«اللايف تشات»... رهان «داعش» للتواصل

لتعويض خسائره على «تويتر» و«تليغرام»

موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)
موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)
TT

«اللايف تشات»... رهان «داعش» للتواصل

موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)
موقع تابع لتنظيم {داعش} يعلن تبنيه استهداف قوات أميركية في الشدادي شرق سوريا (الشرق الأوسط)

رغم فقد «داعش» لصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر» و«تليغرام» و«فيسبوك»، فإنه بات يراهن على استخدام تطبيقات برامج «اللايف تشات» التي تتميز بخصائص التراسل الفوري، والقدرة على الانتشار كالقنوات، وإرسال الملفات، والبث الصوتي والمرئي، بصورة أكثر أماناً.
في حين قال باحثون وخبراء إن تنظيم داعش يهدف من التطبيقات الجديدة إلى تجنيد موالين جُدد، وتوجيه عناصره، والتوسع بعد انهياره وسقوط معاقله في سوريا والعراق وكثير من الدول، قلل الخبير الإعلامي الدكتور محمود الصاوي، وكيل كلية الإعلام بجامعة الأزهر، من صحة فرضية توسع التنظيم الإرهابي عبر التطبيقات الجديد، قائلاً: سقطت أقنعة «داعش» المتشدد، وصار كثيرون على قناعة بأنه صنيعة لا تستهدف الخير للمسلمين، بل جلب لهم كل شر ووباء، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «لا أعتقد أن (داعش) يكتسب أرضاً أو عقلاً جديداً، لكنه يستغل أوضاع الخراب والدمار في كثير من دول العالم، التي هو أحد أهم أسبابها، ويحاول أن يستغل ذلك في كسب أنصار من المغرر بهم، لكن هذا لن يحدث مع يقظة الدول.
يشار إلى أن المكافحة الإلكترونية التي شنتها إدارات «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، إضافة إلى هجمات القرصنة الإلكترونية لمواقع «داعش» التي أدت إلى انخفاض استخدام التنظيم بشكل كبير لمواقع التواصل الاجتماعي، ساعدت بشكل فعال في ترنح وسائل تواصل التنظيم خلال الأشهر الماضية، خصوصاً عقب هزائمه في سوريا والعراق.

ذئاب منفردة

في دراسة حديثة، أشارت دار الافتاء المصرية إلى أن «التنظيمات المتطرفة توسعت في استخدام شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، باعتبارها ملاذاً آمناً لبث أفكارهم المتطرفة، ولتنفيذ مشروعها الآيديولوجي».
الدراسة التي جاءت بعنوان «استراتيجيات وآيديولوجيات الجماعات الإرهابية في تجنيد الشباب عبر الإنترنت»، والتي أعدها مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، أكدت أن «شبكات ومواقع ومنصات التواصل الاجتماعي تمثل جامعة إلكترونية لإعداد وتجنيد (الذئاب المنفردة)، وأداة خصبة لنشر أفكارهم المتطرفة، حيث تقوم تلك التيارات بتصنيف مواقع التواصل وفق استخدامه المناسب».
وصنّفت دراسة الافتاء مواقع التواصل وفق استغلال «داعش»، حيث أكدت أن «فيسبوك» يساعد التنظيم في تجنيد «الذئاب المنفردة» بسهولة، عبر استدراج الشباب وتجنيدهم بطريقة غير مباشرة. أما «تويتر»، فيستخدم لنشر الأخبار الترويجية للأفكار المتطرفة، و«تليغرام» للمساهمة في نشر أدبيات التنظيم وكتاباته، وروابط تقاريره المصورة والمرئية، لترويج نجاحه المزيف في ساحات القتال، في حين يستغل التنظيم قنوات «اليوتيوب» لتمكين مشاركيه من تحميل الفيديوهات قبل الحذف، حيث إن نظام المراقبة الخاص بالموقع يتم بعد رفع الفيديوهات عليه.

منصة ترويج

قال عدد من الباحثين في مرصد الأزهر بالقاهرة إن الجبهة الإعلامية للتنظيم المتطرف، ونشاطه الدعائي عبر مختلف المنصات، كانت عاملاً في غاية الأهمية للترويج لفكره المتطرف منذ ظهور التنظيم، واستقطاب كثير من المقاتلين الأجانب، إذ لم يترك التنظيم وسيلة أو منصة يمكنه من خلالها الترويج لما يقوم به، أو محاولة ضم أتباع جدد، إلا استخدمها، لذلك فهو يحاول مرة أخرى العودة لهذه المنصات لتعويض الخسائر.
وأكد الباحثون لـ«الشرق الأوسط» أنه عقب إجبار سلطات الدول لمنصات التواصل على حذف المحتوى المتطرف، وحظر الحسابات التي تساعد في نشر هذا المحتوى، اتجه التنظيم إلى المنصات المشفرة مثل «تلغرام» لكي يضمن سلامة عناصره، الذين يواصلون نشر أفكارهم، لكنه تم حجب «تلغرام» أيضاً.
وعلقت «تويتر»، منذ يوليو (تموز) 2015 حتى يوليو 2016، ما لا يقل عن 360 ألف حساب. واستخدم «يوتيوب» تقنية «Jigsaw»، التي تعمل ضد التطرف والعنف والمضايقات عبر الإنترنت. فعندما يبحث أحد الأشخاص عن كلمات رئيسية معينة، يُوجه المستخدم لقائمة من مقاطع الفيديو التي تتضمن محتوى يعارض التطرف.

حظر المحتوى

وفي السياق ذاته، أكد مرصد الأزهر، في تقرير حديث له، أن جهوداً كثيرة بذلت في مجال حظر المحتوى المتطرف، والحسابات التي تنشر مثل هذه المحتوى، وقد أدى هذا بالفعل إلى تقليل حجم الوجود الإعلامي لجماعات التطرف على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية، وساعد في هذا أيضاً إنهاء سيطرة التنظيم المتطرف على مساحات واسعة، وبالتالي تقليل موارده، واضطراره إلى وقف إصدار كثير من المجلات التي اعتاد على نشرها شهرياً، وبكثير من اللغات.
وقال مرصد الأزهر: «برزت كثير من التحديات نتيجة هذا النهج الإعلامي للتنظيم المتطرف، حيث إنه مع تلقيه الهزائم، توجه بإعلامه إلى وجهة جديدة، ركز فيها على أتباعه الأجانب الذين لم يتمكنوا من الانضمام إليه في سوريا والعراق، وتركز النهج الجديد على حث هذه العناصر البعيدة عن مركز التنظيم على القيام بعمليات في محيطهم، مستخدمين ما يتاح لهم من مواد، ومحدثين أكبر عدد ممكن من الخسائر، وهو ما يطلق عليه عمليات (الذئاب المنفردة)، فضلاً عن دعوته لعناصره حول العالم للقيام بتصوير العمليات التي يقومون بها لكي يتم نشرها، باعتبار أن من قام بذلك هو (داعش)، ويعد هذا تحدياً كبيراً للأجهزة الأمنية التي لا يمكن لها في كثير من الأحيان التيقن من كون القائم بالعملية الإرهابية من المنتمين لـ(داعش) أم لا».

