاصي في الإذاعة اللبنانية بصفته عازف كمان وملحّناً في شتاء 1948، وعمل منصور معه منذ البداية، كما تشهد مراجعة المجلات الإذاعية. يظهر اسم الرحباني في جداول البرامج الإذاعية منذ مارس (آذار) 1948، ثم يظهر اسم «فرقة الرحباني في أغان منوعة». يتحول هذا الموعد إلى برنامج أسبوعي في الموعد الصباحي نفسه تقريباً.

يتردد ذكر اسم الرحباني في جداول البرامج في عام 1949، واللافت هنا تحوّل اسم الفرقة إلى «ثلاثي رحباني» في بعض الأحيان، بالتزامن مع دخول اسم المطربة نجوى، وهو الاسم الفني الذي عُرفت به سلوى الرحباني، شقيقة عاصي ومنصور. يغيب اسم «الأخوان رحباني» عن الجداول، لكنه يحضر مع نصوص الأغاني الرحبانية التي نشرتها مجلة «الإذاعة»، مما يعني أن عاصي ومنصور اعتمدا هذا الاسم الجامع منذ البداية. بدأ مشوار فيروز مع الأخوين رحباني من خلال عملها في الكورس الإذاعي على الأرجح، وتحوّلت هذه المشاركة إلى شراكة عضوية تدريجياً، وليس تلقائياً، كما يُردّد اليوم.

أشار حليم الرومي إلى هذا التحول في مقال نشره في مجلة «الإذاعة» في أكتوبر 1954، حيث استعاد قصة اكتشافه لفيروز، وكتب في الختام: «من غريب الصدف أني لما قدّمتها للزميل عاصي الرحباني لتشترك معه في البرامج الغنائية الراقصة على وجه التخصيص، قال لي بالحرف الواحد (إن هذا الصوت لا يصلح للأغاني الراقصة وقد يصلح للأغاني الخفيفة فقط). وتدور الأيام وتصبح فيروز أقدر وأنجح مطربة للأغاني الراقصة، ويصبح كيان الرحباني الفني قائماً على هذا الصوت وحده، بشهادة عاصي الرحباني نفسه».

«لا تصلح للغناء»

في المقابل، يروي عاصي الرحباني في حديث نقلته مجلة «أهل الفن» في مايو 1955: «كنت أقوم بإعداد برامج موسيقية غنائية للإذاعة، وفي يوم دعاني حليم الرومي رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتاباً، ومعها أبوها، وسمعت صوتاً وقلت (لا بأس)، إلا أنني آمنت أنها لا تصلح للغناء. وقال أخي إنها لا تصلح إطلاقاً للغناء الراقص. وبدأت أعلّمها فكانت أحسن من غنّى هذا اللون». وفي حديث يعود إلى عام 1956 نقله صاحب كتيّب «فيروز المطربة الخجول»، يقول عاصي إنه استمع إلى صوتها عند دخولها الإذاعة، وأبدى ملاحظة على لفظها، ورأى أنه يحتاج إلى الصقل. ويضيف: «منذ ذلك الوقت بدأت أسند إليها بعض الأدوار في البرامج التي كنت أقدمها من الإذاعة اللبنانية، فلمست فيها مواهب نادرة في حسن الأداء وسرعة الحفظ بلا خطأ».

فيروز مع عاصي الرحباني وحليم الرومي ويظهر في الطرف منصور الرحباني وفي الخلف أحد العاملين في الإذاعة اللبنانية (أرشيف محمود الزيباوي)

بدأ دخول فيروز بصفتها مغنية «سولو» في الأعمال الرحبانية في خريف 1950 على الأرجح، وتمثّل ذلك في أغنية «صباحية» عنوانها «جناتنا»، غير أنها استمرت في نشاطها «المستقل» في تلك الفترة، كما استمر الأخوان رحباني في نشاطهما المعهود. توطّد التعاون بين الأخوين والمغنية الناشئة خلال الأشهر التالية، حيث حلّت فيروز مكان شقيقتهما سلوى، وتحوّلت إلى ركن أساسي في فرقتهما.

إلى جانب نشاطها في هذا الإطار، تعاونت فيروز ضمن عملها في الإذاعة اللبنانية مع الملحنين المعتمدين في هذه المحطة، ومنهم خالد أبو النصر الذي غنت من تلحينه أبياتاً مختارة من قصيدة «يا أيها الشادي» للشاعر المَهجري إيليا أبو ماضي. وتقلّص هذا التعاون تدريجياً في السنوات التالية.

شريكة المغامرة الرحبانية

مع عاصي ومنصور، دخلت فيروز محطة «الشرق الأدنى» التابعة للإذاعة البريطانية، وحظيت معهما برعاية صبري الشريف، مراقب البرامج الموسيقية والغنائية في هذه المحطة، الذي تبنّى المغامرة الرحبانية باكراً منذ 1949. دخلت هذه المغامرة في منعطف جديد حين تبناها بدوره مدير الإذاعة السورية أحمد عسّه في خريف 1951، وأولاها اهتماماً خاصاً، كما تشهد سلسلة من التسجيلات المتنوعة من محفوظات هذه الإذاعة، تمثّل اليوم ما بقي من نتاج الأخوين رحباني الأول مع فيروز.

من المفارقات المثيرة للعجب، أن صوت فيروز شاع في تلك الفترة المبكرة من خلال ثلاث محطات إذاعية، وتردّد الاسم الفني الذي عُرفت به صاحبته في الصحافة، غير أن اسمها الحقيقي لم يُذكر إطلاقاً كما يبدو، واللافت أن وجهها ظلّ محتجباً بشكل كامل على مدى ما يقارب السنتين، إلى أن نشرت مجلة «الصياد» أول صورة لهذا الوجه في 13 ديسمبر (كانون الأول)، وذلك ضمن ركن أسبوعي صغير في صفحة «أهل الفن» يحمل عنوان «أرشيف الفن»، ضمّ كذلك تعليقاً مثيراً يشير للمرة الأولى إلى وضع فيروز الاجتماعي.