العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

معادلات السياسة وضعته في مواجهة المأزق العراقي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي
TT

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

حتى اللحظة التي جرى فيها الإعلان عن انشقاق حيدر العبادي القيادي البارز في حزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه نوري المالكي، كان أكثر ما يفتخر به ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي أيضا هو التماسك الذي أظهره بوجه كل محاولات التفتيت التي سعى إليها شريكه وخصمه وغريمه في التحالف الوطني الشيعي، الائتلاف الوطني الذي يضم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم.
في وقت كان فيه الترشيح لمنصب رئيس الوزراء المقبل يكاد يكون حكرا من جهة دولة القانون على المالكي حصرا رغم وجود قياديين كبار في ائتلافه من أمثال حسين الشهرستاني (نائب رئيس الوزراء ورئيس كتلة مستقلون) وهادي العامري (وزير النقل وزعيم منظمة بدر) بالإضافة إلى قياديين في الدعوة نفسه ومن أبرزهم علي الأديب (وزير التعليم العالي) وطارق نجم (مدير مكتب المالكي) فإن الأنظار لم تكن تتجه كثيرا على العبادي.
وبينما انعدمت فرص العبادي تماما في أن يكون بديلا اضطراريا للمالكي من قبل دولة القانون فيما لو حصلت تطورات تطلبت تغيير المالكي من داخل ائتلافه لا سيما بعد انتخابه نائبا أول لرئيس البرلمان بترشيح من دولة القانون وتزكية من التحالف الوطني، فإن التطورات التي بدت لافتة للنظر للجميع ولكنها بمثابة الصاعقة أو التسونامي بالنسبة للمالكي والدائرة المحيطة به والمقربة منه والتي قضت بانشقاق العبادي من الدعوة وخروج الشهرستاني والفضيلة من دولة القانون ووقوف إبراهيم الجعفري الذي كان أحد الطامحين بالمنصب بالضد من المالكي فإنها مثلت أكبر هزة يتعرض لها دولة القانون بعد ثمانية أعوام من السلطة والنفوذ.
ويرى مراقبون سياسيون أن ترشيح العبادي لمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان مرشح من قبل المالكي وقيادة حزب الدعوة باعتبار أن منصب مسؤول المكتب السياسي للحزب والناطق الرسمي باسمه إنما جاءت إرضاء لطموحات الرجل المتزايدة فإن هناك من يرى أنها مسعى من المالكي للتخلص من رجل قد يبدو طامعا في منصب لن يناله أبدا بوجود المالكي. لكن رياح العبادي جرت بما لا تشتهي سفن المالكي. ففي وقت أهدر المالكي فرصة تاريخية أمامه في أن يبقى في دائرة الضوء من خلال ترشحه هو شخصيا إلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية في حال تنازله مقابل أن يجري ترشيح مدير مكتبه طارق نجم لرئاسة الوزراء مع بقاء العبادي نائبا أول لرئيس البرلمان والأهم بقاء حزب الدعوة ودولة القانون موحدين.

* نهاية البيت الشيعي

* مع انتهاء المهلة الدستورية والتي خضعت إلى تمديد قسري وحيال إمكانية اضطرار رئيس الجمهورية إلى إعادة تكليف المالكي لولاية ثالثة بوصفه صاحب الكتلة الأكثر عددا ما لم تتشكل كتلة أكبر منها فلم يعد أمام الرافضين للمالكي من التحالف الشيعي سوى أن يقبلوا بالعبادي بعد أن بدا أنه مستعد للانشقاق ومعه كتلتان مهمتان وهما (مستقلون والفضيلة) بالإضافة إلى قيادات من حزب الدعوة في سادس انشقاق للحزب الذي تأسس أواخر خمسينات القرن الماضي. شيعيا يرى رجل الدين الشيعي والأكاديمي عبد الحسين الساعدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل انقلاب خطير داخل البيت الشيعي لن يغفر التاريخ لحيدر العبادي وإبراهيم الجعفري ما قاما به وأريد القول هنا إنني لست بالضرورة مؤيدا لتوجهات التحالف الوطني لا سيما خلال الدورة البرلمانية التي انتهت والتي حاول من خلالها المالكي احتواء الجميع بالإضافة إلى كونهم جميعا غلبوا مصالحهم الشخصية على مصالح الطائفة (الشيعية) والوطن لكن أقول إن القرار السياسي في العراق الذي كان يهيمن عليه الشيعة طوال السنوات الـ11 الماضية من التغيير لم يعد شيعيا». ويضيف الساعدي أن «العبادي الذي يعد من كبار قادة حزب الدعوة وممن له تاريخ في هذا الحزب لا يمكن نكرانه فإنه الآن ومن أجل مصالح السلطة انقلب هو الآخر على رفاقه مثلما فعل المالكي والجعفري قبله وملخص ذلك أن السلطة والنفوذ والكراسي جعلتهم يفقدون توازنهم ويضيعون تاريخهم والوطن كذلك». ويرى الساعدي أن «العبادي لا يملك مواصفات عالية لرجل الدولة الذي يمكن أن يقود بلدا ممزقا مثل العراق خلال السنوات المقبلة وبالتالي فإنه سيواجه أولا مهمة صعبة وسيكون مضطرا لإعطاء تنازلات كبيرة للسنة والأكراد كما أتوقع أنه سيدور في الفلك الأميركي وليس الإيراني لأن إيران وبعد أن حظي العبادي بكل هذا الدعم الأميركي سوف تبقى تنظر إليه على أنه الرجل الذي أنهى القرار الشيعي شأنه في ذلك شأن المالكي الذي تنكر أخيرا للتحالف الوطني الذي أوصله إلى رئاسة الوزراء مرتين وبدأ يتحدث عن دولة القانون ككتلة أكبر» مشيرا إلى أنه «من باب المفارقة أنه في الوقت الذي كنا نتوقع أن يكون للعلمانيين والمدنيين دور بارز في سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين فإن ما يلفت النظر أن البيت الشيعي انتهى على يد كبار قادة الأحزاب الإسلامية وفي المقدمة منها الدعوة».

* تكنوقراط ديني

* السيرة الذاتية للرجل تشير إلى توجهات تبدو متناقضة في آن واحد. فرغم أنه ينتمي إلى أسرة علمية (والده طبيب) فإن توجهاته الدينية بدت مبكرة حين انضم لحزب الدعوة عام 1967 وهو في الـ15 من العمر (العبادي من مواليد بغداد عام 1952 في محلة الكرادة المعروفة). وبالتوازي مع هذه التوجهات الدينية التي كلفته كثيرا (إعدام اثنين من أشقائه من قبل نظام صدام حسين) ومطاردته هو شخصيا فإنه أمضى مسيرته الدينية والعلمية في بريطانيا التي أكمل فيها دراساته العليا في هندسة الكهرباء والإلكترونيات (الماجستير والدكتوراه عام 1980). وفي بريطانيا نفسها تولى مسؤولية مكتب الشرق الأوسط لحزب الدعوة. وبينما أصبح عضوا في القيادة التنفيذية للحزب فإنه تخصص في (هندسة الكهرباء والإلكترونيات) ومضى بعيدا في توجهاته الدينية إلى الحد الذي أصدر مؤلفات في هذا الجانب من بينها كتاب «المختصر في تفسير القرآن». وبينما عاد العبادي مع العائدين من أمثاله من قيادات الأحزاب الإسلامية بعد سقوط النظام العراقي السابق عام 2003 فإنه تولى وزارة الاتصالات في عهد مجلس الحكم الانتقالي عام 2003 ومن ثم انتخب لعضوية البرلمان العراقي لدورتين وتولى في الدورة الأخيرة رئاسة اللجنة المالية في البرلمان. ومع أنه من وجهة نظر القيادي في تحالف القوى العراقية (الكتلة السنية في البرلمان العراقي) محمد الخالدي الذي شغل في الدورة الماضية منصب مقرر البرلمان العراقي الذي يصف العبادي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بأنه «كان من المدافعين الأقوياء عن سياسات رئيس الوزراء نوري المالكي ظالما أم مظلوما إلا أننا نرى أن ما حصل هو أمر مهم للتغيير الذي كنا ننتظره».
وحول ما إذا كانت القوى السنية تراهن على العبادي الخارج توا من حزب الدعوة ومدى إمكانية تعاونها معه يقول الخالدي إن «في السياسة كل شيء ممكن وبالتالي فإننا ننظر إلى ما حصل على أنه خطوة أولى نحو ما كنا نطمح إليه لكننا يجب ألا نفرط في التفاؤل». ورغم أن الخالدي يحاول إخفاء نبرة التشاؤم من ألا يكون العبادي الخلف المطلوب للمالكي وهو القيادي البارز في حزب إسلامي شمولي وأحد رفاق المالكي والمدافعين عنه وبالتالي فإن ما جعله ينقلب على رفيق دربه هو المنصب، إلا أنه يرى أن الأهم بالنسبة لنا هو المنهج الذي يجب أن يتغير وليس الأشخاص فقط لأن تغيير الأشخاص مع بقاء المنهج نفسه فكأننا لم نعمل شيئا». ويربط الخالدي تعاون السنة مع العبادي بإمكانية «تحقيق ما انتفضت من أجله المحافظات الغربية وإعادة التوازن المفقود للعملية السياسية». السياسي العراقي المعروف والقيادي السابق في ائتلاف دولة القانون عزت الشابندر يرى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل أمر مهم باختيار بديل للمالكي من داخل التحالف الوطني وبإرادة عراقية ودون إملاءات إيرانية وهو التغيير الذي حصل على دعم داخلي ودولي في غاية الأهمية» مشيرا إلى أن «المالكي حاول أن يغير المعادلة السياسية بالقوة عندما حرك الأجهزة الأمنية لليلة كاملة ومن ثم اضطر إلى اللجوء للقضاء لحسم الأمر الذي قضي لغيره». وبشأن ترشيح حيدر العبادي لخلافة المالكي فإن للشابندر وجهة نظر قد تبدو مختلفة عن وجهة نظره السابقة عن العبادي حين وصفه في لقاء تلفزيوني بألفاظ نابية حيث يرى اليوم أن «العبادي وإن كان حزبيا إلا أنه رجل مدني وهو من عائلة بغدادية وسوف ينفتح على الحياة المدنية وهو ما تتطلبه الظروف في الوقت الحاضر».

* العبادي والخروج من شرنقة الصفقة الواحدة

* للمرة الأولى في تاريخ العملية السياسية في العراق تأتي الرئاسات الثلاث طبقا إما لتسويات أو انقلابات داخل الكتل السياسية الرئيسة (الشيعية والسنية والكردية) التي تنتج الرئاسات الثلاث.
ففي الدورتين البرلمانيتين الماضيتين كان يجري انتخاب الرئاسات الثلاث طبقا لسلة أو صفقة واحدة بحيث يجري التصويت على الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والبرلمان والوزراء) عبر سلة واحدة يتفق عليها بين الزعامات السياسية العليا بحيث تأتي «الطبخة» جاهزة أمام البرلمان الذي يتعين عليه التصويت على الثلاثة معا. لكن في هذه الدورة اختلف الأمر. فالكتلة السنية التي ترشح رئيس البرلمان لم تنسق مع كتلتي الشيعة والكرد بشأن ذلك. بل تمت عملية الاختيار بانتخاب داخلي وهو ما أفرز سليم الجبوري (دكتوراه في القانون) ليتولى منصب رئيس البرلمان. والأمر نفسه حصل لكتلة التحالف الكردستاني التي اختارت عبر انتخابات داخلية فؤاد معصوم (دكتوراه في الفلسفة الإسلامية) رئيسا للجمهورية. أما ما حصل داخل الكتلة الشيعية فهو انقلاب داخل هذه الكتلة جرى بموجبه اختيار حيدر العبادي لأنه دون هذه الصيغة فإنه من غير الممكن أن ينجح نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون الذي يصر على أنه الكتلة الأكبر في البرلمان على تشكيل الحكومة من خلال عدم قدرته على نيل الثقة داخل البرلمان بسبب مقاطعة الكتل السياسية له. وطبقا لما يراه المراقبون السياسيون فإنه في الوقت الذي نجحت فيه الكتل السياسية ورغم الأزمة الخطيرة التي تمر بها البلاد بعدم تخطي المدد الدستورية الخاصة باختيار الرئاسات الثلاث بعكس ما حصل عام 2010 حين بقيت الجلسة البرلمانية الأولى مفتوحة لسبعة أشهر فإنها نجحت أيضا بأن يجري الاختيار من داخل كل كتلة ولكن بنوع من الانسجام الذي يمكن أن ينعكس على أداء هذه الرئاسات التي كانت تجربتها خلال الأربع سنوات الماضية سلبية جدا لا سيما العلاقة بين رئاستي الوزراء والبرلمان.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.