كريستيان بيل يفكر بالعودة إلى شخصية «باتمان»

الفنان البريطاني لـ «الشرق الأوسط»: لو مثلت ديك تشيني كاريكاتيرياً لانهار الفيلم

كريستيان بيل
كريستيان بيل
TT

كريستيان بيل يفكر بالعودة إلى شخصية «باتمان»

كريستيان بيل
كريستيان بيل

حتى الآن، خرج كريستيان بيل بلا جائزة رئيسية من تلك التي يتلقفها الآخرون في هذا الموسم. فاز بجوائز نقدية، أهمها جائزة «لندن فيلم سيركل» السنوية كأفضل ممثل عن دوره في «نائب»، لكنه خسر أمام رامي مالك في ثلاث مسابقات أولى: «غولدن غلوبز» ومسابقة «نقابة الممثلين الأميركية» و«البافتا» البريطانية.
وهو هنا في برلين ليس ليفوز بجائزة فاتته في تلك المناسبات الثلاث، لأن «نائب» يُعرض خارج المسابقة. نوع من اشتراك أميركي يتيم قد يعبّر عن عدم لهاث المهرجان وراء هوليوود أو عدم وجود فيلم هوليوودي يناسب المهرجان وقيمته... أو ربما للسببين معاً.
لكن «نائب» فيلم ممتاز وخال من أي «ارتباكات» و«غياب البؤرة» كما كُتب عنه. كل ما نراه في الفيلم مقصود بذاته، بما في ذلك أسلوب عمله ومونتاجه والشخصية الشعبية التي تسرد الحكاية وتموت (عن قصد؟) من وجهة نظرها الخالية من المصلحة الخاصة.
كريستيان بيل هو دك تشيني ليس في الدور فقط، بل في السلوك والشكل. ويتابعه الفيلم من حين كان مراهقاً بجسد كبير وعاطل عن العمل إلى حين وصوله إلى المنصب الثاني في البيت الأبيض، وقدرته غير المسبوقة في قرارات الرئيس جورج و. بوش. هذا مروراً بتسلله بين المناصب السابقة، من ثمّ خروجه من العمل السياسي لفترة وعودته أقوى وأكثر تأثيراً ممّا كان عليه.
ليس سراً أنّ المخرج آدام مكاي لا يطيق ديك تشيني، لكنّه في الوقت ذاته، لا يعمد لتصويره كاريكاتيرياً أو على نحو ساخر. ولا بايل يقدّمه من ضمن موقف ذاتي قابل به أو رافض. بل يؤدي دوره باحتضان الشّخصية تماماً وضمّها إليه.
القول إنّ كريستيان بيل من أهم المواهب السينمائية المتوفرة في الغرب ليس جديداً. ما هو جديد اعتراف بايل بأنّه أمضى أشهراً طويلة من الاستعداد وتجهيز نفسه، ضمناً وقالباً، لدور تشيني، لكنّه لا يزال لا يفهم سر سلطته حتى اليوم. يبادر قائلاً:
على الرّغم من الشهور التي قضيتها متلبساً شخصية ديك تشيني، ما زلت لا أفهم ذلك المستوى من السّلطة التي تمتع بها. كيف له أن يستيقظ صباح كل يوم متمتعاً بالسلطة يوماً بعد يوم بعد يوم بعد يوم. هذا مع ما يصاحب الحمل والمسؤولية المرافقين لتلك السلطة.
- هل تخيلت نفسك مكانه بالفعل ولم تنجح في فهمه؟
- نعم، لكن هذا التّقمّص لم يبدّد السؤال الذي طرحته على نفسي مرة بعد مرّة. وبصراحة لا أعتقد أنّني كنت أستطيع حمل هذه المسؤولية فيما لو كنتُ في المنصب ذاته.
سؤال في السُلطة
- ما الذي واجهته من مصاعب لكي تؤدي هذا الدور لجانب محاولتك فهم سر سلطة ديك تشيني؟
- حالما تقرّر أنّ الطريقة الصحيحة للعب شخصية يراها كثيرون وحشية هي أن تقدّمه على عكس تلك الصورة السّهلة يصبح كل شيء آخر سهل التّطبيق. لقد اعتاد الناس أن يروا الشّخصيات إمّا بطولية بلا لطخات داكنة أو شريرة بلا حسنات على الإطلاق. بالنسبة لي تمثيل ديك تشيني كان اختباراً للوسيلة الصحيحة لتقديمه: تمثيله كشخص لديه القدرات الدّاخلية على تحقيق غاياته وترك الأحداث المحيطة، ترسم الصورة الصحيحة له. بعض تلك الأحداث من ابتكاره والبعض الآخر سيقت له أو وجد نفسه فيها لظروف طارئة. الوحوش لا تأتي دائماً على هيئة تشارلز مانسون أو تحمل في يدها شعارات النازية. هي قادرة على أن تختبئ تحت قمصان «بولو» وسراويل كاكية.
ما وجدته مثيراً جداً بالنسبة لي في هذا الدور هو السؤال التالي: هل تستغل سلطتك لكي تضع الابتسامة على وجوه الناس وترفع من معنوياتهم وتطور العالم لما هو أفضل، أم تستغل سلطتك لكي تنتقم. أقول هذا لأنّني أعتقد أنّ هناك كثيرين مثل ديك تشيني يسيرون بيننا. ربما بعضهم في هذه الغرفة التي تجمعنا.
- هذا الوضع الذي تتحدث فيه عن المظهر المخادع واستقبال المشاهدين للأبطال والأشرار على نحوٍ تقليدي نلحظه في الطريقة التي مثلت فيها شخصية «باتمان» في الثلاثية الشهيرة. «باتمان» أيضاً كان بطلاً، لكنّه بطل داكن.
- صحيح. هذا يعزّز الغموض الذي لا بد منه، ويجعل الفيلم أفضل لناحية ما يجب أن يحتويه من أزمات وصراعات داخلية. لا أحد في العالم يجب أن يتصرّف كما لو أنّ كل تصرفاته صحيحة أو أنّ كل تصرفاته خاطئة. وكل منا يستطيع أن يكون غالباً إنسانا جيداً مع نسبة محدودة كافية لأن تجعله غير كاملاً. والعكس صحيح.
- البعض توقّع أن يكون تمثيلك لشخصية ديك تشيني عبارة عن لكمات موجعة له. لكنّك مثّلت الدّور كما لو كنتَ هو.
- لقد قابلتُ قبل التصوير كثيراً من الناس الذين كانوا معجبين به، وقالوا لي إنّه ليس الوحش الذي يعتقده الليبراليون. وقابلت الذين طالبوني بأن أستغلَّ الفرصة للنيل منه. لكن لو فعلت لانهار الفيلم. طبعاً المخرج مكاي يعرف كيف يقتنص الفرصة، وهو دائماً واضح الموقف سياسياً ويعرف كيف يصنع فيلماً له رسالة، لكنّه متفق معي في هذه النّقطة. لو مثلتُ الشخصية كاريكاتيرياً أو عارضتُها من خلال تمثيلي لها لتعرّض الفيلم لنكسة.
- لا يمكن أن تكون ضد تشيني وأنت تمثله واقعياً.
- تماماً، وينطبق على أي شخصية أخرى، خصوصاً إذا ما كان الفيلم جاداً في معالجته.
- هل تعتقد أنّك قبضت جيداً على سلوكيات الشخصية, ما رأيك؟
- رأيي أنك فعلتَ. لم أعد أرى كريستيان بيل بل ديك تشيني.
إذن الجواب صار لديك. لقد أمضيت أوقاتاً طويلة وأنا أشاهد الأفلام والمقاطع الإخبارية التي ظهر فيها. هاتفي هذا مليء به (يضحك). لكنّ المسألة هي أبعد من التّقليد، هي في التّقمص الحقيقي، وبذلك تصبح الممارسة مطابقة يمكن لك أن تصدّقها.
- ما كان رأي المخرج مكّاي عندما جلستما لمناقشة طريقتك في تمثيل ديك تشيني؟
- كان متفهماً. قلتُ له إنّ الأمر الصحيح بالفعل هو تمثيل الشخصية على نحو يناقض الفيلم.
الحقيقي والخيالي
- بعد خمس عشرة سنة على غزو العراق وعشر سنوات على ترك ديك تشيني منصبه في البيت الأبيض، كيف ترى وضع العالم اليوم؟
- رجال البيت الأبيض حينها، وديك تشيني على الخصوص، غيّروا المناخ السّياسي لما هو عليه اليوم. الشرق الأوسط بأكمله يعيش آثار فترته.
- هل تعتبره مسؤولاً وحده عمّا قام به بعد كارثة سبتمبر (أيلول)؟
- لا. كان محاطاً بكثير من الشخصيات السياسية المسؤولة والفعل لم يكن فعله المطلق، بل كان نتيجة توجهات سياسية للبيت الأبيض آنذاك، لكن بالتأكيد كان أقوى شخصيات البيت الأبيض وأكثرها عناداً. كان ديك تشيني أكثر خبرة من الرئيس بوش (الابن)، لكنه لم يكن الشخص الذي يريد أن يُصدر القرارات بنفسه بل يحبّ توجيهها من الخلف.
- أنت من الممثلين الأكثر إمعاناً في أداء الشخصيات، حقيقية كانت أو خيالية، بتلوين مختلف. ليس هناك من دور سهل حتى ولو كان الفيلم لا يقصد ذلك. هل تعتبر نفسك ممثلاً بتعريف وحسب مدرسة ستانيسلافسكي؟
- لا، ولسبب وجيه: لم أدرس تعاليم ستانيسلافسكي، لذلك لا أدري ما هي. لم أدرس تعاليم التمثيل مطلقاً لا تبعاً لمدرسته ولا تبعاً لمدرسة سواه. التمثيل يأتي من الداخل. في كل مرّة أمثل شخصية ما أستجيب لما أراه ضرورياً. هي التي تعطيني الطريقة.
- كيف يختلف الأمر عندك بين تمثيل شخصية حقيقية وتمثيل شخصية خيالية؟
- أبدأ بالسلوكيات. إذا كانت الشخصية حقيقية يجب أن أدرس كيف ولماذا كانت تتصرّف هكذا أو كيف ولماذا كانت تعبر عن نفسها على هذا النحو. تمثيل شخصية غير حقيقية يجعلك قادراً على أن تبتكر سلوكيات مختلفة بنفسك، لكن تبقى السلوكيات هي المبدأ الأهم. كذلك يجب ألا ينطلق الممثل من التّقليد بل من التّطبيق.
- هل ستعود لتمثيل شخصية «باتمان»؟
- ليس هناك شيء مستبعد. أنا محظوظ لأنّني أستطيع الاختيار. وإذا ما عُرض علي العودة إلى شخصية «باتمان» فسأدرس الموضوع بعناية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)