الإعلاميون قوم وهبهم الله مرونة وذرابة في اللسان، فكأنه أفعوان.
إن أنت سألت أحدهم (أو إحداهن) عن (مسيرته الإعلامية)، لتورّد وجهه حماساً، وعلا صوته مجلجلاً، معدداً لك انتصاراته الإعلامية، وخبطاته التلفزيونية، ووقوفه بصلابة مع الحق والعدل، ورفضه بخشونة كل محاولات الإغواء بالمال، وصموده في وجه الهراوة الغليظة التي أرادت إسكاته، ولكن هيهات!
ففتانا الإعلامي العربي (على حد قوله) بطل خارق ليس أقل من باتمان وسلاحف النينجا:
سيقص عليك أنه كان موجوداً بشحمه ولحمه حين اغتيل الرئيس فلان، أو وُلد الزعيم علان، وأنه كان أول من أعلن الخبر للعالم، رغم محاولات أجهزة المخابرات (جمعاء) إقناعه بتأجيل بث الخبر لمدة ساعة، لكن - ومرة أخرى - هيهات!
إذ إن «شرف» المهنة لديه فوق جميع «الأجهزة»!
وسيقسم لك أن نصيحته الشخصية للقائد العربي ترتان جنبت شعبه مصيبة كبرى، وأن الجنرال تانتان تسبب في نكسة عسكرية مدمرة لدولته لأنه لم ينصت لحكمة أخينا الإعلامي النِّحرير التي همس بها في أذنه قبيل اندلاع المعركة بخمس دقائق... إلخ
أما أنا - وما أنا إلا إعلامي عربي كهل، قليل الشأن - فإنني أجرؤ على طرح السؤال التالي:
أكان هذا البؤس الذي نعيشه - نحن العرب - يصبح حالنا لو أن لدينا إعلاميين من فئة سوبرمان وعنترة بن شداد؟!
ولو أن المشاهير من إعلاميينا وإعلامياتنا كانوا صناديد أبطالاً، لا يمكن شراء أصواتهم بالمرتبات الدسمة، ولا تخيفهم الهراوة أياً كان حاملها، أكانت الحالة العربية عموماً، والإعلامية منها خصوصاً، تتدهور إلى القاع الذي نحن فيه الآن؟
...
دعوني أخبركم بحقيقة الأمر:
الإعلام والإعلاميون محض جزء ضئيل من مجتمعاتهم، ولكنه جزء يطابق الكل في سماته كلها، تقدماً وتخلفاً، شجاعة وفَرَقاً، صلاحاً وفساداً... المجتمعات المتقدمة المقدامة الشفافة، تنتج إعلاماً وإعلاميين يحملون ذات الصفات، وتطرد من المهنة كل متسلل يحمل ملامح مغايرة منحطة.
أما المجتمعات المتخلفة الهيّابة المعتمة، فإنها تنتج إعلاماً وإعلاميين أشبه بها.
ولهذا أسألكم النظر إلى أنفسكم لتروا حقيقة إعلامكم وإعلامييكم.
وحذار من تصديقهم حين يتحدثون عن بطولاتهم الخارقة، فهم حينذاك يُصابون بـ(خَرَف المهنة)، وهو وباء خطير معدٍ، ينقله الإعلاميون العرب المسنون للأجيال التالية، فيضيف إليه كل جيل عارَه الشخصي!
تتبقى لكم لدي حُزمة من الأسئلة:
- ماذا تتوقعون لمهنة كمهنتي قوامها الأسئلة، في مجتمع يصنف المتسائلين مع غريبي الأطوار، أو ضعيفي الإيمان، أو الجواسيس؟
- أين يذهب - تذهب العربي - ة لتعلم صنعة الإعلام، إن كانت الكلية تسخر من الفضائية، والفضائية تهزأ بالكلية؟
- لماذا يخاصم جيلنا العربي الجديد (الممنوع من الصرف) بينما يحفظ بلا غضاضة عشرات الأفعال الإنجليزية (الشاذة)؟
- كيف حدث أن المجتمعات التي عصف بها (الربيع العربي) أنتجت إعلاماً مختلفاً في قشرته المُدّعاة، مطابقاً تماماً في مضمونه الهُرائي، لإعلامها قبل الربيع؟
- هل تصدقون أن كثيراً من الخطوط السياسية الحمراء في الفضائيات العربية هي في رؤوس مديري تلك المحطات، وليست في رأس السلطة؟
- هل تَعدّون الإعلام (القومي التعبوي) في الخمسينات والستينات، زمناً ذهبياً نُشفى حين نعود إليه، أم ترونه أصل الداء، ومنشأ البلاء؟
- لماذا لم نعد نسمع عن (الفنانين) و(الفنانات) الذين أنتجتهم برامج اكتشاف المواهب التلفزيونية بعد أن صفق لهم الحكام الطيب منهم والشرس والقبيح-ة؟
- الإجابة: لا يمكن لكرامتك أن تسمح لك بإذلال نفسك أمام الملايين لإرضاء المزاج الجمعي الخشن المتقلب، وأن تكون فناناً حقيقياً في الوقت نفسه.
- ربما ألقاكم بعد الفاصل، ربما!
-إعلامي مصري
خرف المهنة!
خرف المهنة!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة