«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (5) : هوليوود والصين تواجهان ترمب والجدار

بين سهوب منغوليا ومجاعة أوكرانيا

«روما» الفائز دوماً
«روما» الفائز دوماً
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (5) : هوليوود والصين تواجهان ترمب والجدار

«روما» الفائز دوماً
«روما» الفائز دوماً


استمع المنتج الأوروبي لكاتب سيناريو يعرض فكرته عن فيلم يجمع بين شخصيتين عربيّتين، تقع أحداثه ما بين بريطانيا وفرنسا. عندما انتهى الكاتب من حديثه قال لها المنتج: إنّ «الفكرة رائعة، ويمكن بالفعل تحويلها إلى فيلم طويل، بل إلى مسلسل تلفزيوني».
صمت المنتج قليلاً ثم أضاف: «بالطبع. لو غُيّرت إحدى الشخصيّـتين إلى رجل صيني، أستطيع إيجاد مموّل للمشروع في يوم غدٍ».
ربما يعكس هذا الحديث وضع الصين في سينما العالم، حيث باتت تشكل مركزاً مستقطباً بل مهيمناً على الإنتاجات كافة. حسب بعض الإحصاءات الأخيرة فإنّ نحو 2 مليار و200 مليون دولار كانت حصيلة الأفلام الغربية في السّوق الصينية. رقم تدرك هوليوود أهميته القصوى، إذ إنّ معظم هذه الأفلام الغربية هي أميركية الإنتاج.
وضع هوليوود دقيق نوعاً ما في هذه الفترة. بل ربما وضع أميركا ككل. الصين هي - حسب إحصاء آخر - أكبر دائني الولايات المتحدة التي، رغم ذلك، لا توفّر جهداً في الوقوف أمام العملاق الصيني، وتقوم برفع الضرائب المفروضة على ما يستورده منها والتلويح بقرارات اقتصادية تؤذي خاصرة الشّركات الصينية الموردة.
هوليوود نموذج مختلف ولو أنّه يقبع في وسط المعضلة ذاتها. شركات صينية كثيرة تمتلك شركات إنتاج أو أسهماً كبيرة فيها، ورجال الأعمال من منتجين وممولين وموزعين يعيشون فيها ويغدقون على مشاريع أميركية - صينية.
من ناحية أخرى، تدرك شركات هوليوود الكبرى كلها، أهمية الصّين كسوق لمنتجاتها حتى من بعد أن أصدرت الدولة هناك، قبل نحو شهرين، قراراً يضيق الخناق نوعاً ما على عدد الأفلام المستوردة ونوعياتها.
وهي، لذلك، لا تحبّذ ما يراه الرئيس ترمب ضرورياً ولا تريده أن يستمر في هزّ المركب الذي تعيش فوقه لئلا ينقلب. وهذا الوضع يأتي وسط معارضتها لقرارات الخارجية الأميركية الحد من استقبال القادمين من دول لا ترغب أميركا الرّسمية بزيارتهم. وخلال مهرجان صندانس الأخير عُرض أكثر من فيلم بغياب مخرجه كون المخرج ينتمي إلى قائمة الدّول المغضوب عليها.
جريمة في سهوب منغوليا
في برلين ذاتها أُزيح الستار قبل يومين عن أول فيلم من الأفلام الصينية الثّلاثة المعروضة في مسابقة هذا العام وهو «أوندوغ» (Öndög)، لكن حظ الصينيين في التجارة يبدو أفضل من حظهم مع هذا الفيلم.
إنّه للمخرج وانغ كوينان وهو مخرج متنوع الاهتمامات سبق له وأن شارك في مهرجان برلين بعدد من الأفلام بينها «سهل الغزلان البيضاء» (2011) و«مفترقان معاً» (2010) وكان له تقدير نقدي خاص والأخير فاز بالجائزة الفضية لأفضل سيناريو.
في فيلمه الجديد (الذي كتبه بنفسه) «أوندوغ»، ينتقل المخرج إلى قفار منغوليا ليحيك هناك حكاية لها خيط لغزي يتصل بهوية المرأة العارية التي اكتُشف وجودها من قِبل دورية كانت تجوب المكان. تترك عند الموقع المنبسط بلا حدود مرئية شرطياً شاباً ما يلبث أن تزوره امرأة ترعى الغنم وتعيش وحيدة في كوخها. يقول لها صديق يزورها من حين لآخر كلما طلبت منه القيام بعمل شاق لا تجيده، إنّ عليها أن تبحث عن رجل وتتزوجه قبل فوات الأوان.
لحين يبدو الشرطي الشاب هو ذلك الرجل. لكنّ العلاقة بينهما لا تزيد عن ليلة واحدة، إذ يغادر الشّاب المكان عندما تعود الدورية بسيارة إسعاف وبرجل ألقت القبض عليه واعترف بذنبه. المكان يعود لما كان عليه. مقفراً لا تزوره سوى الرياح العاتية. أمّا المرأة فتجد في صديقها المذكور مشروع المستقبل وينتهي الفيلم وهما يمارسان الحب معاً آملين بإنجاب «أوندوغ» وهي الكلمة المستخدمة لوصف استمرارية الحياة لكل صنف. حسب الفيلم، انتهى عصر الدينوصورات عندما توقف إنجابها مزيداً من «أوندوغات»، وهذا قد يصبح مصير الإنسان ذاته.
لا يغرف الفيلم من الفلسفة كما قد توهم هذه السطور. هو دراما خفيفة معمولة لتلاحظ نوع الحياة في بعض سهوب منغوليا المقفرة وتوفير حكاية بلا أي حواشي درامية ولا بطانات حدثية. يصرف المخرج جلّ جهده على توفير لقطات ومشاهد صادمة للعين كونها جديدة عليها. يغرف من البيئة المغلقة لتلك الشّخصيات ومن بساطة الحياة فيها التي لا ترتفع كثيراً عن مستوى السطح. ذلك اللغز القصير ليس بوليسياً وليس تشويقياً، بل تفعيل لجذب المشاهد لوضع غير متآلف عليه وبالتالي غريب في حد ذاته.
وذلك التبسيط في المضمون يترك الشعور في النهاية بأن المرء تابع فيلماً من المشاهد المثيرة، جمالياً وواقعياً، للاهتمام (وعلى شاشة عريضة)، لكن الفيلم لم يقل شيئاً مفيداً في نهاية أمره.
المخرج كان عضو لجنة التحكيم في دورة 2017. وهي السنة الفعلية الأولى للرئيس ترمب. وحين عاد إلى بلاده عاد محملاً بفكرة فيلمه المقبل الذي سيصوّره في الولايات المتحدة بعنوان «جدار أميركي» الذي سيدور حول ذلك الجدار الذي ينوي ترمب بناءه لمنع تدفق المهاجرين الآتين من أميركا الجنوبية.
مغامرة صحافي في أوكرانيا
في الأيام القليلة الماضية، تلك التي باتت تشكل الآن النصف الأول من الدورة، تساءل البعض عن سبب اختيار المهرجان لفيلم الدنماركية لون شرفيغ «لطف الغرباء» للافتتاح. الجواب الحاضر ربما واحد من عدة أسباب وهو أن الفيلم أوروبي من ناحية وناطق بالإنجليزية من ناحية أخرى (إذ تقع أحداثه في نيويورك) ومخرجته امرأة في عام أعلن المهرجان فيها أنّه عام المرأة على شاشات برلين.
لكن من ناحية فنية، تتضح الصورة مع المزيد من الأفلام المعروضة فإذا ببعض هذه الأفلام كانت تصلح أكثر للافتتاح ومن بينها «مستر جونز» الذي يتمتع بأربع خصائص: هو أوروبي وناطق بالإنجليزية ومخرجته (أنييشكا هولاند) هي أنثي. هذه الصفات الثلاث الموجودة في «لطف الغرباء» تضاف إليها صفة رابعة وهي أنّه فيلم أفضل.
«مستر جونز» يدور حول صحافي بريطاني (مقاطعة ويلز)، نراه في مطلع الفيلم ساعياً بجهد ملحوظ لدخول الأراضي السوفياتية في الثلاثينات. المناخ السياسي آنذاك كان مثل ضباب كثيف يُنذر بالمطر: الرّوس تحت وطأة الحكم الجائر لستالين. المخابرات موزعة في كل مكان. التنصت على الأحاديث واقتفاء الأثر والتهديد بحجر الشّخصيات سائد وألمانيا النازية تمهد لحربها الجرارة ضدّ الشرق والغرب.
