علي حسين يصطحب الكتب إلى الحياة

كتّاب شكلت آثارهم وكتبهم عتبات تأسيسية في تاريخ ثقافتنا وقراءاتنا

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

علي حسين يصطحب الكتب إلى الحياة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

عالم الكتب هو عالم موجوداتٍ من نوعٍ آخر، فهو يضم حيواتٍ، ووقائعَ وأسرارا، مثلما هو عالم للأشباح والمسوخ والعشاق والثوار والطغاة، وهذا التوصيف يضع فاعلية قراءة الكتاب بمستوى تأليفه، على مستوى التعريف بتلك الموجودات، وفضح ما هو مضمر في أنساق مسكوتاتها، ومقموعاتها، أو على مستوى مقاربة التاريخ الذي لم يبق منه سوى الأثر المدسوس بين تلك الكتب والوثائق والسير.
كتاب (في صحبة الكتب) هو الإصدار الجديد للباحث والناقد علي حسين - دار أثر للنشر والتوزيع- الدمام في المملكة العربية السعودية، ودار الكتب العلمية للطباعة والنشر- بغداد 2018، والذي حاول فيها الباحث السوح في عالم الكتب، تقصيا لأثرها، وتعريفا بمنجزها ووجودها، وتأسيس لما يمكن تسميته بـ«المكتبة المقروءة».
ليس هذا الكتاب نقديا، ولا علاقة له بمقاربة الكتب المقروءة على وفق مناهج أو أفكار نقدية نظرية أو إجرائية، بقدر ما اكتفى فيه المؤلف بدور «القارئ العمدة» كما سماه ريفاتير، وهذه التسمية الفائقة، والأخلاقية هي توصيف لحضور هذا القارئ الماكر، والذي لا يقل خطورة عن القارئ النقدي.
لم يختر الباحث كتبا محددة، بل اختار أسماء كتّاب شكلت آثارهم وكتبهم عتبات تأسيسية في تاريخ ثقافتنا وقراءاتنا، إذ وضع تلك الكتب المختارة في سياق التعريف بأهميتها، وبطبيعة الأثر التي جعل من هذه الكتب والآثار وكأنها لحظات مفصلية في التاريخ الثقافي الإنساني، وعتبات لعالم مفارق من خلال قيمتها الفنية والخطابية، مثلما احتفى بسرائر مؤلفي هذه الكتب، بحياتهم، وبالأحداث التي عاشوا قلقها وصراعاتها وأحلامها، ولا شك أنها لا تنفصل في علائقها عن قيمة الأثر التي تركته كتبهم في الذاكرة وفي التاريخ.

القراءة ومجاورة الخطر
ضمّ الكتاب مقدمة تعريفية للكتب التي قرأها واصطحبها للمتعة، أو الكتب التي حيرته وأثارت دهشته، مع ثلاثين مبحثا مقاليا هي مباحث للكتب التي استدعاها المؤلف، بوصفها «النصوص المقروءة» التي اختارها المؤلف كممارسة في التعبير عن اللذة الشخصية، أو في سحر مجاورتها، بوصفها نصوصاً خطرة في صراحتها، وفي جرأتها أو في سحرها وفي عمق أفكارها، فقراءة كتاب «المليونير الصعلوك» للباحث كمال الملاخ عن عوالم ويوميات وتحولات حياة بيكاسو، وسلفادور دالي لا يقل شأنا في فعل القراءة المثيرة عن رواية «الغثيان» لجان بول سارتر، وعن كتاب «الإنسان المتمرد» ورواية «الغريب» وكتاب «أسطورة سيزيف» لكامو، فكل هذه الكتب - كما يرى المؤلف القارئ - تُثير المتعة، وتستدعي الأسئلة الكبرى، أسئلة الوعي، والتغيير والتحول والتمرد واللاجدوى، مثلما تضع لعبة القراءة تلك، في سياق التعرّف على قوة الأفكار الفائقة، والتي جعلت من تلك الكتب وجها آخر للتاريخ الذي نندفع لقراءته بحثا عن «الحقيقة» أو عن السر الذي أدهش به أبطال تلك الكتب العالم الذي غيروا كثيرا من قيمه.
العلاقة مع الكتاب المقروء هي علاقة مع حيوات متعددة، مع المؤلف والمترجم والشخصيات السردية، إذ عبر هذه العلاقات تتضح كثير من سرائر حمولات تلك القراءة، فكتاب «الصخب والعنف» لفوكنر، وبترجمة جبرا إبراهيم جبرا، يدفع بالمؤلف القارئ إلى ما يشبه صدمة القراءة، ويضعه عند أفق معرفي وتاريخي، وإلى أعماق وأسرار عاش هواجسها المترجم وهو يقارب ترجمة كتاب عملاق مثل هذا، وكذلك كتب جيمس جويس، وكتب ماركيز حيث تتحول القراءة إلى طقس في التعرّف على الزمن المتخيل، وعلى الواقع الذي يجرّه السرد إلى السحر.

