بعد أسبوع من استدعائه إلى باريس إثر احتدام وتيرة الاتهامات المتبادلة بين فرنسا وإيطاليا، عاد السفير الفرنسي إلى روما ليضع نقطة الختام على الفصل الأخير من أخطر أزمة دبلوماسية بين البلدين منذ أيام الحرب العالمية الثانية، والأولى من نوعها بين دولتين أوروبيتين منذ إنشاء الاتحاد الأوروبي. وفور وصوله إلى مطار العاصمة الإيطالية توجّه السفير كريستيان ماسّيه مباشرة إلى قصر «كويرينالي»، حيث استقبله رئيس الجمهورية سرجيو ماتاريلّا، وسلّمه رسالة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ودعوة رسمية لزيارة باريس قبِلها الرئيس الإيطالي على الفور.
كل الأطراف المعنيّة بالأزمة تسارعت إلى الإعراب عن ارتياحها لنزع فتيل المواجهة السياسية التي كانت تهدد بتداعيات خطيرة على الصعيدين الثنائي والأوروبي، في مرحلة دقيقة جداً بالنسبة للدولتين المعنيتين وللبلدان الشريكة في القارة الأوروبية. لكن «اللفلفة» السريعة لأزمة بهذا الحجم تستدعي التساؤل حول ما إذا كانت مياه العلاقات بين البلدين قد عادت إلى مجاريها بعودة السفير الفرنسي إلى روما، أو إذا كانت خطوة باريس تستهدف سحب الأزمة من التداول العلني الذي يصبّ في مصلحة التحالف الشعبوي - اليميني المتطرف الحاكم في إيطاليا، وانتظار ظروف أفضل لنقلها إلى الحيّز السياسي والاقتصادي.
الفرنسيون يعشقون إيطاليا مهد النهضة الأوروبية والموطن الثاني للكثيرين منهم، ولا ينسون أنه إذا كان العلم الفرنسي يرفرف اليوم فوق مونتي كارلو وجزيرة كورسيكا، فلأن إيطاليا أهدت هذه الأراضي لحليفتها فرنسا التي ساعدتها على دحر القوات النمساوية. والإيطاليون يبادلونهم الشعور ومنذ عقود جعلوا من فرنسا وجهتهم السياحية الأولى وشريكهم التجاري الثاني بعد ألمانيا.
منذ انطلاق المشروع الأوروبي في عام 1957 من العاصمة الإيطالية، نادراً ما تباعدت مواقف باريس وروما من الملفات الأوروبية والدولية الكبرى، لكن مع وصول الحكومة الإيطالية الحالية مطلع الصيف الماضي ظهر تباين عميق وتضارب في الرؤية بين البلدين حول معظم القضايا المثيرة للجدل على مائدة الحوار الأوروبي. ملفّ الهجرة كان في طليعتها، وتشاء الظروف أنه رأس حربة التحالف الحاكم في إيطاليا، وبخاصة حزب «رابطة الشمال» اليميني المتطرف الذي بقدر ما يتشدّد في مواقفه وسياساته من موضوع الهجرة بقدر ما ترتفع شعبيته التي حملته إلى صدارة المشهد السياسي الإيطالي، حسب كل الاستطلاعات الأخيرة.
المواجهة المفتوحة بين باريس وروما حول ملف الهجرة بدأت مطلع الصيف الماضي بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيطالية ضاربة عرض الحائط بالاتفاقات والمعاهدات الأوروبية والدولية، التي استفزّت المسؤولين الفرنسيين، وفي طليعتهم الرئيس ماكرون، واستدرجتهم لتصريحات قاسية ضد الحكومة الإيطالية فتحت الأبواب أمام التصعيد الذي كان ينتظره وزير الداخلية وزعيم «رابطة الشمال» ماتّيو سالفيني، الذي دفع بشريكه زعيم حركة «النجوم الخمس» لويجي دي مايو إلى المزايدة التي دفعته إلى لقاء الجناح المتشدّد في حركة «السترات الصفراء» في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية، وإعلان دعمه للحركة وتشجيعها على مواصلة الكفاح، فيما كان سالفيني يتمنّى أن «يتخلّص الفرنسيون قريباً من رئيسهم السيئ جداً».
من القواعد الأساسية، غير المكتوبة، في العرف الدبلوماسي، أن الدول لا تسعى، بأي شكل من الأشكال، إلى إسقاط حكومات الدول الصديقة. لكن هذا ما كان يقوم بها رُكْنا الحكومة الإيطالية دي مايّو وسالفيني منذ أسابيع بإعلان دعمهما للحركة الاحتجاجية التي تسعى إلى إسقاط الحكومة الفرنسية، وبخاصة زعيم جناحها المتطرف كريستيان شالونسون الذي صرّح بعد لقائه نائب رئيس الوزراء الإيطالي بـ«نعم للانقلاب، نعم للحرب الأهلية». تلك كانت الخطوة التي طفحت كيل الخلافات، ودفعت باريس إلى استدعاء سفيرها من روما، في إجراء لا يليه عادة سوى قطع العلاقات الدبلوماسية.
السابقة الوحيدة في العلاقات بين البلدين تعود إلى عام 1940 عندما أعلنت إيطاليا الحرب على فرنسا، فقررت باريس استدعاء سفيرها الذي قال لوزير الخارجية الإيطالي وصهر موسوليني قبل مغادرته «إنها طعنة في الظهر». صحيح أن المقارنة ليست واردة بين الأزمة الحالية، وتلك التي شهدتها العلاقات بين البلدين مطلع الحرب العالمية، لكن باريس التي تعرف أن منسوب التصعيد والشحن المناهض لها في الحكومة الإيطالية التي يرجّح أن تدوم لأربع سنوات، تتجاوز أهدافه العلاقات الثنائية في محاولة واسعة لتطويق المشروع الأوروبي بأكمله من الداخل. وهي عندما قررت عودة سفيرها إلى روما وحمّلته دعوة إلى رئيس الجمهورية للقيام بزيارة دولة إلى فرنسا، عمدت إلى تجاهل رئيس الحكومة الذي يعتبر رأس السلطة التنفيذية في النظام الإيطالي، لاعتباره مجرد ناطق بلسان زعيمي التحالف الحاكم اللذين يوجّهان سياسة الحكومة ويمليان شروط التحرّك على رئيسها.
دي مايّو من جهته أبدى بعض التراجع في موقفه معرباً عن ارتياحه لعودة السفير، ومعلناً أنه ينبذ العنف والأعمال التخريبية في الاحتجاجات، لكنه أصرّ على تأييده حركة «السترات الصفراء» في مطالبها الاجتماعية. أما سالفيني فقد اكتفى بالقول «سنرى ماذا بعد عودة السفير»، ليعود إلى اللهجة الهجومية المعتادة قائلاً: «وما زلت بانتظار الاجتماع بنظيري الفرنسي للبحث في وضع 15 إرهابياً إيطالياً يسرحون منذ سنوات في فرنسا».
السفير الفرنسي يعود إلى إيطاليا وينزع فتيل المواجهة بين روما وباريس
السفير الفرنسي يعود إلى إيطاليا وينزع فتيل المواجهة بين روما وباريس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة