العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

معادلات السياسة وضعته في مواجهة المأزق العراقي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي
TT

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

العبادي.. مهندس الكهرباء الذي «صعق» المالكي

حتى اللحظة التي جرى فيها الإعلان عن انشقاق حيدر العبادي القيادي البارز في حزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه نوري المالكي، كان أكثر ما يفتخر به ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي أيضا هو التماسك الذي أظهره بوجه كل محاولات التفتيت التي سعى إليها شريكه وخصمه وغريمه في التحالف الوطني الشيعي، الائتلاف الوطني الذي يضم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم.
في وقت كان فيه الترشيح لمنصب رئيس الوزراء المقبل يكاد يكون حكرا من جهة دولة القانون على المالكي حصرا رغم وجود قياديين كبار في ائتلافه من أمثال حسين الشهرستاني (نائب رئيس الوزراء ورئيس كتلة مستقلون) وهادي العامري (وزير النقل وزعيم منظمة بدر) بالإضافة إلى قياديين في الدعوة نفسه ومن أبرزهم علي الأديب (وزير التعليم العالي) وطارق نجم (مدير مكتب المالكي) فإن الأنظار لم تكن تتجه كثيرا على العبادي.
وبينما انعدمت فرص العبادي تماما في أن يكون بديلا اضطراريا للمالكي من قبل دولة القانون فيما لو حصلت تطورات تطلبت تغيير المالكي من داخل ائتلافه لا سيما بعد انتخابه نائبا أول لرئيس البرلمان بترشيح من دولة القانون وتزكية من التحالف الوطني، فإن التطورات التي بدت لافتة للنظر للجميع ولكنها بمثابة الصاعقة أو التسونامي بالنسبة للمالكي والدائرة المحيطة به والمقربة منه والتي قضت بانشقاق العبادي من الدعوة وخروج الشهرستاني والفضيلة من دولة القانون ووقوف إبراهيم الجعفري الذي كان أحد الطامحين بالمنصب بالضد من المالكي فإنها مثلت أكبر هزة يتعرض لها دولة القانون بعد ثمانية أعوام من السلطة والنفوذ.
ويرى مراقبون سياسيون أن ترشيح العبادي لمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان مرشح من قبل المالكي وقيادة حزب الدعوة باعتبار أن منصب مسؤول المكتب السياسي للحزب والناطق الرسمي باسمه إنما جاءت إرضاء لطموحات الرجل المتزايدة فإن هناك من يرى أنها مسعى من المالكي للتخلص من رجل قد يبدو طامعا في منصب لن يناله أبدا بوجود المالكي. لكن رياح العبادي جرت بما لا تشتهي سفن المالكي. ففي وقت أهدر المالكي فرصة تاريخية أمامه في أن يبقى في دائرة الضوء من خلال ترشحه هو شخصيا إلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية في حال تنازله مقابل أن يجري ترشيح مدير مكتبه طارق نجم لرئاسة الوزراء مع بقاء العبادي نائبا أول لرئيس البرلمان والأهم بقاء حزب الدعوة ودولة القانون موحدين.

* نهاية البيت الشيعي

* مع انتهاء المهلة الدستورية والتي خضعت إلى تمديد قسري وحيال إمكانية اضطرار رئيس الجمهورية إلى إعادة تكليف المالكي لولاية ثالثة بوصفه صاحب الكتلة الأكثر عددا ما لم تتشكل كتلة أكبر منها فلم يعد أمام الرافضين للمالكي من التحالف الشيعي سوى أن يقبلوا بالعبادي بعد أن بدا أنه مستعد للانشقاق ومعه كتلتان مهمتان وهما (مستقلون والفضيلة) بالإضافة إلى قيادات من حزب الدعوة في سادس انشقاق للحزب الذي تأسس أواخر خمسينات القرن الماضي. شيعيا يرى رجل الدين الشيعي والأكاديمي عبد الحسين الساعدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل انقلاب خطير داخل البيت الشيعي لن يغفر التاريخ لحيدر العبادي وإبراهيم الجعفري ما قاما به وأريد القول هنا إنني لست بالضرورة مؤيدا لتوجهات التحالف الوطني لا سيما خلال الدورة البرلمانية التي انتهت والتي حاول من خلالها المالكي احتواء الجميع بالإضافة إلى كونهم جميعا غلبوا مصالحهم الشخصية على مصالح الطائفة (الشيعية) والوطن لكن أقول إن القرار السياسي في العراق الذي كان يهيمن عليه الشيعة طوال السنوات الـ11 الماضية من التغيير لم يعد شيعيا». ويضيف الساعدي أن «العبادي الذي يعد من كبار قادة حزب الدعوة وممن له تاريخ في هذا الحزب لا يمكن نكرانه فإنه الآن ومن أجل مصالح السلطة انقلب هو الآخر على رفاقه مثلما فعل المالكي والجعفري قبله وملخص ذلك أن السلطة والنفوذ والكراسي جعلتهم يفقدون توازنهم ويضيعون تاريخهم والوطن كذلك». ويرى الساعدي أن «العبادي لا يملك مواصفات عالية لرجل الدولة الذي يمكن أن يقود بلدا ممزقا مثل العراق خلال السنوات المقبلة وبالتالي فإنه سيواجه أولا مهمة صعبة وسيكون مضطرا لإعطاء تنازلات كبيرة للسنة والأكراد كما أتوقع أنه سيدور في الفلك الأميركي وليس الإيراني لأن إيران وبعد أن حظي العبادي بكل هذا الدعم الأميركي سوف تبقى تنظر إليه على أنه الرجل الذي أنهى القرار الشيعي شأنه في ذلك شأن المالكي الذي تنكر أخيرا للتحالف الوطني الذي أوصله إلى رئاسة الوزراء مرتين وبدأ يتحدث عن دولة القانون ككتلة أكبر» مشيرا إلى أنه «من باب المفارقة أنه في الوقت الذي كنا نتوقع أن يكون للعلمانيين والمدنيين دور بارز في سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين فإن ما يلفت النظر أن البيت الشيعي انتهى على يد كبار قادة الأحزاب الإسلامية وفي المقدمة منها الدعوة».

* تكنوقراط ديني

* السيرة الذاتية للرجل تشير إلى توجهات تبدو متناقضة في آن واحد. فرغم أنه ينتمي إلى أسرة علمية (والده طبيب) فإن توجهاته الدينية بدت مبكرة حين انضم لحزب الدعوة عام 1967 وهو في الـ15 من العمر (العبادي من مواليد بغداد عام 1952 في محلة الكرادة المعروفة). وبالتوازي مع هذه التوجهات الدينية التي كلفته كثيرا (إعدام اثنين من أشقائه من قبل نظام صدام حسين) ومطاردته هو شخصيا فإنه أمضى مسيرته الدينية والعلمية في بريطانيا التي أكمل فيها دراساته العليا في هندسة الكهرباء والإلكترونيات (الماجستير والدكتوراه عام 1980). وفي بريطانيا نفسها تولى مسؤولية مكتب الشرق الأوسط لحزب الدعوة. وبينما أصبح عضوا في القيادة التنفيذية للحزب فإنه تخصص في (هندسة الكهرباء والإلكترونيات) ومضى بعيدا في توجهاته الدينية إلى الحد الذي أصدر مؤلفات في هذا الجانب من بينها كتاب «المختصر في تفسير القرآن». وبينما عاد العبادي مع العائدين من أمثاله من قيادات الأحزاب الإسلامية بعد سقوط النظام العراقي السابق عام 2003 فإنه تولى وزارة الاتصالات في عهد مجلس الحكم الانتقالي عام 2003 ومن ثم انتخب لعضوية البرلمان العراقي لدورتين وتولى في الدورة الأخيرة رئاسة اللجنة المالية في البرلمان. ومع أنه من وجهة نظر القيادي في تحالف القوى العراقية (الكتلة السنية في البرلمان العراقي) محمد الخالدي الذي شغل في الدورة الماضية منصب مقرر البرلمان العراقي الذي يصف العبادي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بأنه «كان من المدافعين الأقوياء عن سياسات رئيس الوزراء نوري المالكي ظالما أم مظلوما إلا أننا نرى أن ما حصل هو أمر مهم للتغيير الذي كنا ننتظره».
وحول ما إذا كانت القوى السنية تراهن على العبادي الخارج توا من حزب الدعوة ومدى إمكانية تعاونها معه يقول الخالدي إن «في السياسة كل شيء ممكن وبالتالي فإننا ننظر إلى ما حصل على أنه خطوة أولى نحو ما كنا نطمح إليه لكننا يجب ألا نفرط في التفاؤل». ورغم أن الخالدي يحاول إخفاء نبرة التشاؤم من ألا يكون العبادي الخلف المطلوب للمالكي وهو القيادي البارز في حزب إسلامي شمولي وأحد رفاق المالكي والمدافعين عنه وبالتالي فإن ما جعله ينقلب على رفيق دربه هو المنصب، إلا أنه يرى أن الأهم بالنسبة لنا هو المنهج الذي يجب أن يتغير وليس الأشخاص فقط لأن تغيير الأشخاص مع بقاء المنهج نفسه فكأننا لم نعمل شيئا». ويربط الخالدي تعاون السنة مع العبادي بإمكانية «تحقيق ما انتفضت من أجله المحافظات الغربية وإعادة التوازن المفقود للعملية السياسية». السياسي العراقي المعروف والقيادي السابق في ائتلاف دولة القانون عزت الشابندر يرى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «ما حصل أمر مهم باختيار بديل للمالكي من داخل التحالف الوطني وبإرادة عراقية ودون إملاءات إيرانية وهو التغيير الذي حصل على دعم داخلي ودولي في غاية الأهمية» مشيرا إلى أن «المالكي حاول أن يغير المعادلة السياسية بالقوة عندما حرك الأجهزة الأمنية لليلة كاملة ومن ثم اضطر إلى اللجوء للقضاء لحسم الأمر الذي قضي لغيره». وبشأن ترشيح حيدر العبادي لخلافة المالكي فإن للشابندر وجهة نظر قد تبدو مختلفة عن وجهة نظره السابقة عن العبادي حين وصفه في لقاء تلفزيوني بألفاظ نابية حيث يرى اليوم أن «العبادي وإن كان حزبيا إلا أنه رجل مدني وهو من عائلة بغدادية وسوف ينفتح على الحياة المدنية وهو ما تتطلبه الظروف في الوقت الحاضر».

* العبادي والخروج من شرنقة الصفقة الواحدة

* للمرة الأولى في تاريخ العملية السياسية في العراق تأتي الرئاسات الثلاث طبقا إما لتسويات أو انقلابات داخل الكتل السياسية الرئيسة (الشيعية والسنية والكردية) التي تنتج الرئاسات الثلاث.
ففي الدورتين البرلمانيتين الماضيتين كان يجري انتخاب الرئاسات الثلاث طبقا لسلة أو صفقة واحدة بحيث يجري التصويت على الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والبرلمان والوزراء) عبر سلة واحدة يتفق عليها بين الزعامات السياسية العليا بحيث تأتي «الطبخة» جاهزة أمام البرلمان الذي يتعين عليه التصويت على الثلاثة معا. لكن في هذه الدورة اختلف الأمر. فالكتلة السنية التي ترشح رئيس البرلمان لم تنسق مع كتلتي الشيعة والكرد بشأن ذلك. بل تمت عملية الاختيار بانتخاب داخلي وهو ما أفرز سليم الجبوري (دكتوراه في القانون) ليتولى منصب رئيس البرلمان. والأمر نفسه حصل لكتلة التحالف الكردستاني التي اختارت عبر انتخابات داخلية فؤاد معصوم (دكتوراه في الفلسفة الإسلامية) رئيسا للجمهورية. أما ما حصل داخل الكتلة الشيعية فهو انقلاب داخل هذه الكتلة جرى بموجبه اختيار حيدر العبادي لأنه دون هذه الصيغة فإنه من غير الممكن أن ينجح نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون الذي يصر على أنه الكتلة الأكبر في البرلمان على تشكيل الحكومة من خلال عدم قدرته على نيل الثقة داخل البرلمان بسبب مقاطعة الكتل السياسية له. وطبقا لما يراه المراقبون السياسيون فإنه في الوقت الذي نجحت فيه الكتل السياسية ورغم الأزمة الخطيرة التي تمر بها البلاد بعدم تخطي المدد الدستورية الخاصة باختيار الرئاسات الثلاث بعكس ما حصل عام 2010 حين بقيت الجلسة البرلمانية الأولى مفتوحة لسبعة أشهر فإنها نجحت أيضا بأن يجري الاختيار من داخل كل كتلة ولكن بنوع من الانسجام الذي يمكن أن ينعكس على أداء هذه الرئاسات التي كانت تجربتها خلال الأربع سنوات الماضية سلبية جدا لا سيما العلاقة بين رئاستي الوزراء والبرلمان.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.