رغبة الصحافي جونز (جيمس نورتون)، زيارة موسكو المعلنة، هي مقابلة ستالين نفسه بعدما نجح في مقابلة هتلر. لكنّ تلك غير المعلنة هي أنه يتوخى استخدام المقابلة لبناء مستقبل له في عالم الصّحافة، أو كما قالت له موظفة القنصلية في لندن «تقصد أنك تريد أن تكون صحافياً».
تحجز له السّلطات غرفة في فندق جيد ليومين رغم أنّ تأشيرته صالحة لأسبوع. خلال هذين اليومين ينطلق باحثاً عن وسيلة اللقاء مع ستالين، هذا قبل أن يحيد عن هذا الهدف صوب هدف آخر: زيارة أوكرانيا للاطلاع على الاستعدادات العسكرية التي يقوم بها الحزب الشيوعي في أوكرانيا لمواجهة احتمال غزو هتلر الاتحاد السوفياتي. هذه المهمّـة وردت إليه بعدما اكتشف مقتل صحافي تعرّف عليه في لندن، ولاقى حتفه في موسكو لسبب غامض. لقد وقف الصحافي القتيل على سر لا يراد له البوح به. حين يصل جونز إلى أوكرانيا يكتشف السر: فلأجل أن يبني ستالين مصانع السّلاح الذي سيواجه به الغزو الألماني باع محاصيل المزارعين بكاملها للغرب تاركاً ملايين الأوكرانيين يعانون الموت جوعاً.
يصبح الفيلم من نقطة وصول جونز إلى أوكرانيا وصاعداً، أكثر جدية فيما يعرضه. جونز في ثلاثة أرباع الساعة الأولى متهور ويلجأ إلى الكذب لكي يحقق ما يريده في بلد غير آمن. وبعض ما يدور (مثل حفلة المجون التي يقيمها مراسل «نيويورك تايمز» وتحتوي على جنس ومخدرات وعربدة) لا تبدو واقعية. لكن كل هذا وسواه يضحى وراء ظهر الأحداث التي تنتظر جونز حال وصوله إلى أوكرانيا.
تستند أنييشكا هولاند إلى سيناريو مدروس وحافل بالوقائع. حتى ولو أن بعض هذه الوقائع قد يكون مفبركاً إلّا أنّه مستخدم في وحدة هدف مزدوج بحد ذاته: تقديم حكاية تشويقية وتوفير الأرضية الصحيحة لفيلم ذي رسالة سياسية دامغة ضد ستالين والحزب الشيوعي وما قام به الأول من تجاوزات إنسانية مفجعة. الفيلم يفرق بين ضرورة دفاع روسيا عن نفسها، وبين أن يكون الثمن مقتل الملايين في مجاعة كاسحة. أيضاً من أهدافه إظهار عدم استعداد بريطانيا لتصديق جونز حين استطاع عرض الوقائع التي عايشها وشهدها حول الوضع الأوكراني.
إخراج هولاند بديع ومتمكن. هناك خبرة تتجلّى في كل لقطة توقيتاً ومفاداً. هذه امرأة بلغت من العمر 70 سنة وما تزال قادرة على توفير إخراج حيوي ينتمي إلى لغة فنية عصرية لا توحي بتاريخ هولاند البعيد الذي كان أكثر استجابة مع متطلبات السينما الثقافية. هولاند، كونها بولندية، عاشت تحت بصمة الأخ الأكبر وتقرّر هنا توجيه لكماتها لتلك الفترة القاسية من عمر بلادها والمنظومة الشيوعية بكاملها.

{بافتا} تعلن جوائزها... وروما يتصدر
- إذ يقترب موعد احتفال الأوسكار في الرابع والعشرين من هذا الشهر حثيثاً، تتوالى الجوائز السينمائية معلنة الأفلام والشخصيات السينمائية التي تربح جولاتها في هذا الموسم. ومع كل إعلان لجوائز معيّـنة في هذه المجالات يزداد تحديد الأفلام والشخصيات المتمتعين باحتمالات الفوز بجوائز الأوسكار ذاتها.
الحادث هو أنّ الأفلام التي تُرشّح لجوائز الجمعيات والنّقابات والمؤسسات السينمائية الناشطة في هذا الموسم هي ذاتها التي تدخل سباق الأوسكار، مما يعني أنّ الأفلام التي تفوز بالجوائز الأولى في تلك المناسبات المسبقة للأوسكار تتمتع بالحظوظ الأعلى لتتويج رحلتهم الطويلة بجوائز الأوسكار أيضاً. والأمر ذاته بالنسبة للمخرجين والكتاب ومديري التصوير والممثلين والممثلات المندمجين في سباقاتهم.
آخر تلك الجوائز المهمّة هي البافتا التي أُعلن عن نتائجها ليل يوم الأحد الماضي (العاشر من الشهر). وهي، كما أشرنا حين كتبنا عن الأفلام والسينمائيين المرشحين لجوائزها، تألفت من معظم ما تألفت منه ترشيحات الأوسكار ذاتها، وبذلك فإنّ من فاز هنا يقف على سدة الفوز هناك غالباً.
هي المناسبة الثانية والسعبين ونتائجها كانت، إلى حد كبير، متوقعة في عام لم يحفل بالكثير من الأعمال المستحقة ما يوضح السبب في تكرار الأفلام وصانعيها من حفل إلى آخر.
وفي حين تصدّر فيلم «روما» الجوائز النّوعية، تصدّر «المفضلة» الجوائز عددياً، إذ نال سبعة من الترشيحات الاثني عشر التي خاضتها.
والمناسبة كانت ملائمة لدى عدد من السينمائيين الذين صعدوا المنصّة لمهاجمة قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. «بريكست» أو - على الأقل - نقده. الممثل أندي سركيس استغل تقديمه لجائزة أفضل موسيقى ليقول إنّ «الفيلم بلا موسيقى مثل بريطانيا بلا أوروبا». بينما علّق الممثل إيدي مارسان حين اعتلى المنصة على وضع البريكست قائلاً: «لقد اختلقت بريطانيا تاريخها لتبرير انسحابها من أوروبا».
حقائق
قبل إعلان النتائج بأيام، طردت البافتا (الأحرف الأولى لـBritish Academy of Film and Television) المخرج برايان سينجر من قائمتها المعلنة. هو كان أحد المرشحين في قائمة المخرجين، لكنّ نسبة لما يواجهه من تهم تحرشات جنسية بات من المتعذّر على البافتا قبوله مرشحاً عن فيلم «بوهيميان رابسودي». هذه الخطوة ستساعد أعضاء الأوسكار المترددين لتوجيه أصواتهم إلى سينمائيين آخرين في هذا المجال. وربما ترك القرار تأثيراً إضافياً بعدما أصبح أمر قيام سينجر بتحقيق فيلمه المقبل «رد سونيا» مشكوك فيه.
لكن كل هذا لم يمنع فوز بطل الفيلم رامي مالك بجائزة أفضل ممثل وهو فوز لافت بالنظر لمن نافسه على الجائزة أمثال كريستيان بايل وبرادلي كوبر وفيغو مورتنسن. نتائج جوائز بافتا بحدّ ذاتها لم تحمل مفاجآت تذكر، بل أكدت بضع حقائق:
- فيلم «روما» هو فارس لا يُقهر وسط هذه الاحتفالات.
- عام 2019 هو عام ألفونسو كوارون بين المخرجين.
- «كفرناحوم» لم يستطع التقدم على «روما» في سباق أفضل فيلم أجنبي وذلك في ثاني مواجهة رئيسية بينهما بعد جوائز «غولدن غلوبز».
أمّا النتائج الأساسية ذاتها فقد جاءت على النحو التالي:
- أفضل فيلم: «روما»
- أفضل مخرج: ألفونسو كوارون
- أفضل فيلم بريطاني: «المفضلة» ليورغوس لانتيموس
- أفضل فيلم بلغة غير إنجليزية: «روما».
- أفضل ممثلة: أوليفيا كولمن عن «المفضلة»
- أفضل ممثل: رامي مالك عن «بوهيميان رابسودي»
- أفضل ممثلة مساندة: راشيل وايز عن «المفضلة»
- أفضل ممثل مساند: ماهرشالا علي عن «كتاب أخضر».
- أفضل سيناريو مكتوب خصيصاً للسينما: «المفضلة».
- أفضل سيناريو مقتبس: «بلاك كلانسمان».
- أفضل تسجيلي لفيلم «فري صولو».
- أفضل فيلم كرتوني «سبايدر - مان: داخل قصيدة»
- أفضل عمل أول لمخرج أو كاتب أو منتج: «وحش» لمايكل بيرس.
- أفضل تصوير: «روما».
- أفضل موسيقى: «مولد نجمة»
- أفضل توليف: «بوهيميان رابسودي».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)