فخ الأفكار
كتب مثل «الطرق الهوائية» لباسترناك، و«اللامنتمي» لكولن ولسن، وضعت القارئ أمام فخ الأفكار، وهي تختلف عن دوغما الآيديولوجيا، أو عن الواقع، وليجد هذا القارئ نفسه باحثا عما تحمله هذه الكتب من أفكار ضدية، أو ما تثيره من زوابع اصطخب لها الشارع الثقافي والسياسي، فكتاب «اللامنتمي» ليس كتابا عابرا، إذ صار علامة لجيل ثقافي صاخب، حتى أن بعضهم جعلها «علامة تجارية» للأفكار التي راحت تتمرد على كل شيء.
استدعاء الكتب يعني في هذا السياق استدعاء لما هو مختلف، أو حتى التلذذ بهذا الاختلاف، والتعالي به، أو توظيفه في صناعة كثير من العلامات الثقافية والجنسية، وعالم «د، هـ، لورنس» لا نعرفه سوى أنه عالم من الكتب المهيجة والمستفزة، لكنها تحولت إلى مجال للتعبير عن حيوات قلقة وضاجة، وإلى أفكار وعلامات لم يتخلص منها العقل الثقافي بسهولة، وكتب «أبناء وعشاق» و«الطاووس الأبيض» و«عشيق الليدي شاترلي» دفعت الكثير من القراء إلى أفق مغاير للمألوف، وللأخلاق التي ظلت رهينة بتاريخ الروايات الواقعية والثورية.
عالم الكتب هو عالم سري لتلك التجارب، والمثقفون كانوا يجدون في كثير من تلك الكتب ملاذهم، فكتب كانط التي تغور في فاعلية العقل الأخلاقي، وكتب ماركس التي تنبش في رأس المال، والفكر والموسيقى والفلسفة، تشبه كتب فرويد الباحثة في سرائر الاضطراب النفسي، وكتب سارتر تنطّ مع كتب سيمون دي بوفوار في توصيف البطل الوجودي، وحتى كتب طه حسين تتحول إلى هاجس للمساءلة الثقافية، فهو يروي سيرته في «الأيام» ويلوّح بشكّه الديكارتي في كتاب «في الشعر الجاهلي»، وهذا ما يضع خيار القراءة وكأنه خيارٌ رهين بالكشف، وبالرهان على فاعلية الوعي بما يحمله من أفكار، أو بما يتركه من أسئلة.

ما يتساقط من أشباح الكتب
قد تكون شخصيات الكتب أو أفكارها أشباحا، أو كائنات خطرة، لكنها مؤنسنة، إذ تترك أثرها في الوعي وفي الواقع، من منطلق تمثليها للصراع والسجال، ولكلِّ ما أثاره هيغل من أسئلة عن الأزمنة الحديثة وعن الديالكتيك، لكن بعض الكتب التي قرأها المؤلف ظلت بلا أنسنة، ومثارا لحيرته، لأن أشباحها وأفكارها خارجة عن السياق، فكافكا يحتج في «المسخ» على الرعب والخوف اللذين يثيرهما التحول العاصف في الأفكار، ونيتشه الفيلسوف يقترح للعالم أفكارا تعكس غرائبية تحوله، وموت أخلاقه، وبروز فاعلية القوة بوصفها مجاهرة ضد الهوان الذي تتركه الثقافات والقيم الناعمة، وماركس يترك العالم في صراعات مفتوحة.
الكتب والأشباح ثنائية قد تصنعها القراءة، حيث يجد فيها المؤلف مجالا للتعبير عن سعة قراءاته، وعن تأثيرها على علة وجوده، وعلى أهمية وجود المكتبة في حياة الناس، وبأن الكتب هي حيوات، تشاطر الإنسان ذلك الوجود، وتشبع حاجته وعزلته، وبقدر ما تبدو هذه القراءة في كتاب «علي حسين» خارجة عن التأطير المنهجي، أو حتى عن التراتب الذي يحدد سمات اختياراته للكتب المقروءة، فإنّ عنونة الكتاب «صحبة الكتب» هي التوصيف الذي يبرر هذا التنوع والتعدد، وحتى لطريقة مقاربته لكتب بعينها دون أخرى، والتي تستدعي قراءتها مقدمات تعريفية بعلاقة تلك الكتب بحياة المؤلف القارئ، أو بتأثيرها عليه، لا سيما مع أسماء لكتّاب عرب وغربيين كان لكتبهم الأثر الكبير في صناعة «المجال القرائي» مثل سلامة موسى، وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ودارون ودستوفسكي وفلوبير وستندال وتولستوي ومارسيل بروست وستندال وسالنجر وفرجينا وولف وريك ماريا ريمارك وآينشتاين وإرنست همنغواي وميلان كونديرا.
هذه الأسماء، هو وجوه لكتب صاحبها المؤلف، وشاطرها أشباحها، مثلما شاطرها أفكارا عاصفة، ومخاوف وأسئلة وصراعات ونوبات من الفزع والصرع، وهذا ما يعني أهمية القراءة كفعل مجاور للنقد، حيث يتجاوز فيها المؤلف فعل الشرط النقدي، ويكتفي بالأثر الحميم للكتاب بوصفه وعدا بالمعرفة، أو هاجسا حاملا لأرواح تائهة، أو قلقة أو باحثة عن معان قد تكون هي معانينا التي نبحث عنها.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.