استقطاب الشباب

وعن استراتيجية «داعش» على منصات التواصل، أكد مرصد الأزهر في تقريره أنها انشغلت بالترويج لأفكاره، وإقناع الناس بها، والدفاع عن سمعته، إضافة إلى خلق صورة ذات تأثير مزدوج، قادرة على الجذب والإرهاب في الوقت ذاته، والمستهدف الأول هم الشباب الذين يسعى التنظيم إلى استقطابهم وضمهم إلى صفوفه القتالية، بجانب جذب مزيد من الأتباع. أما المستهدف الثاني، فهم عامة الجمهور ممن يهدف التنظيم إلى إثارة شعور واسع النطاق بالخوف وانعدام الأمن لديهم، فهذا دون شك يصب في مصلحة الدواعش أيضاً.
وأكد الدكتور الصاوي أنه لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي نتاج هذين العقدين الأخيرين، وتتزايد وتيرتها يوماً بعد يوم، وتستغلها الجماعات المتشددة بشكل كبير في نشر أفكارها وقناعاتها، وجلب الشباب إليها، لعلمهم بحالة الإدمان التي وصل إليها آلاف الشباب للإنترنت ومشتقاته، مضيفاً أن هذه الوسائل من النعم التي أنعم الله بها على البشرية، لكن هذه الجماعات بهذه المضامين المتشددة التي تشحن بها هذه الوسائل، وتملأ بها هذه التقنيات بكميات هائلة من الرسائل، تحدث بلبلة في العقول وتفتيتاً للصفوف وتشظياً في الأفكار والمفاهيم.
وقال المراقبون إن الدعاية الإعلامية لـ«داعش» على مواقع التواصل عملت على تحسين صورة التنظيم، وتبرير جرائمه الوحشية، وتصويره على أنه حامل لواء الخلافة المزعومة، لكن كل هذا انكشف نتيجة الخسائر التي مُني بها في سوريا والعراق.

بقايا «الإخوان»

من جهته، أوضح الدكتور محمود الصاوي أن مشكلة المعلومات التي يبثها التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي تستوجب فلترتها وتصفيتها وتنقيتها من الشوائب الكثيرة التي تختلط بها، وعمل تصحيح مستمر لهذه المفاهيم المغلوطة التي يقدمها ويضلل بها عقول الشباب، مشيداً بالتجربة الرائدة المميزة التي يقوم بها الأزهر، ومرصده العالمي، الذي يتتبع الأفكار الشاذة والمتطرفة والمنحرفة التي تقوم بها هذه الجماعات، لرصدها والتحذير منها، وتفنيد مزاعم هذه التنظيمات.
وفي غضون ذلك، أوضحت دراسة دار الافتاء المصرية أيضاً أن «داعش» يستهدف بممارساته الجديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بقايا جماعة «الإخوان» المتشرذمة، باستغلال الأفكار التي أسس لها منظرو «الإخوان» كـ«الخلافة، والدولة، والحاكمية، والجاهلية»، من أجل إقناع عناصر وشباب الجماعة بالانضمام إليه، بهدف تحقيق ما فشلت فيه الجماعات التي أطلقت على أنفسها «الإسلام السياسي»، وهي الأفكار التي تستثير حماسة البعض، وتؤثر على الشباب الذي تجذبه حماسية شعارات براقة ظاهرها نصرة الإسلام والمسلمين، لكن في باطنها التدمير والخراب.
من جهته، قال الشيخ نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم الجهاد المصري لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإخوان هم أصل العنف في العالم، وجميع جماعات الإرهاب خرجت من رحمها». وتصنف السلطات المصرية «الإخوان» كجماعة إرهابية، وتشير المعلومات إلى تحول قطاع عريض من شباب الجماعة والتيار الإسلامي، عقب عزل محمد مرسي عن الحكم في 2013، إلى تبني العنف، وقد هاجر العشرات من «الإخوان» إلى سوريا في أثناء حكم مرسي، وانضموا إلى تنظيم «جبهة النصرة»، ثم انتقلوا إلى «داعش». وأكدت دراسة الافتاء أنه خلال الفترة الأخيرة، ازداد نشاط المؤسسات المناصرة لتنظيم داعش، بتزويد «الذئاب المنفردة» التابعة للتنظيم بكم هائل من الكتيبات والإرشادات التي تشرح كيفية صناعة العبوات الناسفة والمتفجرات، وكيفية صناعة الأسلحة والسموم والأحزمة الناسفة، لاستخدامها في العمليات الإرهابية، مما يشكل خطورة كبيرة على أمن واستقرار المنطقة.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.