العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

معادلات السياسة وضعته في مواجهة المأزق العراقي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي
TT

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

حتى اللحظة التي جرى فيها الإعلان عن انشقاق حيدر العبادي القيادي البارز في حزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه نوري المالكي، كان أكثر ما يفتخر به ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي أيضا هو التماسك الذي أظهره بوجه كل محاولات التفتيت التي سعى إليها شريكه وخصمه وغريمه في التحالف الوطني الشيعي، الائتلاف الوطني الذي يضم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم.
في وقت كان فيه الترشيح لمنصب رئيس الوزراء المقبل يكاد يكون حكرا من جهة دولة القانون على المالكي حصرا رغم وجود قياديين كبار في ائتلافه من أمثال حسين الشهرستاني (نائب رئيس الوزراء ورئيس كتلة مستقلون) وهادي العامري (وزير النقل وزعيم منظمة بدر) بالإضافة إلى قياديين في الدعوة نفسه ومن أبرزهم علي الأديب (وزير التعليم العالي) وطارق نجم (مدير مكتب المالكي) فإن الأنظار لم تكن تتجه كثيرا على العبادي.
وبينما انعدمت فرص العبادي تماما في أن يكون بديلا اضطراريا للمالكي من قبل دولة القانون فيما لو حصلت تطورات تطلبت تغيير المالكي من داخل ائتلافه لا سيما بعد انتخابه نائبا أول لرئيس البرلمان بترشيح من دولة القانون وتزكية من التحالف الوطني، فإن التطورات التي بدت لافتة للنظر للجميع ولكنها بمثابة الصاعقة أو التسونامي بالنسبة للمالكي والدائرة المحيطة به والمقربة منه والتي قضت بانشقاق العبادي من الدعوة وخروج الشهرستاني والفضيلة من دولة القانون ووقوف إبراهيم الجعفري الذي كان أحد الطامحين بالمنصب بالضد من المالكي فإنها مثلت أكبر هزة يتعرض لها دولة القانون بعد ثمانية أعوام من السلطة والنفوذ.
ويرى مراقبون سياسيون أن ترشيح العبادي لمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان مرشح من قبل المالكي وقيادة حزب الدعوة باعتبار أن منصب مسؤول المكتب السياسي للحزب والناطق الرسمي باسمه إنما جاءت إرضاء لطموحات الرجل المتزايدة فإن هناك من يرى أنها مسعى من المالكي للتخلص من رجل قد يبدو طامعا في منصب لن يناله أبدا بوجود المالكي. لكن رياح العبادي جرت بما لا تشتهي سفن المالكي. ففي وقت أهدر المالكي فرصة تاريخية أمامه في أن يبقى في دائرة الضوء من خلال ترشحه هو شخصيا إلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية في حال تنازله مقابل أن يجري ترشيح مدير مكتبه طارق نجم لرئاسة الوزراء مع بقاء العبادي نائبا أول لرئيس البرلمان والأهم بقاء حزب الدعوة ودولة القانون موحدين.

* نهاية البيت الشيعي

* مع انتهاء المهلة الدستورية والتي خضعت إلى تمديد قسري وحيال إمكانية اضطرار رئيس الجمهورية إلى إعادة تكليف المالكي لولاية ثالثة بوصفه صاحب الكتلة الأكثر عددا ما لم تتشكل كتلة أكبر منها فلم يعد أمام الرافضين للمالكي من التحالف الشيعي سوى أن يقبلوا بالعبادي بعد أن بدا أنه مستعد للانشقاق ومعه كتلتان مهمتان وهما (مستقلون والفضيلة) بالإضافة إلى قيادات من حزب الدعوة في سادس انشقاق للحزب الذي تأسس أواخر خمسينات القرن الماضي. شيعيا يرى رجل الدين الشيعي والأكاديمي عبد الحسين الساعدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل انقلاب خطير داخل البيت الشيعي لن يغفر التاريخ لحيدر العبادي وإبراهيم الجعفري ما قاما به وأريد القول هنا إنني لست بالضرورة مؤيدا لتوجهات التحالف الوطني لا سيما خلال الدورة البرلمانية التي انتهت والتي حاول من خلالها المالكي احتواء الجميع بالإضافة إلى كونهم جميعا غلبوا مصالحهم الشخصية على مصالح الطائفة (الشيعية) والوطن لكن أقول إن القرار السياسي في العراق الذي كان يهيمن عليه الشيعة طوال السنوات الـ11 الماضية من التغيير لم يعد شيعيا». ويضيف الساعدي أن «العبادي الذي يعد من كبار قادة حزب الدعوة وممن له تاريخ في هذا الحزب لا يمكن نكرانه فإنه الآن ومن أجل مصالح السلطة انقلب هو الآخر على رفاقه مثلما فعل المالكي والجعفري قبله وملخص ذلك أن السلطة والنفوذ والكراسي جعلتهم يفقدون توازنهم ويضيعون تاريخهم والوطن كذلك». ويرى الساعدي أن «العبادي لا يملك مواصفات عالية لرجل الدولة الذي يمكن أن يقود بلدا ممزقا مثل العراق خلال السنوات المقبلة وبالتالي فإنه سيواجه أولا مهمة صعبة وسيكون مضطرا لإعطاء تنازلات كبيرة للسنة والأكراد كما أتوقع أنه سيدور في الفلك الأميركي وليس الإيراني لأن إيران وبعد أن حظي العبادي بكل هذا الدعم الأميركي سوف تبقى تنظر إليه على أنه الرجل الذي أنهى القرار الشيعي شأنه في ذلك شأن المالكي الذي تنكر أخيرا للتحالف الوطني الذي أوصله إلى رئاسة الوزراء مرتين وبدأ يتحدث عن دولة القانون ككتلة أكبر» مشيرا إلى أنه «من باب المفارقة أنه في الوقت الذي كنا نتوقع أن يكون للعلمانيين والمدنيين دور بارز في سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين فإن ما يلفت النظر أن البيت الشيعي انتهى على يد كبار قادة الأحزاب الإسلامية وفي المقدمة منها الدعوة».

* تكنوقراط ديني

* السيرة الذاتية للرجل تشير إلى توجهات تبدو متناقضة في آن واحد. فرغم أنه ينتمي إلى أسرة علمية (والده طبيب) فإن توجهاته الدينية بدت مبكرة حين انضم لحزب الدعوة عام 1967 وهو في الـ15 من العمر (العبادي من مواليد بغداد عام 1952 في محلة الكرادة المعروفة). وبالتوازي مع هذه التوجهات الدينية التي كلفته كثيرا (إعدام اثنين من أشقائه من قبل نظام صدام حسين) ومطاردته هو شخصيا فإنه أمضى مسيرته الدينية والعلمية في بريطانيا التي أكمل فيها دراساته العليا في هندسة الكهرباء والإلكترونيات (الماجستير والدكتوراه عام 1980). وفي بريطانيا نفسها تولى مسؤولية مكتب الشرق الأوسط لحزب الدعوة. وبينما أصبح عضوا في القيادة التنفيذية للحزب فإنه تخصص في (هندسة الكهرباء والإلكترونيات) ومضى بعيدا في توجهاته الدينية إلى الحد الذي أصدر مؤلفات في هذا الجانب من بينها كتاب «المختصر في تفسير القرآن». وبينما عاد العبادي مع العائدين من أمثاله من قيادات الأحزاب الإسلامية بعد سقوط النظام العراقي السابق عام 2003 فإنه تولى وزارة الاتصالات في عهد مجلس الحكم الانتقالي عام 2003 ومن ثم انتخب لعضوية البرلمان العراقي لدورتين وتولى في الدورة الأخيرة رئاسة اللجنة المالية في البرلمان. ومع أنه من وجهة نظر القيادي في تحالف القوى العراقية (الكتلة السنية في البرلمان العراقي) محمد الخالدي الذي شغل في الدورة الماضية منصب مقرر البرلمان العراقي الذي يصف العبادي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بأنه «كان من المدافعين الأقوياء عن سياسات رئيس الوزراء نوري المالكي ظالما أم مظلوما إلا أننا نرى أن ما حصل هو أمر مهم للتغيير الذي كنا ننتظره».
وحول ما إذا كانت القوى السنية تراهن على العبادي الخارج توا من حزب الدعوة ومدى إمكانية تعاونها معه يقول الخالدي إن «في السياسة كل شيء ممكن وبالتالي فإننا ننظر إلى ما حصل على أنه خطوة أولى نحو ما كنا نطمح إليه لكننا يجب ألا نفرط في التفاؤل». ورغم أن الخالدي يحاول إخفاء نبرة التشاؤم من ألا يكون العبادي الخلف المطلوب للمالكي وهو القيادي البارز في حزب إسلامي شمولي وأحد رفاق المالكي والمدافعين عنه وبالتالي فإن ما جعله ينقلب على رفيق دربه هو المنصب، إلا أنه يرى أن الأهم بالنسبة لنا هو المنهج الذي يجب أن يتغير وليس الأشخاص فقط لأن تغيير الأشخاص مع بقاء المنهج نفسه فكأننا لم نعمل شيئا». ويربط الخالدي تعاون السنة مع العبادي بإمكانية «تحقيق ما انتفضت من أجله المحافظات الغربية وإعادة التوازن المفقود للعملية السياسية». السياسي العراقي المعروف والقيادي السابق في ائتلاف دولة القانون عزت الشابندر يرى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل أمر مهم باختيار بديل للمالكي من داخل التحالف الوطني وبإرادة عراقية ودون إملاءات إيرانية وهو التغيير الذي حصل على دعم داخلي ودولي في غاية الأهمية» مشيرا إلى أن «المالكي حاول أن يغير المعادلة السياسية بالقوة عندما حرك الأجهزة الأمنية لليلة كاملة ومن ثم اضطر إلى اللجوء للقضاء لحسم الأمر الذي قضي لغيره». وبشأن ترشيح حيدر العبادي لخلافة المالكي فإن للشابندر وجهة نظر قد تبدو مختلفة عن وجهة نظره السابقة عن العبادي حين وصفه في لقاء تلفزيوني بألفاظ نابية حيث يرى اليوم أن «العبادي وإن كان حزبيا إلا أنه رجل مدني وهو من عائلة بغدادية وسوف ينفتح على الحياة المدنية وهو ما تتطلبه الظروف في الوقت الحاضر».

* العبادي والخروج من شرنقة الصفقة الواحدة

* للمرة الأولى في تاريخ العملية السياسية في العراق تأتي الرئاسات الثلاث طبقا إما لتسويات أو انقلابات داخل الكتل السياسية الرئيسة (الشيعية والسنية والكردية) التي تنتج الرئاسات الثلاث.
ففي الدورتين البرلمانيتين الماضيتين كان يجري انتخاب الرئاسات الثلاث طبقا لسلة أو صفقة واحدة بحيث يجري التصويت على الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والبرلمان والوزراء) عبر سلة واحدة يتفق عليها بين الزعامات السياسية العليا بحيث تأتي «الطبخة» جاهزة أمام البرلمان الذي يتعين عليه التصويت على الثلاثة معا. لكن في هذه الدورة اختلف الأمر. فالكتلة السنية التي ترشح رئيس البرلمان لم تنسق مع كتلتي الشيعة والكرد بشأن ذلك. بل تمت عملية الاختيار بانتخاب داخلي وهو ما أفرز سليم الجبوري (دكتوراه في القانون) ليتولى منصب رئيس البرلمان. والأمر نفسه حصل لكتلة التحالف الكردستاني التي اختارت عبر انتخابات داخلية فؤاد معصوم (دكتوراه في الفلسفة الإسلامية) رئيسا للجمهورية. أما ما حصل داخل الكتلة الشيعية فهو انقلاب داخل هذه الكتلة جرى بموجبه اختيار حيدر العبادي لأنه دون هذه الصيغة فإنه من غير الممكن أن ينجح نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون الذي يصر على أنه الكتلة الأكبر في البرلمان على تشكيل الحكومة من خلال عدم قدرته على نيل الثقة داخل البرلمان بسبب مقاطعة الكتل السياسية له. وطبقا لما يراه المراقبون السياسيون فإنه في الوقت الذي نجحت فيه الكتل السياسية ورغم الأزمة الخطيرة التي تمر بها البلاد بعدم تخطي المدد الدستورية الخاصة باختيار الرئاسات الثلاث بعكس ما حصل عام 2010 حين بقيت الجلسة البرلمانية الأولى مفتوحة لسبعة أشهر فإنها نجحت أيضا بأن يجري الاختيار من داخل كل كتلة ولكن بنوع من الانسجام الذي يمكن أن ينعكس على أداء هذه الرئاسات التي كانت تجربتها خلال الأربع سنوات الماضية سلبية جدا لا سيما العلاقة بين رئاستي الوزراء والبرلمان.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.