وقف البطل المغوار، سيف الله المسلول، خالد بن الوليد منذ ألف وثلاثمائة وثمانية وسبعين عاما ميلاديا بالتمام في وادي اليرموك يتفقد جيوش المسلمين والقلق يساوره أمام قوة الجيوش البيزنطية المرابطة أمامه، وإن كان الأمر لا يخلو من غصة داخلية بعدما قرر الخليفة الجديد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عزل هذا القائد الفذ الذي انكسرت قوات كسرى تحت لواء عبقريته وإيمان جنوده بالله سبحانه وبقدرات قائدهم، كما أنه الرجل الذي بعث به الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الشام.. «لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد»، على حد قوله، حيث استطاع أن يلحق بهم الهزيمة تلو الأخرى في معارك شهيرة بأرض الشام مثل «أجنادين» و«فحل» وفتح دمشق وغيرها.
ولكن هذا لم يكن يشغله بقدر ما كانت تشغله المسؤولية الجديدة الملقاة على عاتقه، فعلى الرغم من أن أبا عبيدة بن الجراح أو «أمين الأمة» كان الشخص الذي كُلف بقيادة جيش المسلمين وفقا لتوجيهات الخليفة، فإن المعركة كانت أكبر من القدرات العسكرية لهذا الرجل الرقيق والمقرب لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، فما كان منه إلا أن نظر لخالد الذي لم يتأخر عن فهم النظرة، فقال له بقوة وصلابة: «ابعث لأصحاب الرايات وقل لهم يسمعون مني»، وهكذا أصبح خالد هو القائد الفعلي لجيوش المسلمين قبل بدء هذا اليوم العصيب بساعات معدودات.
خلفية هذا اليوم تكمن في أن هرقل ملك بيزنطة كان مصرا على استعادة أجزاء كبيرة من الشام من قبضة المسلمين، فأعد لهم أربعة جيوش كبيرة ليستطيع أن ينفرد بكل جيش من جيوش المسلمين المتناثرة بالشام، كل على حدة. وعندما طلب بن الجراح المشورة، أصر سيف الله على أن يتم تجميع جيوش المسلمين ليكونوا قوة واحدة ضاربة، وقد استقر الرأي على ذلك، فبعث بن الجراح إلى قادة الجيوش الإسلامية؛ وهم: عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، للتمركز في السهل الموازي لنهر اليرموك، وسار جيش أبي عبيدة وخالد بن الوليد إلى هناك من حمص. وقد قسمت جيوش المسلمين إلى أربعة جيوش أساسية في مواجهة الجيوش الرومانية الأربعة، على نحو جديد يضم قلبين وجناحين، فعلى الميمنة كان جيش الداهية عمرو بن العاص، وفي الميسرة كانت القيادة ليزيد بن أبي سفيان ومعه كثير من بني أمية بمن فيهم والده أبو سفيان بن حرب وزوجته هند بنت عتبة، بينما تألف وسط المسلمين من جيش يقوده أبو عبيدة بن الجراح، وثان تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، وكانت القوة الإجمالية للمسلمين تصل إلى قرابة 40 ألفا، وفقا لتقديرات كثير من المؤرخين، منهم عشرة آلاف فارس.
وقد وضع سيف الله خلف جيشي الوسط «خيل الزحف» الذي تألف من قرابة أربعة آلاف فارس يمثلون خيرة فرسان المسلمين المنتقين، الذين يقودهم البطل الهمام ضرار بن الأزور الذي كان يحارب عادة عاري الصدر، وكان يفهم قائده خالدا بالنظرات. وكان هذا «الخيل» هو ما يمكن أن نصفه اليوم في العلوم العسكرية بـ«الاحتياطي الاستراتيجي»، تلك القوة التي تحتفظ بها الجيوش بوصفها آخر بديل يدفعون به لمواجهة الخصم عند التقهقر أو قبيل الانكسار.
ولكن ماذا عسى 40 ألفا أن يفعلوا أمام جحافل الروم التي قدرتها المصادر بما بين مائة وعشرين ومائة وخمسين ألفا؟ فلقد تجمعت الجيوش الأربعة وانتشرت على مساحة ممتدة تبلغ قرابة 18 كيلومترا، وكان القائد الروماني هو ماهان ملك أرمينيا وأحد المقربين من القيصر البيزنطي، الذي سيطر على القلب البيزنطي أمام جيشي أبي عبيدة ويزيد، وكانت ميسرته تتألف من جيش الصقالبة والأرمن تحت قيادة قائد ماهر هو قورين، بينما وقعت ميمنته تحت قيادة بطل آخر هو غريغوري، وفي هذه الظروف أصبحت ميسرة الجيش الإسلامي يحذوها نهر اليرموك، وهو ما حماها من أي محاولات للالتفاف من قبل العدو، بينما كانت ميمنة المسلمين بلا عائق مادي، وهنا أدرك خالد أن الميمنة هي مفتاح المناورة الحقيقي، وتفهم بعبقريته خريطة المكان كما هي عادته، وظل قليل الكلام في كل مجالس الحرب التي سبقت المعركة، مصدرا تعليماته بدقة شديدة دون الإفصاح عن خطته في أي لحظة، ولكن الثقة في نصر الله وسيفه كانت أكبر من أن يستفسر أحد عن كيفية حدوثه.
حقيقة الأمر أن المعركة كانت بكل المعايير غير متكافئة، وقد دارت بقوة شديدة خاصة عند ميمنة المسلمين، حيث أبلى عمرو بن العاص بلاء حسنا مع رجاله وتحملوا ضغوط الصقالبة والأرمن دون أن ينكسروا، ولكنهم بدأوا يتقهقرون أمام الأعداد الرومانية الممتدة، ولكنهم عادوا ليستعيدوا الأرض التي فقدوها.. وهكذا كانت حال جيوش المسلمين الأربعة وذلك على مدار الأيام الثلاثة الأول، ولكنهم عادوا لمواقعهم بعد التقهقر، والجميع ينظرون لخالد الذي لم يعبر عن أي شيء سوى مطالبته المسلمين بالصمود.
وقد كان اليومان الثالث والرابع أصعب الأيام بالنسبة للمسلمين، فلقد نزلت عليهم الجيوش البيزنطية بكل ثقلها، خاصة يزيد الذي اشتد عليه الضغط بسبب تقدم الرماة البيزنطيين، مما أدى لفقدان كثير من المسلمين أعينهم فيما عرف بـ«يوم التعوير»، فاضطر الرجل للتقهقر، ثم لصد الهجمات القاسية، ولكن جبهته انكسرت بشكل ملحوظ، فخرجت النساء خلف الفُرَّار ينهرونهم.
بعد أن اندلعت المعارك مرة أخرى، خرج المسلمون في هذا اليوم مهاجمين وليسوا مدافعين، وكان هدف خالد بن الوليد واضحا، فلقد بدأ تحركه المستتر بـ«خيل الزحف» نحو ميسرة العدو التي باتت أضعف نقاطه.
كما توقع خالد، فإن ميسرة العدو بدأ تنكمش تدريجيا وتسعى للهروب، وتلتها الجيوش الأخرى، وقد تعمد خالد أن يكون التطويق بشكل منظم ليسمح للجنود المنسحبين بالمرور من طريق واحد فقط كان يصب في هاوية جغرافية يعرفها جيدا.
وهكذا انهزم أكبر جيش بيزنطي أمام المسلمين. وتشير تقديرات المؤرخين إلى أن الهزيمة أدت إلى موت أو إصابة أو أسر ما يقرب من مائة ألف بيزنطي تقريبا، مقابل أربعة آلاف مسلم وجرح آلاف آخرين. وكانت هذه المعركة الفاصلة هي أكبر المعارك الإسلامية على الإطلاق، وكان نصرا استراتيجيا حاسما لم تستطع الإمبراطورية البيزنطية استرداد الشام بعده مرة أخرى.
شرق السودان... نار تحت الرمادhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%B9/5091458-%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D8%AD%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D8%A7%D8%AF
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.
حدود ملتهبة
تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.
وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.
وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.
لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.
12 ميليشيا مسلحة
من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».
وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.
ميليشيات بثياب قبلية
«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.
أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.
بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.
كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.
ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.
وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.
أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.
ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.
وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.
مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق
إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».
الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.
استقطاب قبلي
حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».
ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».
تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة
من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية
المسؤولية على «العسكر»
حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».
وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».
ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».
وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».
الدور الإقليمي
في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.
للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.
أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.
أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.
وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.