شاعر ارتداد الذات وعلاقتها بالعالم

«لا وجه في المرآة» لعبده وازن

شاعر ارتداد الذات وعلاقتها بالعالم
TT

شاعر ارتداد الذات وعلاقتها بالعالم

شاعر ارتداد الذات وعلاقتها بالعالم

عن منشورات «المتوسط» بإيطاليا، صدرت حديثاً مجموعة الشاعر عبده وازن الجديدة «لا وجه في المرآة». وهذه المجموعة يمكن أن نعدها، مع شيء من التجوز، من الأعمال السير ذاتية الشعرية التي أقدم على كتابتها الشاعر بنباهة فائقة وحس استعاري مرهف. فنصوص هذه المجموعة تنطوي على أمشاج من العناصر والإشارات التي تحيل إلى تاريخ أنا الشاعر، وتسلط الضوء على أسئلتها الروحية والشعرية والعاطفية... فالعلائق واضحة بين أنا الشاعر الأصلية وأناه المتلفظة في الخطاب؛ كل القصائد تشير إلى هذه العلائق بطرائق شتى، ويأتي ضمير المتكلم مع بدائله الكثيرة ليؤكدها.
هذا الضرب من الكتابة السير ذاتية ظل يراوح، داخل الديوان، بين أسلوبين في الكتابة مختلفين مؤتلفين: البوح والسرد، أي يراوح بين الارتداد إلى الذات، يكتب أساطيرها وأسئلتها، وبين تصوير هذه الذات في علاقتها بكائنات أخرى. الديوان كله حركة ذهاب وإياب بين الداخل والخارج، بين الأنا والآخر، بين الوجه والمرآة. هذه المؤاخاة بين كينونة الشعر وصيرورة القص تعد من أخص ملامح الكتابة الشعرية لدى عبده وازن.
لكن عناصر السيرة الذاتية ومقوماتها لا تتجلى واضحة بينة في القصائد الشعرية، فهي تأتي ملفعة بالاستعارات والصور، متخفية وراء المجاز، فلا تعلن عن قوانينها إلا مواربة. هنا، الشعر يبسط قوانينه على الخطاب، ويحول اللغة إلى رموز وإشارات، بحيث تذوب كل الأجناس الأخرى التي استلهمها الشاعر في الشعر، لتصبح عنصراً مكيناً من عناصره.
ولعل أول ما يستوقفنا في هذه المجموعة عنوانها (لا وجه في المرآة)، لأسباب كثيرة لعل أهمها: أولاً، انطواؤه على معان أسطورية شتى، فالمرآة من الرموز الميثيولوجية التي ترددت في التراث الإنساني تردداً لافتاً، بوصفها جسر عبور من عالم إلى آخر، ومن حال إلى حال أخرى. كما ترددت بوصفها رمزاً للشبيه والقرين والآخر. وثانياً، قيامه على مفارقة تلفت الانتباه. فإذا كانت المرآة تنهض عادة بفعل الانعكاس، فتنقل صورة العالم وتعيده إلى الناظر دون تغيير أو تحوير، فإن مرآة الشاعر كفت عن هذا الفعل، وباتت صفحة بيضاء.
إننا لا نستطيع أن نفهم سبب تعطل المرآة عن النهوض بفعل الانعكاس، إلا إذا عدنا إلى نصوص الديوان، خصوصاً قصيدتين اثنتين تحملان عنواناً واحداً، هو «الشبح». وهاتان القصيدتان تتقاطعان، بنية ودلالة.
جاء في قصيدة «شبح» الأولى:
لا وجه لي في المرآة
لا عينين لي أخبئ فيهما سماء
الشعاع الذي عبر محا صورتي
وصرت كالطيف لا يبصره أحد.
وجاء في قصيدة «شبح» الثانية:
لا يفارقني هذا الشبح
هو أنا نفسي
ولكن نائماً وربما ساهراً
في حانة يملؤها غرباء
هاتان القصيدتان تشيران إلى أن صورة الشاعر لم تظهر في المرآة لأن الشاعر نفسه قد تحول إلى «شبح»، كما في الأساطير القديمة، أي أنه فقد حضوره المادي، وبات مجرد طيف لا يراه أحد، كما جاء في القصيدة الأولى. وبذلك فقد، كما في الميثيولوجيا القديمة، ظله وقرينه، وبات دون هذا الآخر الذي يمنحه حضوره، أي هويته، أي وجوده. وصورة «الشبح»، كما صورة المرآة، تشع بدلالات أسطورية شتى، وظفها الشعراء منذ القديم في مساقات كثيرة.
ومن هاتين القصيدتين، استمد الشاعر عنوان مجموعته، بل إن العنوان نفسه مدرج ضمن القصيدة الأولى.
والواقع أن رمز المرآة لم يقتصر على العنوان فحسب، بل تسرب إلى قصائد كثيرة من المجموعة، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه كان من الرموز الرئيسة المولدة للدلالات داخل هذه المجموعة، بحيث لا يختفي حتى يعاود الظهور من جديد. وإنه لأمر ذو دلالة أن يستدعي الشاعر بدائل كثيرة للمرآة، تؤدي دورها وتقوم بوظيفتها، مثل الماء، والبئر، والسماء.
وظلت قصيدة وازن قصيدة مغامرة، تؤسس كيانها الشعري من خلال استرفادها لمجالات معرفية شتى، تغنيها وتمدها بطاقات تعبيرية كبرى. فالقصيدة هنا انفتاح على الثقافة الإنسانية، مجمل الثقافة الإنسانية، توظف رموزها وأقنعتها ومجمل أساطيرها؛ كل ذلك من أجل خلق شعريتها المخصوصة التي تقول أسئلة الشاعر الذاتية والوجودية والحضارية.
ومن وجوه هذه المغامرة التي أقدم عليها هذا الشعر تأمله سؤال الشعر. فالقصيدة هنا لم تكتفِ بنقل تجربة الشاعر، بل عمدت إلى نقل تجربتها الخاصة؛ إنه «الشعر على الشعر» في المصطلح القديم، و«ميتا شعر» في المصطلح الحديث، حيث تنعكس القصيدة على ذاتها، وتلتفت إلى حضورها، وتثير مجمل أسئلتها. وهذه المجموعة ضمت عدداً من النصوص التي كان محورها سؤال الشعر. ومن اللافت للنظر أن القصيدة الأولى في هذه المجموعة تدور حول السرقة، وتشير القصيدة بذلك إلى «السرقة الشعرية»، حيث يعمد الشاعر إلى إباحتها، بوصفها بناء لنص جديد على أنقاض نص قديم:
«إن أعجبتك قصيدة، وتمنيت لو كنت صاحبها... اسرقها بلا تردد، إنها كتبت لتكون لك أيضاً، صاحبها كتبها وكفى».
لكنّ الشاعر يشترط على «المنتحل» أن يضيف إلى القصيدة، أن ينفخ فيها روحاً جديدة، أن يلغي كل العلائق التي تصلها بالشاعر الأول: «لا تدعْ فيها أثراً لصاحبها؛ هذه ليست خيانة، فالمهم أن يكون الشاعر سارقاً ماهراً».
وفي هذه القصيدة، تتقاطع كثير من آراء النقاد المعاصرين حول طبيعة النص الأدبي. ففيها إشارات واضحة لنظرية موت المؤلف لرولان بارت، ولصورة الطرس لجيرار جينات، ولنظرية تعالق النصوص لجوليا كريستيفا، بل نظفر داخلها بإلماعات تذكر بكتب النقد العربية القديمة التي انعطفت على قضية السرقات الشعرية بالنظر والتأويل.
لم يكتفِ عبده وازن بالإشارة إلى طبيعة «الانتحال المبدع»، بل أقدم على كتابة أنموذج لهذا الضرب من الانتحال، من خلال قصيدته «النفري منحولاً»، حيث استحضر لازمة النفري: «أوقفني في»، كما استحضر الكتابة الشذرية، لكنه أثار أسئلة هي بتجربة الشاعر الحديث أمس رحماً.
أوقفني في الحيرة فقال:
لقد وشحوا وجهي بالدم
ثم أوقفني في الحيرة فقال: ما ندمت البتة مثلما أندم الآن
ثم أوقفني في الحيرة فقال: ليتها تنساني خليقتي
لقد استرفد الشعر الحديث، وهو يتأمل ذاته في مرآة اللغة، أسئلة النقد الحديث، وباشرها على نحو مخصوص، وربما ارتد ذلك إلى كون الشاعر الحديث بات، في أغلب الأحيان، شاعراً ناقداً، فهو، إذا أخذنا بعبارات أدونيس، «يحيا بين سورتين: سورة القلب تتفطر شعراً، وسورة الذهن تتلألأ نظراً»، فهو يحدس ويفكر وينفعل ويتأمل.
هذه الظاهرة، ظاهرة الشعر على الشعر، شملت قصائد كثيرة داخل الديوان، وأثارت قضايا موصولة بفعل الكتابة. من هذه القصائد نذكر على سبيل التمثيل: «صوت مبحوح»، و«ذاكرة»، و«متسولو الأبد».
هكذا، تحول الشعر إلى خطاب استعاري يوسع من دائرة معرفتنا، ويتيح لنا استجلاء ما استخفى في نفوسنا، وما استسر في العالم من حولنا. لا شك أن الشعر «يتأمل»، لكن طرائقه في التأمل تختلف عن الطرائق التي يتوسل بها الخطاب العقلي. الشعر لا يعول على البرهان والمنطق في إدراك الحقائق، وإنما على الحدس والبصيرة، لهذا يقدم لنا ضرباً من المعرفة المخصوصة التي تختلف اختلافاً بيناً عن المعرفة التي يقدمها العلم والفلسفة. ويعد ديوان عبده وازن أنموذجاً لهذه الكتابة الجديدة التي تتأمل شعرياً أسئلة الكائن في قوته وهشاشته:
«الغرباء نحن، الذين لا يملكون ما يلقون عليه أسمالهم، متسولو الأبد الذين لم يحظوا بنظرة تملأ قعر كأسهم عندما يأخذ بنا التعب، لا نجد حجراً نلقي عليه رؤوسنا».
- كاتب تونسي


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!